محاكمة الاحتلال الإسرائيلي أمام القضاء الدولي
موقع قناة الميادين-
حسن نافعة:
لا يجب أن ننسى أبداً أنّ الفتوى المتوقع صدورها عن محكمة العدل الدولية بشأن شرعية الاحتلال الإسرائيلي، على أهميتها، لن تنهي هذا الاحتلال، ولن تغير من الأمر الواقع شيئاً.
شهدت اللجنة الرابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة “لجنة المسائل السياسية الخاصة وإنهاء الاستعمار”، في جلستها المنعقدة يوم 11 نوفمبر/تشرين الثاني الحالي، معركة دبلوماسية حامية الوطيس بين الدول الداعمة للقضية الفلسطينية والدول الأخرى المعادية لهذه القضية، وعلى رأسها “إسرائيل” والولايات المتحدة، اللتان تسعيان بكل الطرق لتصفية هذه القضية نهائياً وشطبها من جدول أعمال المؤسسات الدولية.
في هذه الجلسة، تعيَّن على اللجنة الرابعة مناقشة جملة من مشروعات القرارات المتعلقة بجوانب مختلفة من القضية الفلسطينية، بعضها يمسّ أموراً روتينية لا تثير في العادة خلافات تُذكر بين الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، كالأمور المتعلقة بأنشطة الوكالة الدولية لغوث اللاجئين الفلسطينيين أو برنامج المساعدات المقدم لهؤلاء اللاجئين أو الإجراءات المطلوبة للحفاظ على ممتلكات الفلسطينيين…
وقد حظيت عند التصويت عليها بأغلبية ساحقة، تراوحت بين 162 و165 صوتاً، لكن كان من بينها مشروع قرار جديد يستهدف الحصول على فتوى من محكمة العدل الدولية حول الآثار القانونية المترتبة على استمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، وهو المشروع الذي عارضته بقوة “إسرائيل” والولايات المتحدة الأميركية، اللتان مارستا ضغوطاً هائلة على بقية الدول الأعضاء في الأمم المتحدة للحيلولة دون تمريره، غير أنَّ هذه الضغوط لم تفلح، وأمكن تمرير المشروع وتبنيه، وإن بأغلبية أقلّ كثيراً من تلك التي حصلت عليها مشروعات القرارات الأخرى المتعلقة بالقضية الفلسطينية، فقد صوّت لمصلحته 98 دولة، وامتنعت عن التصويت عليه 52 دولة، فيما عارضته 17 دولة، وهي نتيجة مهمة بالنظر إلى شراسة الضغوط الأميركية والإسرائيلية التي بذلت لإسقاط هذا المشروع.
كان من اللافت للنظر هنا امتناع معظم الدول الأوروبية، الشرقية منها والغربية، عن التصويت على هذا المشروع، كما كان لافتاً للنظر أيضاً أن تكون أوكرانيا من بين قلة من الدول الأوروبية التي تصوّت لمصلحته، ما أثار غضب “إسرائيل” ودفعها إلى توجيه انتقادات لاذعة إليها، وتم استدعاء السفير الأوكراني في “تل أبيب” لتوبيخه وتقديم احتجاج إسرائيلي رسمي، من منطلق أنه تصويت “لا يتسق مع العلاقات الطيبة التي تربط بين البلدين على مختلف المستويات”.
ورغم عدم حصول مشروع القرار هذا على الأغلبية الكاسحة نفسها التي حصلت عليها بقية مشروعات القرارات الأخرى المتعلقة بالقضية الفلسطينية، والتي نوقشت في اللجنة نفسها، فإنَّ اعتماده وتبنّيه يعد انتصاراً دبلوماسياً مهماً لفلسطين والمجموعة العربية في الأمم المتحدة، بالنظر إلى حجم الضغوط الأميركية والإسرائيلية التي بذلت للحيلولة دون إقراره.
صحيح أنَّ هذا الإقرار لا يعدّ نهائياً، لأنه يتعين عرض كل القرارات التي تتخذها اللجان المختلفة للمناقشة والإقرار النهائي في الجلسات العامة للجمعية، ومن المقرر أن تناقش توصية اللجنة الرباعية حول هذه الموضوع في جلسة عامة للجمعية العامة للأمم المتحدة من المقرر أن تعقد خلال النصف الأول من شهر كانون الأول/ديسمبر القادم، غير أنه لا يتوقع أن تغير الدول التي صوّتت لمصلحته في اللجنة رأيها، وأن تصوّت ضده أو تمتنع عن التصويت عليه في الجلسة العامة. لذا، من المؤكد أن يتم إقراره نهائياً من جانب الجمعية العامة للأمم المتحدة بالأغلبية نفسها التي حصل عليها في اللجنة الرابعة.
ولأنَّ ميثاق الأمم المتحدة، وكذلك النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية، يلزمان الجهة الطالبة للفتوى صياغة الموضوع المستفتى فيه في صورة أسئلة قانونية محددة، فقد حرصت اللجنة الرابعة التي ناقشت هذا الموضوع على أن يكون طلب الفتوى متضمناً مسألتين قانونيتين محددتين:
المسألة الأولى: تتعلّق بماهية الآثار القانونية المترتبة على انتهاك “إسرائيل” حقّ الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، وعلى احتلالها الأراضي الفلسطينية منذ عام 1967، وعلى إقدامها على استيطان بعض هذه الأراضي وضمها، بما في ذلك التدابير التي استهدفت تغيير البنية الديموغرافية والطابع الخاص لمدينة القدس، واعتمادها تشريعات وإجراءات تمييزية في هذا الشأن.
المسألة الثانية: تتعلَّق بتأثير مجمل السياسات والممارسات التي تنتهجها “إسرائيل” في الوضع القانوني للاحتلال، وما يترتب على هذا الوضع الاحتلالي من آثار بالنسبة إلى جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، وبالنسبة إلى الأمم المتحدة نفسها.
وسيتعيَّن على السكرتير العام للأمم المتحدة، عقب صدور القرار النهائي عن الجمعية العامة في كانون الأول/ديسمبر القادم، أن يخطر مسجّل محكمة العدل الدولية كتابةً بفحوى هذا القرار، متضمنةً الأسئلة القانونية المطلوب من محكمة العدل الدولية تقديم إجابة وافية عنها من منظور ميثاق الأمم المتحدة والقوانين والأعراف الدولية، وأن يحيل إليه في الوقت نفسه كل الوثائق الموجودة في حوزة الأمم المتحدة، والتي من شأنها إلقاء الضوء على القضايا موضوع الفتوى.
بدوره، سيتعين على مسجّل محكمة العدل الدولية، وفقاً لنص المادة 66 من النظام الأساسي للمحكمة، إخطار كل الدول والمنظمات التي يحق لها المثول أمامها ومطالبتها بتقديم كل الوثائق والمستندات الموجودة في حوزتها المتعلقة بالمسألة موضوع النظر، أو الاستماع إلى شهادتها شفهياً إن أرادت وأقرّت المحكمة ذلك.
تجدر الإشارة هنا إلى أنَّ محكمة العدل الدولية لن تناقش اختصاصها بالنظر في هذه المسألة، لأن المسألة لا تتعلق هنا بنزاع دولي يتعيَّن على المحكمة أن تفصل فيه، إنما بفتوى قانونية يحق للجمعية العامة، وفقاً لنصوص ميثاق الأمم المتحدة، أن تطلبها من المحكمة، ومن ثم تصبح الأخيرة ملزمة قانوناً بإصدار الفتوى المطلوبة من دون الحاجة إلى البحث في اختصاصها من عدمه.
وقد نصّ القرار الذي أصدرته اللجنة الرابعة للأمم المتحدة على أنه “يستند إلى المادة 96 من ميثاق الأمم المتحدة، والمادة 65 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية، وإلى قواعد القانون الدولي ومبادئه، بما في ذلك ميثاق الأمم المتحدة، والقانون الدولي الإنساني، والقانون الدولي لحقوق الإنسان، وقرارات مجلس الأمن، والجمعية العامة، ومجلس حقوق الإنسان ذات الصلة، وفتوى محكمة العدل الدولية المؤرخة في 9 تموز/يوليو 2004”.
وطالب السكرتير العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، بأن “يقدم للجمعية العامة في دورتها الـ78 تقريراً عن متابعة تنفيذ ما ورد فيه، على أن يتضمن هذا التقرير توضيحاً لمدى التزام إسرائيل تطبيق نصوص اتفاقية جنيف الرابعة على الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس، وعلى الأراضي العربية الأخرى المحتلة أيضاً”.
وكانت الجمعية العامة للأمم المتحدة قد طلبت من محكمة العدل الدولية عام 2003 فتوى عن مدى قانونية الجدار الذي أقامته “إسرائيل” على الأرض الفلسطينية، والذي اشتُهر باسم “جدار الفصل العنصري”. وفي شهر تموز/يوليو 2004، أصدرت المحكمة فتواها التاريخية بعدم شرعية هذا الجدار، وطالبت بهدمه وتفكيكه، وقضت أيضاً بأحقية الفلسطينيين قانوناً بالحصول على تعويض عن الأضرار التي لحقت بهم نتيجة تشييده.
ولأنَّ هذه الفتوى بالذات تعرَّضت في حيثياتها للعديد من الجوانب المتعلقة بالوضع القانوني للأراضي الفلسطينية المحتلة، فسوف يكون من السهل على المحكمة أن تثبت في فتواها الجديدة المتوقعة عدم شرعية الاحتلال الإسرائيلي لهذه الأراضي، ومخالفته الصارخة للقانون الدولي، ووجوب تمتّع الشعب الفلسطيني بحقّه المشروع في تقرير مصيره، غير أن ذلك لا يعني أن المعركة التي ستدور رحاها في أروقة محكمة العدل الدولية ستكون سهلة.
صحيح أنَّ الاحتمال الأكبر هو أن تقرر “إسرائيل” عدم المثول أمام المحكمة، وبالتالي مقاطعتها والامتناع عن تقديم أي وثائق أو مستندات للدفاع عن موقفها. ومع ذلك، من المتوقع أن تتولى الدول الصديقة لـ”إسرائيل” هذه المهمّة نيابة عنها.
لذا، على السلطة الفلسطينية أن تولي هذا الموضوع أهمية قصوى، وأن تستعين بكبار الخبراء والمحامين ورجال القانون والمنظمات الدولية غير الحكومية الناشطة في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان، فالمناقشة التي ستجري في أروقة محكمة العدل الدولية لمناسبة هذه الفتوى ستتيح فرصة عظيمة لإجراء محاكمة قانونية شاملة للاحتلال الإسرائيلي من جميع جوانبه أمام أكبر وأهم محكمة في العالم.
ولن يكون من الصَّعب أبداً جمع كل الوثائق اللازمة لإدانة هذا الاحتلال وإظهار طابعه العنصري، بدءاً بالقرارات الصادرة عن الجمعية العامة ومجلس الأمن، وكذلك تقارير المنظمات العاملة في مجال حقوق الإنسان ولجان تقصي الحقائق والمبعوثين الأمميين…
كان من الطّبيعي أن ترحّب الأوساط العربية ترحيباً حاراً بقرار اللجنة الرابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة طلب الفتوى من محكمة العدل الدولية حول الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، ومعها كلّ الحق في ذلك، لكن لا يجب أن ننسى أبداً أن الفتوى المتوقع صدورها عن هذه المحكمة، على أهميتها، لن تنهي الاحتلال الإسرائيلي، ولن تغير من الأمر الواقع شيئاً.
صحيح أنها ستقدم دعماً معنوياً وقانونياً كبيراً للحقوق العربية، وستؤكد عدم شرعية الاحتلال وبطلان إجراءاته داخل الأرض المحتلة، لكنها لن تستطيع انتزاع هذه الحقوق من مخالب الوحش الإسرائيلي. لذا، لا ينبغي أن يغيب عن نظرنا مغزى الحكمة القائلة إنَّ “ما أُخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة”، وإن المعارك الدبلوماسية التي ينبغي أن نخوضها في مختلف الساحات ليست بديلاً من المقاومة المسلحة التي هي الأساس والأصل.