محاولات لشطب مخيم اليرموك
صحيفة القدس العربي من لندن ـ
د. فايز رشيد:
طالما بقيت المخيمات الفلسطينية .. فستظل شواهد النكبة قائمة. لذلك من الطبيعي أن تجري المحاولات واحدة بعد أخرى لمحو هذه المخيمات من الوجود. بالأمس كان تدميرمخيم نهر البارد الذي تم تهجير سكانه وجرى هدمه بشكل كامل.محاولات إعادة بنائه ما تزال قائمة وقسم صغير من أهله عاد إليه. الآن: مخيم اليرموك تجري محاولة لإزالته. المخيم هو أكبر مخيم للاجئين الفلسطينيين في سوريا، يسكنه قرابة المئة وعشرين ألفاً من أبناء شعبنا، وفيه يسكن أيضاً سوريون. على أطرافه: في الحجر الأسود وببيلا والست زبيب وغيرها من المناطق، تتواجد نسبة قليلة من الفلسطينيين وعدد أكبر من السوريين.
منذ بدء الأحداث في سوريا، حاولت الفصائل الفلسطينية ووجهاء المخيم إبقاء أهاليه على الحياد، وتجنيبه الأزمة للمحافظة عليه، وعدم الزج بساكنيه في أتون الصراع السوري. تفهمت كافة الأطراف المعنية بالصراع هذا الموقف، واستطاع المخيم أن يكون بؤرة استقطاب للاجئين السوريين من مختلف المناطق. أبناء شعبنا تقاسموا الرغيف مع إخوتهم السوريين. بقي هذا الوضع إلى أن قام مسلحو ما يسمى بالمعارضة بمحاولات الدخول إلى المخيم عنوةً وفي أكثر من حي، ذلك وسط رفض أهاليه، الأمر الذي أدى إلى تدخل قوات الجيش النظامي السوري، وحصلت اشتباكات ذهب ضحيتها العشرات من الفلسطينيين.
مؤخراً، دخل مئات بل آلاف من المسلحين إلى المخيم يجمعهم ما يسمى بــ’الجيش الحر’، وهؤلاء من جماعات إسلامية أصولية متطرفة من بينها جماعة النصرة التابعة للقاعدة، جماعة التوحيد، الجهاديون، صقور الجولان (من لاجئي الجولان) وغيرهم. هؤلاء استطاعوا التأثير على جماعات سورية من اللاجئين، وجماعات فلسطينية من حركتي فتح وحماس تعملان تحت اسمي زهرة المدائن، والعهدة العمرية. هؤلاء يقاتلون إلى جانب الجيش الحر وهذا ما أصبح معروفا لكل ساكني المخيم ومن يتواجد بالقرب منه. والحالة هذه تدخل الجيش النظامي السوري فجرى قصف أهداف المسلحين بوسائل عديدة منها الطائرات مما أدى إلى سقوط عدد كبير من الضحايا من بين أبناء شعبنا بين قتيل وجريح، وكذلك إلى هجرة أهالي المخيم عن بكرة أبيهم طلباً للسلامة.
فصائل المقاومة وإضافة إلى الوجوه وأعيان المخيم كانت قد شكّلت لجاناً أمنية من المواطنين، وهي غير مسلحة، للمحافظة على الأمن في المخيم. المسلحون داهموا مقرات الفصائل الفلسطينية في المخيم وقاموا بالعبث فيها وسرقة محتوياتها وإحراقها، ومنها مكاتب للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ومن قبل هوجمت مراكز للقيادة العامة ومعكسر تدريب تابع لها. الفصائل وبعد عقد اجتماعات عديدة تنسيقية فيما بينها حضرها مندبو المخيم، قررت الاتصال بالدولة وبالمسلحين، وهو ما تم فعلاً. الدولة تفهمت الوضع ووعدت بعدم تكرار القصف مطلقاً، وعدم الاشتباك مع المسلحين شريطة إخراجهم من المخيم، الاتصال والتفاوض جرياً أيضاً مع محركي المسلحين من الدول وكذلك ومعهم، لحثهم على الخروج. هم جماعات كثيرة مثلما قلنا. البعض استجاب وهم قلة لا تُذكر، والغالبية رفضوا الخروج وزادوا من تموضعهم وتمركزهم في المخيم، وابتدأوا عمليات القنص، وممن جرى قنصهم الشهيد غسان الشهابي وهو كاتب وناشر يشرف على دار الشجرة للنشر. الدار تعتني بالتاريخ والتراث الفلسطيني وتؤرخ للمدن والقرى الفلسطينية.
الغريب أن المسلحين الرافضين للخروج وعبر ممثلهم الرئيسي أبو توفيق (أحد قيادي جماعة النصرة) طالب المجتمعين معه بالضغط على مهجّري المخيم من أجل العودة إلى بيوتهم، ويبرر رفضهم للخروج بأنه تم تشكيل قيادة عسكرية جنوبية تتمركز في المخيم وأطرافه وهدفها الدخول إلى العاصمة السورية دمشق ويطلبون من الأهالي مساعدتهم في اسقاط النظام. من بين المسلحين باكستانيون وأفغان وعرب من جنسيات مختلفة، أفارقة مسلمون، كازاخستانيون وأوزباكستانيون وقرغيزيون من جمهوريات كانت تأتلف مع روسيا في ‘الاتحاد السوفييتي’. الأشد غرابه أن هؤلاء من الجنسيات الأخرى عُبؤوا بأنهم في دخولهم إلى دمشق سيكونون على أبواب القدس وسيقومون بتحريرها. معظمهم لا يتقن اللغة العربية ويجهل حقيقة الأزمة وكذلك لا يعرف ‘جغرافية’ سوريا ولا فلسطين ولا المنطقة. بالطبع عندما يسمع أهالي المخيم بوجود مسلحين فيه تنتزع من نفوسهم امكانية العودة الى المخيم، ولم يعد إليه سوى سكان قلائل من ساكنيه، أما في المعظم فما يزالون خارجه بعد تهجيرهم. الدولة من جانبها ونظراً لملابسات الوضع حاصرت المخيم، وتتحكم في مياهه وكهربائه، وإمداده طالما بقي المسلحون في أرجائه.
بالتالي ماذا يريد الأصوليون وحلفاؤهم من استمرار تمركزهم في المخيم؟ أيريدون إزالته عن الوجود؟ أيريدون إبعاد أهله عنه نهائياً؟ إذ لا مبررات لاستمرار بقائهم فيه، وبخاصة أن أهله لم ولن يتدخلوا في الأزمة السورية. محاولة إزالة المخيم وإبقاء أهله في التهجير تلتقي مباشرة أو بطريق غير مباشر مع المحاولات الصهيونية-الأمريكية-الغربية لمحو تعبير ‘اللاجؤون الفلسطينيون’ وتصب في مجرى تصفية القضية الفلسطينية وتُلحق أفدح الضرر بالمشروع الوطني الفلسطيني والحقوق الوطنية لشعبنا.
على صعيد آخر يروج هؤلاء بأن النظام السوري على شفى الانهيار ويعيش لحظاته الأخيرة، وأن الرئيس الأسد مرعوب ومكتئب ويبحث عن ملجأ وغير ذلك من القضايا. الجيش السوري ما يزال متماسكاً وقوياً، ووفقاً للأنباء فإن الجيش السوري وحتى اللحظة لم يستعمل سوى 20′ من قواته، فله حساباته بإمكانية التدخل العسكري الأجنبي وبخاصة الإسرائيلي في شؤونه. الرئيس الأسد بدا في خطابه في دار الأوبرا متماسكاً وقوياً وينطلق من موقع المتحكم في الصراع، وقام في خطابه بتقديم مبادرة سياسية.
سوريا لم تكن مدينة لأحد مطلقاً، وهي قادرة على الاستمرار وبالإمكانيات الذاتية للصمود فترة طويلة رغم حرق العديد من (إهراءات) تخزين القمح. الاقتصاد السوري ما زال قوياً، ويلقى الدعم من إيران (قرض إيراني جديد بفوائد ميسرة يبلغ مليار دولار) وروسيا والصين وغيرهما. الحياة وسط العاصمة دمشق وفي مدن سورية أخرى تبدو طبيعية، والليرة السورية محافظة على قيمتها (بعد الانخفاض في سعرها بسبب الأزمة)، والنظام له جماهيره الواسعة. المعارضة الداخلية تدعو إلى الحل السياسي وتقف ضد عسكرة الأزمة وتدويلها. الصراع في سوريا لن يجري حلّه إلا من خلال طاولة الحوار، والحوار فقط.
يبقى القول: أن المحاولات الجارية لزج اللاجئين الفلسطينين عموماً وبشكل خاص سكان مخيم اليرموك في الصراع في سوريا، سوف يؤدي إلى شطب هذا المخيم، وذلك لتمرير التسوية الأمريكية الأسرائيلية في تصفية القضية الفلسطينية. يجيء ذلك في الوقت الذي يعزز فيه اليمين المتطرف واليمين الأكثر تطرفا من مواقعه في الكيان الصهيوني. سياسة شطب المخيمات الفلسطينية ومنها مخيم اليرموك تتماهى مع سياسة محو وتفتيت الدول العربية الى دويلات: طائفية، مذهبية واثنية تحترب فيما بينها لصالح محو وانهاء الصراع العربي الصهيوني.