ما بين عرسال وجرودها.. ماذا يفعل الجيش؟
يُحكى عن جندي في الجيش اللبناني يخدم في أحد الألوية العسكرية المنتشرة في الشمال أنه كان دائم الشكوى والتذمر أمام عائلته من نمط الخدمة، إلى حد إنذارهم مرات عدة بتقديم طلب التسريح وترك الجيش. كان والد الجندي يُجبر نجله الوحيد على البقاء في المؤسسة العسكرية. عند بدء الهجوم الإرهابي على عرسال، تم إختيار الجندي المذكور للإلتحاق مع عدد من رفاق السلاح بالوحدات التي إستُقدمت لقتال الإرهابيين. شعر والده بالقلق والذنب خصوصاً انه كان أجبر ابنه الوحيد على البقاء في المؤسسة العسكرية. جرى الاتصال به هاتفياً بعد طول إنتظار، فطلب الوالد منه تقديم الإستقالة كما يشاء. لكن جاء جواب الجندي لوالده: “لقد غيّرت رأيي. لن أستقيل بعد اليوم، لا أرضى الخروج من هنا الا حين يحسم الجيش المعركة، لن نترك الإرهابيين يستبيحون أرضنا و عرضنا”. شعر الوالد أنّ لدى ابنه مخزوناً دسماً من المعنويات العالية لم يلحظها من قبل.
لم تكن تلك الواقعة وحيدة. يتداول المطلعون ما حصل مع العسكريين. كانوا يندفعون نحو القتال، يتسابقون لضرب القذائف حين تأتي الأوامر. يستحضرون بطولة المقدم نور الدين الجمل الذي إندفع إلى مقدمة عسكرييه وصعد الى الملاّلة العسكرية لإطلاق النار على الإرهابيين المهاجمين، لكنهم أصابوه في وجهه ورقبته فأردوه على الفور وسقط شهيداً. كان بإمكان الجمل الهروب مع عسكرييه لكنه أبى وإختار المواجهة والى جانبه رفاق السلاح. قاتلوا بأسلحة متواضعة نسبة الى المعدات التي يمتلكها الإرهابيون في “داعش” و “النصرة”.
يتحدث العسكريون عن إستبسال الجندي حسين توفيق حمية الذي واجه بصلابة قلّ نظيرها هجوم مئات “الداعشيين” على موقع الجيش. يُحكى أنّ حمية المعروف عنه قدرته البدنية العالية ومهاراته القتالية واصل إطلاق النار على المهاجمين حتى سقط شهيداً. اعتاد عليه رفاق السلاح شرساً في الهجوم والدفاع كما برهن في معارك عبرا. بعد إستشهاده أطلق رفاقه المدفعية على الإرهابيين مرات عدة تحية لروحه.
إستطاع العسكريون صد أعنف هجمات الإرهابيين. كان المخطط يقضي بالتمدد بعد عرسال. لكن ماذا حصل؟ إستوعب الجيش الصدمة الأولى ونجح سريعا في إستعادة مواقعه و محاصرة الإرهابيين.
لم تكن المواقع المنتشرة في جرود عرسال ذات قيمة عسكرية مهمة. كانت عبارة عن حواجز لا ترتقي الى مستوى مواقع أمامية دفاعية. لكن بعد صمود الجيش وإستعادتها، تمّ تحت النار بناء قوات دفاعية للمرة الأولى قادرة على جبه أي إعتداءات. هذا أحد أبرز إنجازات الجيش خلال حرب عرسال.
فرض نجاح الجيش طلب الإرهابيين التفاوض، بعدما كانت أهدافهم مفتوحة لا تقف عند حدود تمدد جغرافي ولا طموحات توسعية وتسليحية وفتح جبهات وإعلان إمارات وضم عرسال الى دولتهم “الإسلامية الداعشية”، إضافة الى اطلاق زعيمهم عماد جمعة.
قبلت المؤسسة العسكرية بالتفاوض عبر “هيئة العلماء المسلمين” لإطلاق المخطوفين. لكن الإرهابيين اتخذوا المناورة سبيلاً للخروج من عرسال. جهّلوا مصير عدد من العسكريين المخطوفين. بدا السبب الأساسي إدخال لبنان بإستنزاف التفاوض للمقايضة لاحقاً على ملفات أخرى. المشهد يذكّر بما كان يفعله “ابو ابراهيم” أيام مخطوفي أعزاز. لماذا؟
يردد المسلحون أمام “هيئة العلماء” أنّ الجرود ما بين لبنان وسوريا مفتوحة أمامهم، يستطيعون البقاء فيها طويلاً، لكن عبر أجهزة اللاسلكي كان عددٌ منهم يتوعد بالعودة لإستهداف الجيش اللبناني لاحقاً.
بدا أنّ المعركة ستكون في الجرود. من يسيطر عليها؟ السوريون يستهدفون المسلحين في تلك الجرود عبر الطائرات. و عناصر “حزب الله” جاهزة على طول المناطق البقاعية ترصد أي تحركات في السلسلة الشرقية. لكن ماذا عن الجيش اللبناني؟
جبهة عرسال الجردية ستبقى مفتوحة. لن يستطيع الإرهابيون التخلي عن منفذ عرسال. على الأقل يتزودون من البلدة بالمواد الغذائية والطبية وربما مواد أخرى مهربة، ما يعني حُكماً المواجهة.
بعد التجربة الأخيرة تبين أن الجيش اللبناني لا تنقص أفراده القدرة والشجاعة والحنكة العسكرية، بدليل صد تمدد “داعش” وإستعادة المواقع العسكرية. في العراق مثلا امتدت داعش الى الموصل خلال ساعات. لكن ما ينقص المؤسسة العسكرية اللبنانية هو التسليح والمعدات المتطورة. قيل أن الذخيرة كانت قليلة في عرسال ولأجل ذلك طلب قائد الجيش المساعدة.
من الضرورة تأسيس لواء مقاتل يضم وحدات وسرايا دفاعية وهجومية وذات قدرات تسليحية حديثة ببنادق ومدافع متطورة وطائرات للدفاع عن حدود لبنان. للمدفع 155 فضل كبير رُصد في تقدم الجيش في محيط عرسال. ظروف المعركة في الجرود والحدود تفرض ذلك. الحرب لن تنتهي طالما الأزمة في سوريا قائمة و”داعش” على قيد الحياة.
قد يبدو سريعاً واجب تطويع آلاف العسكريين. ما بين التسليح والتطويع قوة للمؤسسة العسكرية في ظروف لا ينفع فيها إلا الوقوف خلف الجيش. يكفي اللبنانيين فخراً أن جيشهم واجه عناصر إرهابية وأوقف تمددها، وأجبرها على الرضوخ والهروب، والأهم أن نقطة دم واحدة من المدنيين لم تسقط بسلاح الجيش في عرسال.
عباس ضاهر – موقع النشرة الإخباري