مؤتمر الدوحة بيع الماء في حارة السقائين
صحيفة الوطن السورية ـ
عبد المنعم علي عيسى:
أريد لمؤتمر الدوحة أن يكون علامة فارقة بكل المعاني، داخلياً يتسع ليشمل أطيافاً أخرى من المعارضة السورية يعاد استيعابها في إطار ما أطلق عليه «إعادة هيكلة المعارضة» وخارجياً في زيادة احتضان الخارج لهذا الكيان بما يضمن بقاءه واستمراره لكي يعاكس في ذلك منطق الأشياء. على وقع تصريح هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأميركية في 31/10/2012: (إن المجتمع الدولي لم يعد ينظر إلى «المجلس الوطني السوري» على أنه الممثل المرئي للمعارضة السورية) وكذلك تصريح الناطق باسم وزارة الخارجية البريطانية جون ويلكس 7/11/2012 الذي قال فيه: «إن على المعارضة السورية الاستعداد لهزيمة محتملة» دارت المناقشات الأولى بدءاً من 3/11/2012 في الدوحة، ولنا أن ندرك حجم التأثيرات النفسية التي تركتها تلك التصريحات على «المجلس» فكيف إذا جاءت تلك التصريحات من «القابلة» التي ولد على يديها ذلك الكيان.
وحدها تركيا حاولت في اللحظة الأخيرة تقديم ما يهدئ النفس عبر الدعم الذي قدمه وزير الخارجية التركي داود أوغلو في لقائه مع ما أطلق عليه «مسؤول الإعلام في المجلس الوطني السوري» الذي جرى في 3/11/2012 وقد رشح عنه أنه كان مملوءاً بعبارات التشجيع وضرورة ضبط النفس والتحلي بالصبر.
لم تستطع المداولات الأولى التي بدأت في الثالث من الشهر الجاري جذب الاهتمام عن الحدث الأهم الذي جاء عبر الرياح الأميركية وبدا كأنه يهدد كيان «المجلس» برمته عبر إحداث تغيير جذري وهو ما أطلق عليه مبادرة: فورد- سيف، حاول المؤتمرون تأجيل الانفجار فشكل ذلك جمراً تحت الرماد لابد له أن يستفيق وهو ما كان في اليوم قبل الأخير من نهاية المؤتمر.
عندما نوقشت الهيكلية الجديدة تمسك الإسلاميون بـ«مجلسهم» على الشكل الذي كان عليه، ورفضوا الخضوع لأي تعديلات من شأنها أن تؤدي إلى تغيير في التوازنات القائمة وطبيعة اتخاذ القرار (وإن كان المؤتمر قد اتخذ قراراً بتعديل طريقة اتخاذ القرار إلى الانتخاب بعد أن كان بالتوافق وهو أمر يصب في النهاية في مصلحة الأغلبية التي يسيطر عليها الإخوان المسلمون) فقد كانت غريزة البقاء هي المحرك الأساسي في هذا الرفض والتي تدرك في أعماقها أن فتح النوافذ سيوف يؤدي إلى أن تذرو الريح كل شيء.
انتخب المجلس في 7/11/2012 الهيئة العليا التي تتكون من 41 عضواً قيل إن ثلثهم فقط من المحسوبين على التيارات الإسلامية، إلا أن الواقع كان يقول إن أكثر من الثلثين هم من المحسوبين على تلك التيارات، وتفسير ذلك يعود إلى توافقات سرية تضمن للإخوان المسلمين ولاء الثلث الثاني على أن يبقى هذا الأخير مستتراً تحت الاسم الذي هو عليه.
جاء انسحاب ما يسمى «اتحاد التنسيقيات في الداخل» في اليوم الأخير 9/11/2012 ليشير إلى خلل بنيوي وقد قيل إن السبب يعود إلى هيمنة الإخوان المسلمين على القرار داخل المجلس، وهذه المرة لم يأت التشخيص من الطبيب الأميركي، بل جاء الرد من صلب «المجلس» بل من الحراك على الأرض.
في خطوة ذات دلالة انتخب الأمين العام لحزب الشعب السيد جورج صبرا (بل عُيّن تعييناً كما قال السيد هيثم مناع في مقابلة له مع قناة الميادين 9/11/2012 فهو استبعد من الهيئة العليا (41 عضو ثم عُيّن رئيساً للمجلس)، والسيد صبرا ممن يحسبون على الشيوعيين وبشكل أدق على التروتسكيين، وهي خطوة تهدف إلى بعث الاطمئنان في الغرب أولاً (وفي الداخل ثانياً) الذي بدأ يتوجس من سيطرة الإسلاميين على جميع مفاصل «المجلس» وقد جاءت تلك الإشارة ساذجة ومستنسخة كمن يريد أن يذر الرماد في عيون مبصر كطريقة وحيدة لتشويش الصورة أمامه.
سبق للمجلس أن اتبع الأسلوب نفسه في تركيبة الوفد الذي اختاره ليمثله في جلسة مجلس الأمن 4/2/2012 والتي انتهت بالفيتو الروسي الصيني الشهير فقد احتوت تلك التركيبة رمزين مسيحيين (وهي الصفة المراد إبرازها) الأول رئيس الاتحاد الآشوري العالمي والثاني رئيس الاتحاد الآشوري الأوروبي.
تشبه هذه الخطوة «بيع الماء في حارة السقائين» فلا يمكن للغرب أن يبني قناعاته وتصوراته على مثل هذه الشكليات، وهو يدرك أن الواقع على الأرض مخالف تماماً لهذه الصورة، ولم تكن بعيدة عن ذاكرة الغرب تجربة الإسلاميين في مصر الذين كانوا قبل كل استحقاق يعلنون أنهم لا يريدون ذلك المنصب حتى إذا فازوا بأغلبية البرلمان ولاحقاً برئاسة الجمهورية انطلقوا مؤخراً إلى جمعة تطبيق الشريعة 9/11/2012.
هذه الأمور لا تعني الغرب (ونعيد ذلك لأن همّ المجلس أولاً وأخيراً هو الغرب الذي أوجده ويستمر في رعايته) وهو لا يهتم بالقشور بل بنكهة اللب، وهذا ما يفعله أي عاقل بكل ثمر محاط بقشور لا تؤكل حتى إذا تكشف القشر ليبين اللب تبينت النكهة التي يمكن الحكم عليها في مدى فائدتها وسعرها الذي يتحدد تبعاً لذلك.
كفى خداعاً «الشعب الأميركي» ليس صديقاً للمعارضة السورية، وهو ليس مرتاحاً لهذا الغوص في متاهات التشدد المذهبي الذي لا يعرف أحد إلى أين يمكن أن يوصل، بل إن الغرب متوجس من كثير من المؤشرات التي باتت تصله تباعاً عبر التقنيات نفسها التي اعتمدتها ما تسمى التنسيقيات في نقل ما تريد (ما تريده فقط) إلى الخارج.
كان مطلب الغرب من مؤتمر الدوحة هو توحيد المعارضة السورية فجاءت النتائج عكسية، وهو ما أكدته مقررات الدوحة، وإذا ما أردنا الإجابة عن مبررات حدوث ذلك فإننا نقول إن توحيد المعارضة أمر لا يمكن أن يحدث عبر النيات الحسنة فقط أو عبر التقاربات الشخصية، بل إن ذلك يتأتى عبر توافر درجة انسجام فكري بالحد الأدنى بين أطراف المعارضة، ومن تقارب في الرؤيا ينتج من مستويات معرفية متقاربة يمكن أن تؤدي إلى توحد تلك الرؤى، فلا يمكن أن تطرح مسألة رياضية على طالبين متفاوتين في المرحلة الأولى في الصف الرابع والآخر في الثالث الإعدادي مثلاً، إلا ويجب أن تتوقع إجابتين متناقضتين بشكل كبير وتحمل كل منهما المستوى الفكري لمن أجاب.
كان لافتاً تصريح جورج صبرا في مقابلة له مع BBC في 28/10/2012 قال فيه: «نعم صحيح أن صلب القوة التي تقاتل النظام في سورية هي من الجهاديين»، والآن ما رأيه في ذلك؟ وهل يستطيع أن يقول كلاماً بالمعنى نفسه؟ ألا يعني تصريحه أن الحراك الشعبي السوري ليس هو الطرف الآخر في مواجهة النظام، بل هم الإسلاميون الذين جاؤوا من كل البقاع الإسلامية لإسقاط النظام في سورية.
كانت أحلام الذين أشرفوا على تأسيس المجلس الوطني السوري وهم من الغرب وتحديداً الشركات الأميركية أن يكون ذلك البناء بطبيعة كرة الثلج نفسها التي يزداد حجمها كلما تسارعت إلى الأمام، إلا أن ما حدث هو العكس فجاء البناء مماثلاً لقطعة ثلج في جو حار تفقد كل لحظة جزءاً من حجمها.