ماذا بعد “التلويح النووي” في أوكرانيا؟
موقع قناة الميادين-
محمد منصور:
يتوقع أن يظل التلويح بورقة الأسلحة النووية جزءاً من التموضع الجديد لموسكو في الأزمة الأوكرانية، والذي يركز حالياً على حشد الداخل للمشاركة في “الحرب الوطنية”، للدفاع عن المناطق الروسية التي ستنضم -حكماً -إلى الاتحاد الروسي بعد الاستفتاءات القادمة.
لم يكن “الطرح النووي” من جانب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، منذ أيام قليلة، والذي لوّح به باستخدام الأسلحة النووية في أوكرانيا، جديداً في مضمونه لكن، من حيث الشكل، كان هذا التصريح، وكذا التصريح التالي له والمطابق في مضمونه، على لسان نائب رئيس مجلس الأمن القومي ديمتري مدفيديف، يرتبطان بشكل أكبر بما يمكن أن نعدّه “مرحلة جديدة” تحاول موسكو نقل عملياتها في أوكرانيا إليها.
هذه المرحلة تقتضي تحويل القتال في أوكرانيا -في الذهنية الشعبية الداخلية في روسيا -من إطار “مواجهة التهديد الاستراتيجي الذي يمثله حلف الناتو على روسيا”، إلى “حرب وطنية للدفاع عن الأراضي الروسية”، بشكل يشبه إلى حد بعيد الوضع في إبان العمليات العسكرية الألمانية ضد الاتحاد السوفياتي خلال الحرب العالمية الثانية.
تحقيق هذا التحول يتضمن قرارات أخرى، على رأسها إعلان التعبئة الجزئية لقوات الاحتياط، وتسريع عملية انضمام الأقاليم الأوكرانية المسيطر عليها حالياً من جانب روسيا، وهي مناطق إقليم دونباس، بجانب إقليمي خيرسون وزاباروجيا.
الارتباط الوثيق بين التلويح باستخدام الأسلحة النووية وملف ضم بعض الأراضي الأوكرانية إلى الاتحاد الروسي، ظهر بشكل أوضح في تصريحات نائب رئيس مجلس الأمن القومي ديمتري مدفيديف، الذي أكد استخدام موسكو كل سلاح في ترسانتها، بما في ذلك الأسلحة النووية الاستراتيجية، لحماية الأراضي التي ستنضم إلى الاتحاد الروسي.
من هذه الزاوية، يمكن تفكيك الحديث المتكرر من جانب موسكو عن الأسلحة النووية، والذي يمكن وضعه في إطار “الردع”، بالرغم من وجود احتمالية غير قليلة لاستخدام هذه الأسلحة، لكن عبر شكل مغاير تماماً لما يقفز إلى الأذهان حين نتحدث عن “سلاح نووي”.
السلاح النووي ضيف دائم في الذهنية العسكرية الروسية
بالرغم من أن دور “السلاح النووي” كقوة ردع قد تراجع بشكل واضح خلال مرحلة ما بعد الحرب الباردة، كانت موسكو تضع هذا الأمر دائماً ضمن أولوياتها الاستراتيجية، وهذا اتضح بشكل كبير منتصف عام 2018، حين أعلن الرئيس الروسي عن 5 أنواع جديدة من المنظومات القتالية، من بينها 3 أنظمة ذات طبيعة نووية.
مع بداية العمليات العسكرية في أوكرانيا، كان ملحوظاً بشكل كبير تناول كلا الطرفين (الروسي والأوكراني) ملفات تتعلق بالموضوع النووي، إذ لوّح الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي، بانسحاب بلاده من “مذكرة بودابست”، التي وقعتها كييف مع الولايات المتحدة الأميركية والمملكة المتحدة في كانون الأول/ديسمبر 1994، وتنازلت بموجبها عن ترسانتها النووية الموروثة عن الاتحاد السوفياتي، مقابل مجموعة من الضمانات الأمنية التي تعهدت بها موسكو.
ومع أن كلام زيلينسكي جاء في سياق اتهام موسكو بانتهاك بنود هذه الاتفاقية، وهو ما حدث تقنياً منذ السيطرة على شبه جزيرة القرم عام 2014، تضمن كلامه الحديث عن إمكانية استخدام موسكو لقنابل نووية في أوكرانيا، وهو حديث يحمل في طياته مبالغات بكل تأكيد، لكنه ليس بعيداً بشكل أو بآخر عن الاحتمالات القائمة.
موسكو، من جانبها، ردت حينها على حديث زيلينسكي، بإعادة طرح مسألة “اعتزام أوكرانيا حيازة أسلحة نووية”، إذ أشار الرئيس الروسي بوتين، إلى أن كييف لا تنقصها الخبرة الفنية أو الإمكانات اللوجيستية للوصول إلى هذا الهدف، بل تحتاج فقط إلى منظومة لتخصيب اليورانيوم، وهي مسألة تقنية يمكن التوصل إلى حلول لها عبر المساعدة الغربية.
حقيقة الأمر أن روسيا تناولت المسألة النووية بشكل متكرر وملحوظ منذ انطلاق العمليات في أوكرانيا، بداية من تصريحات الرئيس الروسي خلال لقائه الرئيس الفرنسي أوائل شباط/فبراير الماضي، حين قال نصاً “بالطبع، لا يمكننا مقارنة القدرات العسكرية الروسية مع قدرات دول الناتو مجتمعة، لكننا نفهم أن روسيا قوة نووية تتجاوز الباقين، ولن يكون لديكم حتى الوقت للرد علينا”، مروراً بتفعيل موسكو في الشهر نفسه، حالة الجاهزية القصوى لقوة الردع النووية الخاصة بها، وهي القوة التي تفاخر بها لاحقاً، المدير العام لوكالة الفضاء الروسية “روسكوزموس”، ديمتري روجوزين، الذي تحدث عن إمكانية استخدام السلاح النووي، لإلحاق أضرار جسيمة بدول حلف الناتو خلال نصف ساعة فقط.
لم تكتف موسكو بهذه التصريحات، بل قامت طائراتها الحربية أوائل آذار/مارس الماضي، بالتحليق نحو جزيرة “غوتلاند” السويدية، التي تعدّ مرتكزاً أساسياً يطمح حلف الناتو في استغلاله لمراقبة تحركات موسكو في بحر البلطيق، خاصة في ظل رغبة السويد في الانضمام إلى الحلف. وبالرغم من أن مثل هذه الأفعال تعدّ معتادة، إذ دأبت الطائرات الروسية الإقلاع من إقليم “كالينغراد” بشكل دوري، لاختبار مدى جاهزية الوحدات الجوية التابعة لحلف الناتو والسويد وفنلندا واستجابتها، إلا أن هذا التحليق كان لافتاً للغاية، إذ اكتشفت السلطات السويدية نهاية الشهر نفسه، أن هذا التشكيل الذي تكوّن من مقاتلتين من نوع “سوخوي-27” وقاذفتين من نوع “سوخوي-24″، كان يتضمن ذخائر نووية حملتها القاذفتان الأخيرتان.
هذه الخطوة، جنباً إلى جنب مع إقرار بيلاروسيا أواخر شباط/فبراير الماضي، اتفاقية تسمح بوجود القوات الروسية، بما في ذلك القدرات ذات الطبيعة النووية، على الأراضي البيلاروسية، ضاعفت بشكل كبير من احتمالات استخدام أسلحة ذات طبيعة نووية في أوكرانيا.
القدرات النووية الاستراتيجية الروسية في الميزان
تمتلك موسكو، بحسب أحدث التقديرات، 4447 رأساً نووياً، منها 1500 كانت في طور التجهيز لإتلافها، و2889 رأساً نووياً مخزناً. من ضمن هذا المجموع، نحو 1588 رأساً نووياً موضوعاً في المناوبة القتالية الفعلية.
وبغض النظر عن حقيقة أن العدد الدقيق لهذه الرؤوس النووية يعدّ معروفاً بشكل يقيني، إلا أن القدرات الروسية النووية تقسم إلى 3 أقسام: الصواريخ العابرة للقارات المطلقة من صوامع ثابتة أو منصات ذاتية الحركة، والصواريخ المطلقة من على متن الغواصات الاستراتيجية، والصواريخ الجوالة المطلقة من على متن القاذفات الاستراتيجية.
تضم الترسانة الروسية حالياً 5 أنواع من الصواريخ العابرة للقارات، تعمل ضمن المناوبة القتالية لأفواج الصواريخ الاستراتيجية الموجودة في الخدمة حالياً، بإجمالي 1185 رأساً نووياً مخصصاً لهذه الصواريخ، تخدم ضمن 3 جيوش صاروخية أساسية، بمجموع 12 فرقة صاروخية، تتألف من 40 فوجاً صاروخياً. أهم هذه الأنواع هي:
– صاروخ “SS-29/Yars”: دخل إلى الخدمة عام 2010، ويطلق من صوامع ثابتة أو منصات ذاتية الحركة، ويعمل بالوقود الصلب على 3 مراحل، ومزود بـ 3 رؤوس حربية منفصلة مزودة بتقنية “إعادة الدخول”، وإمكانية توجيه كل منها بشكل منفصل نحو أهداف مختلفة، وتبلغ زنة هذه الرؤوس مجتمعة 1200 كيلو غرام، وإجمالي قوتها، إذا كانت نووية، تصل إلى 200 كيلو طن. يصل المدى الأقصى لهذا الصاروخ 10500 كيلومتر.
تمتلك روسيا 153 منصة إطلاق ذاتية الحركة مخصصة لهذا النوع من الصواريخ، بجانب 20 صومعة إطلاق تحت أرضية، وتمتلك إجمالي رؤوس حربية نووية مخصصة لهذا النوع من الصواريخ يبلغ 692 رأساً نووياً.
– صاروخ “SS-18/Satan”: دخل الجيل السادس من هذه الصواريخ إلى الخدمة عام 1988، ويطلق حصراً من صوامع تحت أرضية، ويعمل على مرحلتين بالوقود السائل، وهو مزود بعشرة رؤوس حربية منفصلة مزودة بتقنية “إعادة الدخول”، مع إمكانية توجيه كل منها بشكل منفصل نحو أهداف مختلفة. يبلغ مداه الأقصى 11 ألف كيلومتر، وتمتلك روسيا حالياً 40 حاوية إطلاق تحت أرضية مخصصة لهذا النوع، بإجمالي رؤوس نووية يبلغ 400 رأس.
– صاروخ “SS-27/Topol-M”: دخل إلى الخدمة عام 1997، ويطلق من صوامع تحت أرضية ومن منصات ذاتية الحركة، ومزود برأس حربي واحد تبلغ زنته 1200 كيلو غرام. يعمل هذا الصاروخ على 3 مراحل بالوقود الصلب، وتقدر قوة رأسه النووي بنحو 500 كيلو طن. يبلغ مداه الأقصى 11 ألف كيلومتر.
جدير بالذكر أن هذه الأنواع السابقة تضاف إلى منظومتين صاروخيتين تحت التطوير، الأولى هي صواريخ “SS-28/Sarmat”، التي دخلت إلى الخدمة عام 2021، ويتراوح مداها بين 10 آلاف و18 ألف كيلومتر، وتطلق حصراً من صوامع تحت أرضية، وتستطيع حمل ذخائر تصل زنتها إلى 10 أطنان، سواء على شكل رؤوس حربية أو على شكل 10 مركبات انزلاقية أو مركبات إعادة دخول.
يعمل هذا النوع على 3 مراحل بالوقود السائل، ولم يتم تسليح أي كتائب صاروخية به بشكل رسمي حتى الآن.
الصاروخ الثاني هو “SS-19/Avangard”، الذي يعد تطويراً للصاروخ “SS-19/Stiletto”، بهدف حمل المركبة الانزلاقية الجديدة “أفانجارد”. يحمل هذا الصاروخ شحنة نووية تبلغ قدرتها 2 ميغا طن، وتستطيع مركبة “افانجارد” التحليق بسرعة تصل إلى 20 ضعف سرعة الصوت، ويبلغ مدى هذه المركبة بعد إطلاقها من الصاروخ 6 آلاف كيلو متر. دخل إلى الخدمة من هذا النوع 6 مركبات انزلاقية بمجموع 6 رؤوس حربية نووية.
على المستوى البحري، تمتلك البحرية الروسية نوعين أساسيين من أنواع الصواريخ العابرة للقارات المطلقة من الغواصات، وتشغل 10 غواصات تعمل بالطاقة النووية مخصصة لإطلاق هذه الصواريخ، بواقع 5 غواصات من الفئة “Delta IV”، و5 من الفئة “Borei-A”. يمكن لكل غواصة أن تحمل 16 صاروخاً عابراً للقارات، وتتركز قوة الغواصات التي تمتلك القدرة على إطلاق هذه الصواريخ في 3 قواعد بحرية رئيسية.
النوع الأول من هذه الصواريخ هو الصاروخ “R-29RM Shtil”، الذي دخل الخدمة عام 1986، ويمتلك رأساً حربياً نووياً يضم 4 مركبات انزلاقية، ويعمل على 3 مراحل بالوقود السائل، ويصل مداه إلى 8 آلاف كيلومتر، وتمتلك روسيا 320 صاروخاً من هذا النوع.
الصاروخ الثاني هو “RSM-56 Bulava”، الذي دخل الخدمة عام 2013، ويعمل على 3 مراحل بالوقود الصلب، ويحمل رأساً حربياً نووياً تبلغ زنته 1.150 كيلو غرام، ويستطيع احتواء 10 مركبات انزلاقية، وتبلغ قوته نحو 150 كيلو طناً، ويصل مداه إلى 8 آلاف كيلومتر. تمتلك روسيا 480 صاروخاً من هذا النوع.
جوياً، تمتلك القوات الجوية الروسية نوعين من أنواع القاذفات الثقيلة ذات القدرة النووية، الأول هو “توبوليف-160” والثاني “توبوليف-95”. يمتلك سلاح الجو الروسي 13 قاذفة من النوع الأول و55 قاذفة من النوع الثاني. يستطيع كلا النوعين حمل الصواريخ الجوالة ذات القدرات النووية AS-15، التي تعرف أيضاً باسم “KH-55″، وقد دخل هذا الصاروخ إلى الخدمة عام 1986، ويبلغ مداه 2500 كيلو متر، وزنة رأسه الحربي النووي 410 كيلو غرامات، تبلغ قوته 250 كيلو طناً.
تقدر الأعداد التي تمتلكها روسيا من هذا النوع بنحو 500 صاروخ. على مستوى القاذفات المتوسطة والمقاتلات، تستطيع القاذفات المتوسطة “Tu-22″، والمقاتلات “MIG-31” والقاذفات “SU-24” و”SU-34″، إطلاق عدة أنواع من الصواريخ ذات الحشوات النووية.
السلاح النووي التكتيكي… الأقرب إلى الاستخدام في أوكرانيا
تنظر بعض التحليلات الاستراتيجية والعسكرية إلى الأسلحة النووية “كوحدة واحدة لا تتجزأ”، إلا أن الواقع العملياتي يشير إلى أن السلاح النووي يمكن تقسيمه إلى قسمين: “استراتيجي -تكتيكي”. السلاح النووي التكتيكي كان حاضراً منذ عقود في الذهنية العسكرية السوفياتية والأميركية، إذ كان كلا الطرفين يتجهزان لاحتمالية حدوث مواجهات على جانبي جدار برلين خلال مرحلة الحرب الباردة، وكانت الحاجة تدعو إلى وجود ذخائر نووية محدودة القدرة التفجيرية “أقل من 20 كيلو طناً”، لتحقيق تدمير آني وكامل للقطاعات المدرعة المعادية، من دون إحداث تأثير إشعاعي مستدام.
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، عادت موسكو للاهتمام بهذا الطرح، وقد صرح الرئيس الروسي الحالي فلاديمير بوتين، في إبان توليه منصب سكرتير مجلس الأمن القومي عام 1999، أن الرئيس الروسي آنذاك، بوريس يلتسين، قد صادق على خطة قدمها بوتين، تتضمن خططاً لتطوير أسلحة نووية غير استراتيجية واستخدامها، بهدف تحقيق أكبر قدر من التدمير، من دون إحداث تأثيرات بيئية مستدامة.
وظيفياً، تختلف الأسلحة النووية الاستراتيجية عن الأسلحة النووية التكتيكية، فالأولى تستهدف جعل القوات المعادية عاجزة عن المقاومة أو غير مُستعدة لها، وذلك بتدمير بنيتها التحتية الأساسية وقوتها البشرية، أما الأسلحة النووية التكتيكيّة فمُصمَّمَة لإضافة قوة نارية للمعارك المحدودة في نطاقها الجغرافي. من أهم ميزات الأسلحة النووية التكتيكية، أنها تتفادى بعض العيوب التي تتسم بها الأسلحة النووية الاستراتيجية، إذ إن لها نطاق تدمير أوسع، ولو أنه ليس أكبر من اللازم، بما يقلل بشكل كبير من المخاطر التي قد تتعرض لها منصات الإطلاق.
حددت معاهدة الحد من التسلح، التي يطلق عليها “نيو ستارت”، والتي تفاوض عليها الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، والرئيس الروسي آنذاك دميتري ميدفيديف عام 2010، عدد الرؤوس الحربية النووية الذي يمكن لكل من موسكو وواشنطن تحميله صواريخها الباليستية وقاذفاتها الجوية، بنحو 1550 رأساً نووياً، ومع ذلك، فإن الأسلحة النووية التكتيكية غير مشمولة فعلياً بهذه المعاهدة ولا أي اتفاق دولي آخر، علماً أن هذه الأسلحة، بالرغم من أن معظمها تقل قدرته التدميرية عن 20 كيلو طناً ، تفوق قوة بعضها قنبلتي هيروشيما وناغازاكي.
جدير بالذكر هنا، أن موسكو كانت قد اعترضت عام 2020، على خطة أميركية لتزويد صواريخ “ترايدنت-2” العابرة للقارات المطلقة من الغواصات، برؤوس نووية تكتيكية منخفضة القدرة التدميرية.
إذن، يمكن عملياً استخدام الرؤوس النووية الروسية في أوكرانيا، عبر وسائط قتالية غير نووية في الأساس، بما في ذلك الصواريخ والذخائر التي يقل مداها عن 500 كم، والمهم في هذا الصدد أن جميع الوسائط التي تنضوي تحت هذا التصنيف، تستخدم في الأساس لتنفيذ هجمات بذخائر تقليدية غير نووية، وهو ما يجعل من الصعب تتبع حركتها أو تحديد ما إذا تم استبدال شحناتها التقليدية بأخرى نووية أم لا.
المفارقة هنا أن الميدان الأوكراني قد شهد فعلياً، استخدام وسائط قتالية تقليدية “تستطيع” إطلاق ذخائر وشحنات نووية، وهو ما يجعل إمكانية استخدام السلاح النووي التكتيكي في أوكرانيا، رهناً فقط بتغيير الذخائر المستخدمة من تقليدية إلى نووية.
المثال الأول من أمثلة هذه الوسائط هو مدفعية الميدان، فقد استخدمت موسكو وكييف خلال العمليات العسكرية، 3 أنواع من المدفعية التي تمتلك القدرة على إطلاق قذائف ذات شحنة نووية تكتيكية تتراوح قدرتها بين 2 و4 كيلو طن، النوع الأول هو المدفعية الثقيلة ذاتية الحركة من عيار 203 ملم “مالكا”، والنوع الثاني هو مدفع الهاون الثقيل ذاتي الحركة من عيار 240 ملم “توليبان”، أما النوع الثالث فهو مدفع الهاون الثقيل ذاتي الحركة من عيار 152 ملم “جيات سينت”.
المثال الثاني من أمثلة الأسلحة التي يمكن استخدامها في مهمات نووية تكتيكية، هي الصواريخ الباليستية قصيرة المدى. استخدم الجيش الروسي خلال العمليات العسكرية الحالية، نوعين من أنواع الصواريخ الباليستية التكتيكية القادرة على حمل رؤوس نووية، الأول هو الصواريخ التكتيكية “توشكا”، التي استخدمتها أوكرانيا أيضاً، وهي صواريخ يمكن تزويدها برأس نووي تبلغ قدرته 100 كيلو طن، ويمكن إيصاله إلى مدى يصل إلى 200 كيلو متر.
النوع الثاني استخدمه الجيش الروسي حصراً، وهو الصاروخ التكتيكي “إسكندر-إم”، الذي يصل مداه إلى 500 كم. وسرعته تصل إلى 7 أضعاف سرعة الصوت، ويمكن تحميله برأس حربي نووي، تتراوح زنته بين 5 و50 كيلو طناً.
استخدمت موسكو كلا النوعين انطلاقاً من غرب روسيا، وهي تحتفظ أيضاً في إقليم “كالينغراد”، بعدة بطاريات من صواريخ “إسكندر – إم”.
المثال الثالث يتعلق بسلاح الجو، فقد استخدم الجيش الروسي خلال العمليات في أوكرانيا عدة أنواع من الطائرات القادرة على تنفيذ ضربات نووية تكتيكية، مثل القاذفات الاستراتيجية “تي يو-22″، وقاذفات “سوخوي-24” و”سوخوي 34″، وتستطيع هذه الأنواع إطلاق عدد من أنواع الصواريخ، التي توجد منها نسخ ذات رؤوس نووية، منها الصاروخ المضاد للسفن “KH-22″، الذي تم تسجيل استخدامه في المعارك الحالية في أوكرانيا بنسخته التقليدية.
تم تصنيع نسختين من هذا الصاروخ تحملان قدرات نووية، الأولى تمت تسميتها “KH-22N” زودت برأس نووي زنته تتراوح بين 350 و1000 كيلو طن، والثانية هي الأحدث وسميت “KH-32″، وهي مزودة في الأساس برأس حربي تقليدي، لكن يمكن استبداله برأس حربي نووي، ويبلغ مدى هذا الصاروخ الذي يمكن إطلاقه من قاذفات “تي يو-22” نحو 1000 كيلو متر، وتصل سرعته إلى 5 أضعاف سرعة الصوت.
نوع آخر هو الصاروخ المضاد للسفن “KH-35″، الذي يمكن إطلاقه من القاذفات أو من منظومات الدفاع الساحلي “بال”، وقد تم رصد استخدام النسخة التقليدية منه التي يصل مداها إلى 300 كيلو متر في أوكرانيا. يوجد من هذا النوع نسخة ذات رأس حربي نووي تسمى “KH-37”. الصاروخ الجوال ذو الرأس النووي “KH-102″، يعد أحد تطويرات صواريخ “KH-55” الجوالة، وقد دخل هذا التطوير الخدمة عام 2012، وهو يتسلح عادة برأس حربي تقليدي زنته 450 كيلو غراماً، لكن يمكن تزويده برأس حربي نووي قدرته التدميرية تصل إلى 250 كيلو طناً. جدير بالذكر أن النسخة التقليدية من هذا الصاروخ -المسماة “KH-101″، تم تسجيل استخدامها في أوكرانيا.
يضاف إلى ما سبق، استخدام الجيش الروسي لنوعين من أحدث أنواع الصواريخ التي يمتلكها في ترسانته، الأول هو أحد أهم الصواريخ التي تم استخدامها في أوكرانيا حتى الآن، وهو الصاروخ الجوال “Kalibr”، الذي يطلق من جميع المنصات جوا وبحراً وبراً. يعتقد أن النسخة الأحدث منه “SS-N-30A” يمكن أن تحمل رأساً نووياً تتراوح زنته بين 400 و500 كيلو طن، ويصل مداها إلى 2500 كيلو متر.
النوع الثاني، صواريخ “كينزال” فرط صوتية، والتي دخلت الخدمة أواخر عام 2017، وتم استخدامها قتالياً في أوكرانيا للمرة الأولى في آذار/مارس الماضي. يبلغ مدى هذا النوع من الصواريخ 2000 كيلو متر، وتصل سرعتها القصوى إلى 10 ماخ، وتمتلك القدرة على حمل رؤوس نووية، تتراوح زنتها بين 100 و500 كيلو طن.
هل تستخدم موسكو السلاح النووي في أوكرانيا؟
إذن، بالنظر إلى ما سبق، يمكن القول إن موسكو تمتلك القدرات العسكرية الكاملة لشن ضربات نووية على أوكرانيا. في ما يتعلق بالسيناريو الخاص باستخدام الأسلحة النووية الاستراتيجية، يمكن أن نتوقع أن يستهدف هذا الهجوم المدن الرئيسية والقدرات الصناعية والعسكرية، بهدف شل كييف بشكل كامل، في حين سيكون الهدف الأساسي لاستخدام الأسلحة النووية التكتيكية، هو التدمير واسع النطاق للوحدات العسكرية الأوكرانية، خاصة تلك المنخرطة في الزخم الهجومي الحالي شمال الجبهة الشرقية وغرب الجبهة الجنوبية.
بعض الآراء قد يطرح تنفيذ موسكو ضربات نووية على دول أوروبية أخرى، لكن في المدى المنظور تبقى هذه الاحتمالية أقل وجاهة مقارنة باحتمالية تنفيذ ضربات نووية تكتيكية على بعض المناطق الأوكرانية.
النقطة الأساسية في هذا الإطار أن احتمالات استخدام أسلحة نووية استراتيجية تبقى مقيدة بحقيقة أن أي تحرك روسي لتجهيز أسلحة نووية استراتيجية ونشرها، سيتم بشكل فوري رصده ومتابعته من جانب الولايات المتحدة والأقمار الصناعية، ما قد يؤدي إلى استنفار القوة النووية الأميركية، وتصاعد احتمالات تطور الموقف بشكل لا يمكن التراجع عنه.
استخدام الأسلحة النووية التكتيكية ينطوي أيضاً على مخاطر أساسية، منها كيفية تحديد مستوى رد الفعل الغربي على هذه الخطوة، وما إذا كانت الدول الغربية سوف تعدّ هذا الاستخدام اعتداءً عليها، على أساس أن تأثير الأسلحة النووية يتجاوز الحدود ويؤثر في البلدان المحيطة بأوكرانيا أم لا.
خلاصة القول إن الإمكانيات العسكرية النووية لا تنقص موسكو في هذه المرحلة ولكن، حتى الآن، لا يمكن القول، بالرغم من التراجع الميداني للقوات الروسية في عدة محاور قتالية في أوكرانيا ، أنه توجد حاجة ماسة إلى استخدام السلاح النووي التكتيكي أو الاستراتيجي على المستوى الميداني، لذا يتوقع أن يظل التلويح بهذه الورقة جزءاً من التموضع الجديد لموسكو في الأزمة الأوكرانية، والذي يركز حالياً على حشد الداخل للمشاركة في “الحرب الوطنية”، للدفاع عن المناطق الروسية التي ستنضم- حكماً- إلى الاتحاد الروسي خلال الاستفتاءات القادمة.