مؤشرات تراجع النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط
صحيفة الوطن السورية-
محمد نادر العمري:
ربما من الخطأ القول أو إطلاق الحكم إن الولايات المتحدة الأميركية تنهار وتفقد تأثيرها على مستوى النظامين الإقليمي والدولي، وذلك بسبب ما تمتلكه هذه الدولة من مقومات القوة والتأثير ما يجعلها ذات النفوذ الأكبر في خريطة النظام الدولي، حيث لا يمكن القول أو طرح أي افتراض من الناحية النظرية عن احتمال انهيار دولة ما، وهي ما زالت تتربع على عرش الناتج الإجمالي للاقتصاد العالمي بتقدير يفوق 27 بالمئة، وتبلغ استثماراتها الخارجية 2.6 تريليون دولار، وتمتلك 867 قاعدة عسكرية في أكثر من 70 دولة حول العالم، وتخصص 2.74 بالمئة من دخلها القومي للبحث والتطوير العلمي بمختلف مجالاته، فضلاً عن ريادتها واحتكارها للعديد من الصناعات المتقدمة في التكنولوجيا والصحة وغيرها.
ولكن الأصح في ظل ما يشهده النظام الدولي من تغيرات في موازين القوى والتحالفات التي بدأت تتبلور على الصعيدين الثنائي والجماعي، وتوسع دائرة الصراعات وانتشارها وتداخل الأطراف المشاركة بها، بأن نقول: إن النفوذ الأميركي هو في حالة تراجع وخاصة في منطقة الشرق الأوسط ومناطق واسعة في آسيا، وهذا التراجع لم يكن نتيجة ظاهرة حالية أو ظهرت بشكل مفاجئ، بل جاءت نتيجة مسارعة الدول الصاعدة وفي مقدمتها الصين وروسيا إلى جانب الدول والفواعل السياسية الأخرى للتملص من النفوذ الأميركي، ومطالبتها بنظام دولي متعدد الأقطاب والقوى، تكون شريكة للإدارات الأميركية في إدارة هذا النظام.
اللافت في هذا السياق، أن السياسات الأميركية العدوانية وخاصة منذ أحداث أيلول 2001، وغزو أفغانستان ومن ثم العراق وسعيها لخلق شرق أوسط جديد ونشر ما سمي بـ«الربيع العربي» وصولاً لافتعال الأزمة الأوكرانية، ساهمت بشكل كبير وفاعل في إحداث هذا التراجع الذي ترفضه واشنطن، حيث أدى انفراد أميركا في تقسيم العالم لدول الشر والخير وفق مصالحها، وشن الحروب والاعتداءات ورعاية الحروب بالوكالة واستخدام الاقتصاد والإرهاب كأداتين لإنهاك الدول واستنزافها وغيرها من السياسات، دفعت الدول الصاعدة في المسارعة لاتباع إستراتيجيات من شأنها حماية أمنها القومي وكسر نفوذ وتأثير واشنطن في محيطها، لذلك سعت هذه الدول للقيام بردود أفعال على النهج العدواني للإستراتيجيات الأميركية التي هدفت لاحتواء نفوذ هذه الدول بغرض الحفاظ على الهيمنة الأميركية.
إن الأزمة الأوكرانية والسعي الأميركي لنشر الفوضى من خلال تبنيها لنهج الحروب بالوكالة لعجزها عن تحمل تداعيات الحروب المباشرة، سرع من وتيرة اصطفاف الدول المناوئة للسياسات الأميركية، وهو ما برز أكثر في توقيع الاتفاقات الإستراتيجية ما بين روسيا الاتحادية والصين، وبين الأخيرة والجمهورية الإسلامية الإيرانية، فضلاً عن ذلك توسعت أطر المنافسة والتجاذب لتنتقل من إطارها السياسي والعسكري لتشمل الأطر المكملة لها في المجالات العلمية والتكنولوجية والأمنية، حتى باتت الدول الصاعدة والطامحة لإحداث نظام دولي جديد ذي طبيعة تعددية، تلجأ لخطوات استباقية أو ما يمكن تصنيفه بالأفعال الاستباقية ولم تعد تكتفي فقط بردود الأفعال وهو ما يبرز في الصور التعبيرية التالية:
أولاً- الجهود التي بذلتها روسيا الاتحادية في إنشاء «مسار أستانا» لحل الأزمة السورية، إذ شكل هذا المسار بداية الأمر إبعاد الملف السوري عن التأثير الغربي والأميركي خصوصاً، كما تحولت المدينة الروسية سوتشي، إلى إحدى أهم المدن المستضيفة والراعية لمحادثات السلام وحل النزاعات والأزمات الدولية وغير الدولية، كالأزمة السورية والانقسام الفلسطيني والأزمة الليبية وغيرها، وهو ما كسر احتكار جنيف للاستغلال الدولي.
ثانياً- الحزم في الموقف الروسي بالتصدي لتوسع حلف الشمال الأطلسي في أوكرانيا، حيث أصبح هذا الصراع أحد أبرز العوامل التي ستسهم في تغيير طبيعة وشكل النظام الدولي وتجعله أمام ثلاثة خيارات، إما تعدد القطبية في حال انتصار روسيا وإرغام واشنطن بالخضوع للأمر الواقع، أو استمرار الصراع وبقاء الفوضوية السائدة ضمن هذا النظام، أو هزيمة روسيا الأمر الذي سيسهم في تعزيز التوحش الأميركي بالهيمنة الدولية.
ثالثاً- اللجوء نحو تشكيل التحالفات الاقتصادية ذو الأبعاد الجيوإستراتيجية، مثل الـ«بريكس» و«رابطة جنوب شرق آسيا» و«شنغهاي»، بهدف إيجاد صيغة من التعاون الاقتصادي التكاملي والنقدي للحد من التأثير الأميركي والاتفاق على التعامل بالعملات الوطنية في ظل عدم القدرة على تنويع سلة العملات الدولية أو العجز عن إيجاد عملة جديدة تنافس الدولار أو تقلص دوره.
رابعاً- المساعي الروسية- الصينية لإحداث توازن إقليمي في الشرق الأوسط وصولاً للعمق الآسيوي وذلك من خلال إطلاق مبادرات من شأنها نزع فتيل الصراعات ما بين القوى المتناقضة والمتصارعة على الجغرافيا الإقليمية، مثل الوساطة الصينية المدعومة روسياً للتقارب السعودي الإيراني، والمسار الروسي- الإيراني الهادف لحل الخلاف التركي- السوري، والدور الإماراتي- الروسي في عودة العلاقات السورية- السعودية والتي تبدو أنها غير بعيدة المنال من خلال عودة هذه العلاقات بشكل تدريجي وقد تكون على شكل عودة العمل القنصلي وزيارة وزارية على مستوى الخارجية برفقة وفد إماراتي، بعد نضج الظروف والبيئة المهيأة لذلك.
هذه التغييرات الأخيرة من شأنها فعلاً أن تسرع من تقلص النفوذ الأميركي في المنطقة ولكنها مازالت مجرد محاولات آنية وتكتيكية وتحتاج لإرادة سياسية لاتخاذ خطوات جريئة وحازمة تتطلب توفير إمكانات لتلقي ردة الفعل الأميركية، ولاسيما أن النفوذ الأميركي في المنطقة وإن تراجع بالقياس مع النفوذين الروسي والصيني، إلا أنه مازال مؤثراً وبقوة سواء من خلال حلفائها الذين مازالوا يراهنون على علاقتهم الإستراتيجية مع واشنطن ووجود القواعد الأميركية في المنطقة إلى جانب العصا الاقتصادية والهيمنة الرأسمالية وغيرها من مؤثرات القوة الناعمة.