ما وراء تمسّك #موسكو بشرقي #أوكرانيا
عبّاس الصبّاغ – الميادين نت
صحافي مُتخصّص بالشأنين اللبناني والأوكرني ، شارك في تغطيات ميدانية في لبنان وسوريا وأوكرانيا، حائز إجازات في العلوم السياسية والحقوق والقانون العام.
ما أعلنته موسكو عن إحباط عمليات إرهابية خطّطت لها الإستخبارات الأوكرانية يأتي ضمن الكِباش المُستمر بين الجارتين السوفياتيتين السابقتين روسيا وأوكرانيا. فالعلاقة المتوتّرة بين موسكو وكييف ليست وليدة الساعة بل هي مُلتبسة منذ عقود.
حتى في سنوات الاتحاد السوفياتي السابق كانت تظهر التباينات ولكن القبضة السوفياتية الصارمة كانت كفيلة بإحتوائها، ويذكر من عَاصَرَ تلك الفترة في القرن الفائت إن غرب أوكرانيا ومنذ الحرب الوطنية العُظمى (التسمية السوفياتية للحرب العالمية الثانية التي بدأت بحسب موسكو في 22 حزيران 1941 مع هجوم هتلر على الاتحاد السوفياتي)، إن غرب أوكرانيا أو ما يُعرف بمنطقة الكاربات (اللفوف وغيرها من المقاطعات المحاذية لبولونيا) لم يكن مُتحمّساً لقتال الجيش النازي الألماني، لا بل تعاون معه ضدّ الكرملين وليس العميل الشهير بانديرا إلا أحد أوضح صوَر ذلك التباين بين موسكو وغرب أوكرانيا، عدا عن أن كييف لا تزال تتّهم موسكو وتحديداً الزعيم السوفياتي الراحل جوزف ستالين بالتسبّب بوفاة مئات آلاف الأوكرانيين مطلع ثلاثينات القرن الماضي بسبب السياسة الاقتصادية للكرملين ما ساهم (بحسب كييف) في تجويع الأوكران وهلاكِهم.
هذا التذكير يُفسّر ما شهدته كييف في شتاء العام 2014 وليس رفع صوَر بانديرا ومن ثم إطلاق إسمه على أحد الشوارع في كييف عوضاً عن إسم جنرال سوفياتي كان من أبطال الحرب الوطنية العُظمى، إلا انعكاساً للتوتّر التاريخي المُستتر بين الجمهوريتين السلافيتين. ومع ظهور القطاع الأيمن الأوكراني ( البرافي سيكتر) بزعامة ديمتري ياراش المرشّح السابق للإنتخابات الرئاسية في مواجهة الرئيس الحالي بيتر باراشنكا، تمأسَسَ الخلافُ بين الدولتين العضوتين في رابطة الدول المُستقلّة ( تأسّست عام 1991 بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وتضم جمهوريات الاتحاد السوفياتي بإستثناء دول البلطيق الثلاث وجورجيا، علماً أن أوكرانيا هدّدت بتجمّد عضويّتها في الرابطة قبل عامين). وهذا القطاع الأيمن كان الأكثر فاعلية في الميدان الذي شهد إنقلاباً على حليف موسكو الرئيس فيكتور يانوكوفيتش وارتكب أكثر من مجزرة في شرق وجنوب أوكرانيا، أبرزها مجزرتا أوديسا و ماريبول ( في 2 و9 أيار 2014)، وساهم بالإطاحة بيانوكوفيتش بدعم غربي واضح وخصوصاً من ألمانيا وفرنسا ومعهما الولايات المتحدة الأميركية عندما تنصّلوا من مفاعيل اتفاق 21 شباط 2014 ومهّدوا لإقصائه عن السُلطة وتسليم اليمين الراديكالي مقاليد الحُكم في كييف ما استدعى رداً روسياً سريعاً. وبعد أقل من شهر وتحديداً في 16 آذار عندما صوّت سكان شبه جزيرة القرم على الإنضمام إلى روسيا، وبعدها لحقت دانيتسك ولوغانسك بالقرم لكن من دون الوصول إلى إعلان الإنضمام إلى روسيا على الرغم من التصويت في استفتاء 11 أيار وبنسبة فاقت ال90 في المئة لصالح الاستقلال عن كييف وإعلان جمهورية نوفا روسيا ( روسيا الجديدة).
أمام هذه المحطّات ماذا تحمل الفترة المُقبلة من تطوّرات؟
يبدو جلياً أن موسكو التي ركنت إلى نتائج استفتاء القرم مُرتاحة لعدم تطرّق أي من حلفاء كييف إلى هذه المسألة، وهناك غياب شبه كامل عن إثارة هذه المسألة وحتى تركيا التي خاضت قبل أكثر من قرن ونصف القرن حروب القرم كحامية للتتار ( السكّان الأصليين لشبه الجزيرة قبل أن يهجّرهم ستالين إلى سيبيريا وتتارستان)، ولم تُثِر أنقرة مسألة القرم في أي لقاء مع الروس سواء قبل إسقاط السوخوي في تشرين الثاني الفائت أو بعده. وأكثر من ذلك لم يلقَ الزعيم التتري جميلييف أي اهتمام لدى استنجاده بأنقرة لإعادة القرم إلى أوكرانيا، علماً أن شبه الجزيرة كانت ضمن جمهورية روسيا الفيدرالية الاشتراكية السوفياتية قبل أن يهديها الزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف لكييف عام 1956. وتجدر الإشار إلىة أن شبه الجزيرة تضم قاعدة أسطول البحر الأسود الروسي وكان يانوكوفيتش جَهَد لتمديد عقد الإيجار لموسكو في قاعدة سيفاستوبول حتى العام 2017.
تبدو موسكو غير مُستعدّة وتحت أي ظرفٍ للتخلّي عن القرم وأمن شبه الجزيرة، كما فعلته تماماً مع جورجيا صيف 2008 عندما استعادت أوسيتيا وأبخازيا بعملية عسكرية وصلت فيها دبّاباتها إلى تخوم العاصمة الجورجية تبيليسي ( الدبّابات الروسية كانت على بعد 40 كيلومتراً من العاصمة في آب 2008 ). كما أن شبه جزيرة القرم حرّرت موسكو من مزاجية كييف في التجديد لعقد إيجار قاعدة سيفاستوبول إضافة إلى موقع شبه الجزيرة الإستراتيجي على البحر الأسود كمحطّة أساسية على الطريق الروسية التاريخية إلى المياه الدافئة، ومن غير المتوقّع أن تكتفي موسكو بذلك.
في المدى المنظور تسعى عبر دعمها لقوات الدفاع الشعبي في الدونباس شرق أوكرانيا ( دانيتسك ولوغانسك) إلى تثبيت الإنفصال عن كييف وعلى أمل أن تنتقل العدوى إلى مقاطعات أوكرانيا الشرقية والجنوبية مثل زاباروجيا وخيرسون وأيضاً خاركوف وأوديسا، لتضمن موسكو إنفصال شرق وجنوب أوكرانيا بأكملهما عن كييف. وتضمن بالتالي انحسار سلطة كييف على المناطق غرب نهر الدنيبر الذي يفصل البلاد إلى شرقية وغربية.ولا تتراجع موسكو أيضاً في الفترة القريبة عن إستعادة مدينة ماريبول على بحر آزوف ( بحر مُغلق بين روسيا وأوكرانيا) وهي ثاني أكبر مدينة في مقاطعة دانيتسك وثاني أهم مرفأ أوكراني بعد أوديسا على البحر الأسود.
يشهد شرق أوكرانيا تثبيت الإنفصال عن كييف عبر إجراء إنتخابات برلمانية في تشرين الثاني المُقبل على الرغم من مُعارضة كييف التي لا تزال تعتبر الدونباس جزءاً من أراضيها، فاستوردت السلاح من واشنطن وأجرت تدريبات مع الجيش الأميركي لتوجيه رسائل إلى الكرملين والتأكيد أن كييف حليفة حلف شمال الأطلسي في الخاصرة الروسية، وستواظب على إظهار تنصّل الونباس من إتفاق مينسك فيما الواقع يؤكّد أن البرلمان الأوكراني لا يزال حتى تاريخه يرفض إصدار قانون يمنح فيه الدونباس وضعاً خاصاً أقرب إلى الحكم الذاتي بحسب ما نصّ عليه إتفاق مينسك الموقّع في 15 شباط عام 2015 من كل من روسيا وألمانيا وفرنسا وأوكرانيا.