ما بعد حلب .. أدهى وأمرّ!
موقع إنباء الإخباري ـ
بقلم حسن شقير:
أربع من المفردات ، كانت قد حكمت التدخل التركي في الشمال السوري في الصيف الماضي ، والتي حددتها في حينه – وضمن مقالة “ الخصوم والحلفاء أمام التدخل التركي”- ب : العوائد ، الحوافز ، الروافع والبراغماتية ، والتي تُعنى بها – وعلى التوالي آيضاً – كل من تركيا، إيران ، أمريكا وروسيا .
منذ ذلك اليوم ، ولغاية كتابة هذه السطور ، لم تنزاح قواعد الإشتباك في ريف حلب الشمالي الشرقي ، عن السير بظلال تلك المحددات الأربع لتلك الرباعية الدولية ، لا بل أن التطورات الميدانية في تلك البقعة الجغرافية من سوريا ، خدمت – وبشكل حثيث – ذاك “ الإتفاق التركي – الروسي “ ، والذي أفصحت عنه روسيا مؤخراً ، وذلك كان في معرض اعتراضها على حديث أردوغان ، حول الأهداف الحقيقية للتدخل التركي في سوريا ، والذي سرعان ما سارع أردوغان إلى بعث رسائل التطمين والإلتزام إلى ثنائي الرباعية أعلاها ، وهما روسيا وإيران .
ولكن ، ومع تمدد بقعة الزيت التركية – وبسلاسة – في الشمال السوري ، على حساب داعش ، ومع وصولها إلى مدينة الباب ، والتي يقف الجيش السوري على أعتابها من جهة الجنوب والغرب ، ومع كثرة الحديث حول مدى السماح الروسي لتلك البقعة بأن تتمدد نحوها ، ومع تأكيد أردوغان المتكرر ، بأن قواته ومن تدعمهم سيتجهون بمسار محدد نحو الباب ، ومن ثم شرقاً نحو منبج ، وصولا ً إلى الرقة ، وليس غرباً نحو حلب ، جازماً بأن هذه الأخيرة ، هي “ لأهلها “ ، ومع حصول الإستهداف السوري لقوات “ درع الفرات “ المدعومة تركياً ، ومن على تخومها ، ومع جزمِ كثرٍ من الدائرين في فلك الممانعة ، بأن تركيا تبلغت من كلٍ من إيران وروسيا ، بأن إقترابها من مدينة الباب ، لهو من المحرّمات ، وذلك نظراً لقربها من حلب … ومع كل هذا وذاك ، ومع حسم الجيش السوري وحلفائه لمعركتهم في حلب ، سارعت تركيا إلى الدخول عبر درعها إلى تخوم تلك المدينة ، مُسقطةً كل تلك الخطوط الحمراء التي حُكي عنها ، ولتعيد معها تحديد الأولويات ، ورسم السياسات التركية الجديدة في سوريا برمتها ، ودائماً ضمن سياسة الرقص على أوتار الحلفاء والخصوم معاً .
لم أكن لأتفاجئ بهذا التمدد التركي نحو مدينة الباب ، وذلك منذ أن وقف الجيش السوري على أعتابها ، وذلك بعيد اندفاعته ، بعد التدخل الروسي المباشر في سبتمبر من العام ٢٠١٥ ، وذلك كون تلك المدينة ، كان يفترض بها أن تُشكل المقدمة – الأساس “ للإصبع الثالث “ للجيش العربي السوري في الشمال السوري ، وذلك ضمن استراتيجية العزل والحصار ، بواسطة أصابع أربع ، بغية حصار المجموعات المسلحة ضمن زوايا ثلاثينية الدرجة ، رأسية في القلب السوري ، وفتحاتها على الحدود مع تركيا والعراق .. ( أوردت هذه الإستراتيجية ضمن مقالة : روسي وسوريا ، واستراتيجية العزل والحصار في السياسة والميدان .. نُشرت بتاريخ ٢٦-٠١-٢٠١٦)
ولم أكن لأتفاجئ بهذا الولوج التركي فيها ، بعد تطورات تكسّر ما سميت بملحمة حلب الكبرى ، على أعتاب ضاحية الأسد ومنيان ، والتي كانت إيذاناً ببداية سقوط الحلم التركي بفك الحصار عن مسلحي الشرق الحلبي ، ليخرج بعدها أردوغان ، معلناً بأن “ حلب لأهلها “ ، وأن “درعه “ سيتوجه من الباب شرقاً ، وليس غرباً ، وكما أسلفنا.
لقد خالفت الكثير من الزملاء الكتاب المحترمين ، من خلال إعتقادي بأن السيطرة على الأحياء الشرقية لمدينة حلب ، هي المفتاح الأساس ، بالنسبة لسوريا ، وليس مدينة الباب ، وذلك عندما عالجت الأبعاد الإستراتيجية للمعارك الحاصلة في الشمال السوري ، وذلك بعد التدخل التركي ، معتقداً بأن تلك االأحياء ، هي التي ستُشكل بيضة القبان ، بالنسبة لصراع الحصار في أرض الشمال ، كون السيطرة السورية عليها ، سيجعل منها، ومع نظيراتها الغربية ، وتلك المناطق الواقعة في ريف المدينة الشرقي ، إلى ما قبل مدينة الباب ، سيجعلها مساحةً جغرافية وازنة ، ستعمل على ترميم الضلع الثاني للزاوية الإرهابية الأولى في إدلب ، وذلك من أرياف حلب الجنوبية – الغربية ، وصولا ً إلى الشمالية منها ، كون ضلعها الأول شبه مكتمل في ريف اللاذقية الشمالي .
إنطلاقاً من هذه الرؤية أعلاها ، فإن مدينة الباب خضعت ، وستخضع لاحقاً لقواعد اشتباك بين الثلاثي الرئاسي أردوغان وبوتين ومعهما الرئيس الأمريكي ترامب ، وذلك على أعتابه دخوله إلى البيت الأبيض .
– أولا ً : الباب وأردوغان : لعله ، من المفيد التذكير به ، بأن أمريكا في خريف العام ٢٠١٤ ، كانت قد أغوت تركيا وأغرتها فيما يتعلّق بهدف أردوغان المركزي في الشمال السوري ، وذلك في سعيه لإقامة المنطقة العازلة ، إلا أنه ، ومع الترغيب ، وربما التهديد الأمريكي ، إنحدر بهدفه ذاك ، نحو ما سماها بنفسه ب “ المنطقة الأمنة “ ، والتي – من حينه – ، وحتى اليوم ، لا تكاد تمرُ مناسبة ً ، إلا ويتعهد – أي آردوغان – إلا ّ بإقامتها.. محدداً مساحتها ، بحوالي الخمسة ألاف كلم مربع ، والتي تضم كلا ً من جرابلس ، الراعي ، أعزاز ، نزولا ً نحو الباب ، وشرقاً نحو مدينة منبج .
إذاً ، وضمن هذا الحيز الجغرافي الواسع ، سيسعى أردوغان إلى تحقيق ما يصبو إليه ، مع مفارقة مهمة ، بأن هذه المنطقة ، سيجعل منها أردوغان ، كارتاً إضافياً يدغدغ به الآوروبيين من جهة ، وأمريكا الترامبية من جهة ثانية ، والتي ستكون سعيدة ، في وقف تدفق اللاجئين عند المدى الأوروبي الحالي ، وألا يتسع لاحقاً إلى المدى الآمريكي ، وذلك وفقاً للرؤية الديمقراطية المعاكسة لرؤية ترامب ، وعليه فإن المايسترو الأمريكي سيتحرّك مجدداً بين جناحيه في الشمال السوري ( قوات سوريا الديمقراطية وقوات درع الفرات ) ، وذلك لترتيب العلاقة بينهما ، وستكون مدينة منبج ، محطتها الأولى .
-ثانياً : الباب وبوتين : لم يعد خافياً على أحد ، بأن تطمينات أردوغان ، حول مسار درعه المشار إليه سابقاً في الشمال السوري ، كانت موجهة بالتحديد إلى الرئيس الروسي ، وذلك إلتزاماً بما تحدث عنه الروس عن الإتفاق الذي حاكه أردوغان معهم ، قبل دخوله إلى جرابلس ، وكان قد سبق ذلك تكسر “ ملحمة حلب الكبرى “ على أبواب الغرب الحلبي ، ناهيك عن تضعضع تلك الجبهة لدى المسلحين ، وذلك بفعل سحب أردوغان لكثيرٍ منهم نحو ريف حلب الشمالي ، بحيث كانت تداعيات ذلك ، كجزء من الأسباب التي جعلت معركة الدولة السورية تحسم في حلب ، وبشكلٍ متسارع .
لقد كان أحد أهداف غض النظر الروسي – الإيراني ، عن ذاك التدخل ، يهدف فيما يهدف إليه، إلى جعل ورقة الجماعات المسلحة – والتي تعتبرها تركية بأنها معتدلة – تتركز أكثر فأكثر بيد أردوغان ، وذلك في فصل غير مباشر لتلك الجماعات عن المجموعات المصنفة إرهابية ، وفقاً للتصنيف الأممي ، وهذا الأمر بحد ذاته مطلباً روسياً مركزياً في جميع الطروحات التي تناقشها روسيا ، ومنذ فيينا الأول ( تشرين أول ٢٠١٥ ) حتى اتفاق أيلول الأخير ، والذي وأدته أمريكا قبل أن يبصر النور .
لا يتوقف غض النظر الروسي ذاك ، عند هذا المعطى السابق ، إنما يتخطاه ، إلى ما هو استراتيجياً ، فعودة حلب إلى الدولة السورية ، سيكمل الركائز الأساسية لإعادة توحيد سوريا ، ويأد مشروع تفتيها ، ومن البوابة الكردية تحديداً .
-ثالثاً : الباب وترامب : لقد أشرنا سابقاً ، بأن أردوغان سيدغدغ أمال الأوروبيين ، وأمريكا الترامبية ، من خلال تقديم الحلول لهؤلاء ، فيما خص مخاوفهم من ورقة تدفق اللجوء نحوهم .. وبالفعل ، ها هو ترامب ، يعلنها اليوم – وبصراحة ٍ -، وكتأكيدٍ على طروحاته الإنتخابية ، بأنه “ سيبقي الإرهاب خارج حدودنا .. وسنعمل على إقامة مناطق أمنة في سوريا “ ، وفي هذا دلالة هامة ، على التوجه الترامبي اللاحق ، لضبط العلاقة بين جناحيها ( الأكراد وتركيا) في الشمال السوري ، وسيتمظهر ذلك جلياً في مدينتي الباب ومنبج على حد سواء .
بالعودة إلى تصريح ترامب حول “ إقامة المناطق الأمنة “، وليس المنطقة الواحدة ! ، فإن ذلك سيؤشر ، وبلا شك بأن المقايضة التي سيسعى لها “ ترامب-الروسي “ في سوريا ، سيكون عمادها – ربما – ، قائماً على “ التعاون معها في محاربة الإرهاب في سوريا .. مقابل تعميم المناطق الأمنة فيها “ ، وفي ذلك يكون ترامب قد “ وفْى “ بتعهداته الإنتخابية ، إن لناحية حماية أمريكا من موجات اللجوء السورية ، وإن لناحية إرضاء تركيا بعد تنازلها عن المنطقة العازلة لصالح الأمنة ، إضافة إلى تجسيد وعوده الإنتخابية لروسيا ، وذلك في مجال التعاون معها لمكافحة الإرهاب في سوريا ، وحتى الكيان الصهيوني – الهلع ، من إمكانية السير الأمريكي في مكافحة الإرهاب فيها ، ربما سيعمل ترامب على إغوائه وإغرائه أيضاً ، بالعمل على أن يكون جزءً من الجنوب السوري، المتاخم للجولان المحتل ، ضمن مشروعه الأكبر لإقامة المناطق الأمنة في سوريا ‼! وهذا الأمر لمحاولة طمأنة التخوف الصهيوني من وجهة المعركة المقبلة لسوريا ، والتي افترضها أحد المحللين العسكريين الصهاينة ، رون بن يشاي ، بالأمس في مقالة له ، بأنها ستكون في جنوب سوريا ، وذلك للقضاء على الجماعات المسلحة هناك ، والتي يطمح الكيان الصهيوني ، بأن تتحول إلى “ منطقة أمنة “ لأمنه المنشود !
خلاصة القول ، فإن خريطة الطريق الترامبية في سوريا ، سيكون عنوانها العريض “ ملء الجرار الأمريكية ، وبمغارف خارجية “ !
أسئلةُ ما بعد حلب : كيف ستواجه إيران ؟ والتي هي “ العدوة اللدودة “ لترامب ولفريقه القادم إلى البيت الأبيض؟ وكيف ستتصرّف روسيا حيال الإغراءات الترامبية لها ؟ وهل يُعتبر رفع السقف الصهيوني في حديث مسؤولي الكيان عن شروطهم لحصول التسوية في سوريا ، كانت مقدمة لقبولهم بما سيعرضه عليهم ترامب ؟ والذي سرعان ما سيدعونه لاحقاً بأنهم “ سيقدمون على تنازلات مؤلمة “ ، والتي هي عادة ما تكون أرضية ً خصبة لقبض الأثمان المرتفعة من أمريكا وغيرها من دول الإبتزاز الغربي وبعض العربي أيضاً .. وقبل هذا وذاك ، كيف ستكون استراتيجية الدولة السورية في مواجهة المشروع الترامبي الجديد فيها ؟
ليس من باب التشاؤم ، وليس تبخيساً بهذا الإنجاز الكبير في انتصار حلب .. إنما -ربما – ما يطرحه ترامب اليوم فيها ، ستكون مواجهته أدهى وأمرّ في الجغرافيا السورية برمتها.
باحث وكاتب سياسي