مؤشرات أنقرة الإيجابية لمغازلة دمشق.. ولكن!
صحيفة الوطن السورية-
محمد نادر العمري:
مازال النظام التركي يبعث برسائل متناقضة في إطار زعمه بتصحيح علاقاته مع سورية، حتى باتت بعض هذه الرسائل ولاسيما السياسية والإعلامية منها، تتضمن مؤشرات إيجابية نقيضة لسلوك عدواني في الميدان العسكري تشهده بعض الجبهات، من خلال استمرار الاعتداءات التركية على بعض نقاط الجيش السوري في مناطق عدة بالشمال السوري بذريعة ملاحقة عناصر حزب العمال الكردستاني، إذ تتمثل أبرز هذه المؤشرات الإيجابية في:
أولاً- حالة عدم الاستقرار إن لم نقل حالة التخبط التي بدأت تنتشر في صفوف ما يسمى «الائتلاف المعارض»، الذي وإن لم يتلقَ طلباً رسمياً لوقف نشاطاته في تركيا، وفق زعم أعضائه، إلا أنه بدأ يتلمس تغييراً في التعامل التركي الرسمي معه، برز ذلك سواء من حيث عدم تغطية نفقة بعثته التي غادرت نيويورك لحضور اجتماعات الدورة 77 للجمعية العامة للأمم المتحدة، أو من حيث تخفيض مستوى تمويل نشاط الائتلاف وإبلاغ أعضائه في أثناء اجتماع شهدته أنقرة نهاية شهر أب الماضي جمع ممثلين عنه مع مسؤولين في الخارجية التركية بخفض رواتب أعضائه بذريعة الأزمة الاقتصادية التي تعصف بتركيا.
ما سبق يوحي بأن النظام التركي لم يتخذ خطوة كاملة تجاه دمشق فيما يتعلق بملف المعارضة، بل يسعى هذا النظام لنصف خطوة وهو ما يتيح له بالاحتفاظ بورقة المعارضة للضغط على دمشق في إطار التفاوض الأمني أو حتى السياسي من جانب، ومن جانب آخر حصر خيارات هذه المعارضة بين القبول بالتوجهات التركية أو إعادة هيكلتها من خلال تشكيل جسم سياسي جديد يكون مقبولاً للحكومة السورية على طاولة المباحثات في مرحلة مقبلة.
ثانياً- توجه النظام التركي بافتتاح المعابر التي تشكل صلة الوصل والرئة الاقتصادية للمنطقة الشمالية السورية، وذلك بعد إعلان الحكومة السورية افتتاحها لمركز التسوية ضمن إطار المصالحة في خان شيخون بمدينة إدلب، وهو ما يعني أن النظام التركي حاول الإيحاء بالتعاطي إيجابياً مع الجهود السورية لإجراء تسويات تمهد لعودة السوريين من مناطق سيطرة المسلحين أو من المخيمات في الأراضي التركية، وهو ما دفع النظام التركي للضغط على التنظيمات المسلحة لافتتاح ثلاثة معابر في ريفي إدلب وحلب، قد تبدأ بمعبر «أبو زندين» على أن يعقبها معبرا «ترنبة وميزنار» بعد تأهيلهما لوجستياً، ويهدف النظام التركي من ذلك إلی تطبيع العلاقات الاقتصادية الجزئية بشكل غير مباشر مع الدولة السورية وهو ما يتطلب تنسيقاً أمنياً وصولاً لتنسيق سياسي، وفي الوقت ذاته سيشكل افتتاح هذه المعابر تناغماً بين توجهات النظام التركي للتخلص من أعباء اللاجئين السوريين ومساعي الحكومة السورية بإجراء تسويات لهم، يتزامن ذلك مع مسارعة تركيا لتوحيد الفصائل المسلحة ودمجها في جسم عسكري موحد يكون خاضعاً لها ويقلل فرص استثمارها من دول أخرى، ولاسيما الولايات المتحدة الأميركية الرافضة لأي مصالحة تركية سورية بواسطة روسية وإيرانية، فضلاً عما تشهده مدينة إدلب وريفها من تصفيات لقيادات مسلحة أجنبية أو راديكالية ترفض أي تسوية تنتهي بعودة المدينة لسلطة الحكومة السورية، لذلك تتهم هذه المجموعات من يقوم بالتصفية بأنهم أدوات بيد النظام التركي في إطار توجهه للمصالحة مع سورية نتيجة خضوعه للضغوط من روسيا التي قامت مؤخراً وبمشاركة سلاح الجو السوري بتصعيد وتوسيع استهدافات مراكز تجمع وتدريب الفصائل المتطرفة في إدلب.
ثالثاً- على الرغم مما تضمنه بيان حركة حماس، ذات الخلفية الإيديولوجية الإخواني، من غزل واضح لدمشق وإعرابها عن تضامنها معها ضد الاعتداءات الصهيونية في إطار مساعيها لتصحيح علاقاتها مع سورية، غير أن هذا الإعلان وهذه الاستدارة جاءت نتيجة عوامل عدة أبرزها: الدور الذي لعبه حزب اللـه اللبناني عموماً وأمينه العام حسن نصر اللـه بشكل خاص لتذليل العراقيل بين سورية وحماس بهدف توحيد قوى المقاومة بدعم من الجمهورية الإسلامية الإيرانية بعد وقف الدعم المالي للحركة من قطر وإخراج قسم من كوادرها خارج الأراضي القطرية، إلا أن مثل هذه الاستدارة ما كانت لتقوم بها حركة حماس من دون ضوء أخضر ممنوح لها من قبل مركز تنظيم الإخوان في تركيا.
لذلك فإن هذه المؤشرات من الجانب السياسي تحمل بوادر إيجابية، إلا أنها لا يمكن اعتبارها خطوات جادة أو استدارة كاملة، ذلك لأن النظام التركي لا يريد الإقرار بسلوكه العدواني في المنطقة وهو ما يدفعه نحو المزيد من المراوغة والتطبيع الإعلامي فقط، مقابل صمت واضح من الدبلوماسية السورية الحذرة من هذه المراوغة، في ظل وجود عوامل معطلة تتمثل أبرزها في عاملين:
1- استمرار رئيس النظام التركي رجب طيب أردوغان برفع سقف مطالبه، وكان آخرها ما تضمنه خطابه في الجمعية العامة للأمم المتحدة، عندما اشترط نقل اللاجئين نحو مدن «الطوب» الممولة قطرياً لتتبع إدارياً للنظام التركي، بالتزامن مع رفض تركيا لبحث ملف انسحاب قواتها من سورية وطرحها مقاربة «الخطوة مقابل الخطوة» وذلك في أثناء اجتماع وزراء خارجية «أستانا» على هامش اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة.
2-أما العامل الثاني فهو يتمثل في المسارعة الأميركية لقلب الطاولة وخلط الأوراق مجدداً على خصومها وأصدقائها في سورية بهدف توسيع دائرة صراعها مع روسيا، وتجلى ذلك في الاجتماعات المتتالية التي ضمت مسؤولين سياسيين وأمنيين أميركيين مع أعضاء ما يسمى «الائتلاف» و«الحكومة السورية المؤقتة» في نيويورك في أثناء اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة، لبحث عودة النفوذ والدور الأميركي في إدلب، عبر طرحها خطوات عسكرية تتمثل في تشكيل جسم عسكري موحد رافض للتوجهات التركية، إلى جانب تبني مشروع هادف لإنعاش اقتصادي للمنطقة سرعان ما ترجم واقعياً من خلال إرسال وفد من المستثمرين ذوي الجنسيات المختلفة للمنطقة الشمالية الغربية من سورية لبحث فرص الاستثمار ودراسة احتمال ضمها للمناطق التي تسيطر عليها ميليشيات «قسد» وإعفائها من «قانون قيصر» لجعلها منطقة مستقلة عن التأثير التركي وتستطيع تمويل نشاطها الإرهابي ضد الدولة السورية، وتطوير العلاقات بين هذه المنطقة مع ما تسمى «الإدارة الذاتية» وتحويل التطبيع الاقتصادي بين الخارطتين لتطبيع سياسي وعسكري، في ظل ممانعة أميركية لأي جهود روسية لإيجاد تسوية للملف السوري.
لذلك فإن كل المؤشرات التركية هي بوادر إيجابية ولكنها ليست جديرة بالرهان لكونها جاءت نتيجة الحاجة التركية للمصلحة التي تربطها مع روسيا، وهذه المصلحة قد تتبدل في إطار تغيير الموازين لتنقل تركيا بمرحلة معينة للحضن الأميركي.