ماذا يحدث في إثيوبيا؟!
صحيفة البناء اللبنانية ـ
د. محمد سيد أحمد:
مع تعنّت إثيوبيا في مفاوضات سدّ النهضة والتي تديرها مصر بصبر شديد، رغم كلّ المحاولات المستفزة التي تحاول دفع مصر نحو الخيار العسكري، إلا أنّ المفاوض المصري يتصف في إدارته لهذا الملف الخطير الذي يمسّ الأمن القومي المصري بشكل مباشر بسياسة النفس الطويل، وضبط الأعصاب إلى أقصى درجة ممكنة، سواء على مستوى الخطاب السياسي أو على مستوى القرار السياسي، فقد قرّرت القيادة السياسية الذهاب بالمفاوضات السياسية إلى كلّ الجهات الإقليمية والدولية المعنية بالأمر، فكانت الولايات المتحدة الأميركية طرفاً رئيسياً في المفاوضات في إحدى مراحلها، ثم مجلس الأمن في مرحلة تالية، وأخيراً الاتحاد الأفريقي، هذا بخلاف المفاوضات المباشرة سواء الثنائية مع إثيوبيا أو الثلاثية مع إثيوبيا والسودان.
وعلى الرغم من فشل كلّ الجولات السابقة وفي ظل إصرار إثيوبيا على السير في استكمال بناء السدّ وملئه بشكل منفرد ومن دون التوقيع على اتفاق دولي ملزم، ومع تعالي الأصوات بضرورة ضرب مصر للسد، ولعلّ الصوت الأبرز في هذا الإطار كان صوت الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي صرّح قبل الانتخابات الرئاسية بأيام أنّ مصر ستضطر في النهاية إلى ضرب وتدمير السد، في ظلّ استمرار تعنّت إثيوبيا وإصرارها على إفشال المفاوضات، وقوبل التصريح باستنفار إثيوبي حيث قام آبي أحمد رئيس الوزراء باستدعاء السفير الأميركي ومطالبته بتقديم تفسير لهذا التصريح، وأعرب أنه لن يقبل بأيّ اعتداءات من أيّ نوع، وأنه لا توجد قوة يمكنها منع أثيوبيا من تحقيق أهدافها، وعلى الرغم من محاولات التحريض واستمرار التعنت الإثيوبي إلا أنّ مصر لا تزال تحتفظ بهدوء الأعصاب في إدارة هذا الملف الذي يُعدّ أخطر ملفات الأمن القومي المصري، وتؤكد القيادة المصرية أنها لن تفقد الأمل في الوصول لحلّ سياسي ودبلوماسي للأزمة بعيداً عن أيّ خيار عسكري.
وقبل أيام، وفي ظلّ فشل الجولة الأخيرة من المفاوضات، اندلع صراع داخلي في إثيوبيا حيث قام رئيس الوزراء آبي أحمد بتوجيه ضربات جوية مع إرسال قوات إلى إقليم تيغراي، بعد أن اتهم الجبهة الشعبية لتحرير التيغراي بشن هجوم على قاعدة عسكرية، وكانت تطورات الأحداث قد بدأت في الإقليم بعد رفض جبهة التحرير قرار رئيس الوزراء بتأجيل الانتخابات في الإقليم بسبب تفشي وباء كورونا، وتمّت بالفعل الانتخابات في سبتمبر الماضي واعتبر آبي أحمد التصويت غير قانوني، ولم يعترف بنتيجة الانتخابات وقام بحلّ حكومة الائتلاف وتشكيل حكومة مؤقتة، وعندما رفضت الجبهة هذه القرارات الصادرة من الحكومة الاتحادية، قرّر آبي أحمد البدء في عملية عسكرية لسحق مجلس الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي الذي يدير الإقليم، والذي يشارك في الائتلاف الحاكم منذ الإطاحة بالإمبراطور سيلاسي في عام 1991 وحتى وصول آبي أحمد للحكم في عام 2018.
حيث كانت الجبهة تتمتع بنفوذ كبير في الحكم، فقام آبي أحمد بتهميش دور الجبهة وقمع سكان الإقليم وممارسة التمييز ضدهم، ويشكل سكان تيغراي 6% من سكان إثيوبيا، والجبهة الشعبية لتحرير تيغراي تتكوّن من أحزاب إقليميّة عدة ذات طبيعة عرقية، والإقليم قريب من الحدود السودانية والاريترية، وتمتلك الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي خبرة كبيرة في القتال نتيجة مشاركاتها في الحرب الحدوديّة التي استمرّت سنوات بين إثيوبيا وجارتها اريتريا، وتسيطر الجبهة على القيادة الشمالية للجيش الإثيوبي الذي يتكون من أربع جبهات، وتقدّر الميليشيات المحلية في إقليم تيغراي بنحو 250 ألف جندي، وهو ما يشكل خطراً على انقسام الجيش الإثيوبي الذي يتشكّل على أسس عرقية، وأعلنت المفوضيّة السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين عن عبور 32 ألف إثيوبي إلى السودان – حتى الجمعة الماضية – هرباً من النزاع المسلح الدائر بين حكومة آبي أحمد والسلطات المحلية في إقليم تيغراي، مع تأكيدها أنّ العدد سيصل إلى 200 ألف خلال أيام قليلة لأنّ اللاجئين الذين يعبرون يومياً يقدّرون بنحو 5 آلاف شخص.
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هل تؤثر الحرب الأهلية المندلعة الآن في الداخل الإثيوبي على مسار مفاوضات سدّ النهضة؟
والإجابة بالطبع نعم، فالحرب الأهلية الدائرة الآن قد ينتج عنها انفصال للأقاليم عن الدولة الفيدرالية، حيث يحدّد الدستور الإثيوبي طريقة انفصال كلّ إقليم ومن بين إجراءات الانفصال إجراء الانتخابات داخل الإقليم بشكل مستقلّ عن الحكومة الفيدرالية، وهو ما قام به إقليم التيغراي، وقد يلحق به إقليم الأمورمو نظراً للاحتقان الشديد داخل الإقليم بسبب سياسات آبي أحمد، وبعدهما يأتي إقليم بني شنقول وهو الإقليم الذي يقع في أراضيه سدّ النهضة، فاستمرار آبي أحمد في استخدام الحلّ العسكري لاحتواء أزمات الأقاليم سيدفعها إلى التمرّد والسعي للانفصال عن الدولة الفيدرالية وإعلان استقلالها.
وهنا نجد أنفسنا أمام سيناريوين لا ثالث لهما الأول إذا تمكن إقليم بني شنقول من الانفصال وهو إقليم تمتدّ أرضه للسودان وأغلب قياداته تقيم خارج إثيوبيا وهم بالأصل يرفضون فكرة بناء السدّ، هذا إلى جانب أنه إقليم فقير في موارده، وبالتالي الانفصال أو عودة الإقليم للسودان يعني توقف بناء السدّ، أما إذا ظلّ الإقليم تابعاً للحكومة الفيدرالية في إثيوبيا وظلّ آبي أحمد في عناده واستمرّ في الحرب في إقليمي التيغراي والأمورمو فإنّ الأموال الموجّهة لبناء السدّ سوف تتجه لتمويل الحرب وهنا سيتوقف بناء السدّ، وعلى الرغم من هذين السيناريوين إلا أنّ القيادة المصرية يجب أن لا تعوّل فقط على سيناريوات توقف بناء السدّ تلقائياً بفعل الحرب الأهلية في إثيوبيا بل السعى للوصول لحلّ سياسي عبر كلّ الوسائل المتاحة إقليمياً ودولياً، اللهم بلغت اللهم فاشهد.