مؤامرة غرق لبنان في بحر النفط
جريدة البناء اللبنانية-
كلود عطية:
قبل الدخول في المعطيات الحالية حول التدخل والأطماع الأميركيّة لا بدّ من العودة الى مقاربة أنطون سعاده لهذه المسألة التي كانت بالنسبة إليه مواجهة مع القوى الدوليّة ذات المصالح الكبرى، الولايات المتحدة وبريطانيا المتنافستين على النفط، والمتفقتين على تصفية من يدعو إلى تحرير النفط أو تحريكه ضدّ الاستعمار، والصهيونية التي أقامت كيانها بدعم الغرب غير المحدود لها.
إنّ سعاده كان يمثل القوة الجديدة الصاعدة لمنازلة هذا التنين، كما أعلن ذلك في خطاب دير الغزال: «ما أخبث التنين الذي ننحدر لمنازلته وسحقه، إنه تنين متعدّد الرؤوس، كثير البراثن والمخالب حادّ الأنياب… إنها أنابيب النفط التي يبيعها الفساد للأجنبي بيعاً، أنابيب ما أشبه انسيابها في أرضنا بتلك الأفاعي التي تنساب نافثة سمومها! إنها الرشى تعطى لأبناء الذلّ، لورثة الظلم في الأمة، ليعلنوا ما لا يريد الشعب إعلانه، لا ليعلنوا إرادة الشعب، بل إرادة الأجنبي المفروضة على الشعب لذلّه».
بهذا الخطاب وغيره من الخطب رسم سعاده مشهد المواجهة، مشهد التصدّي لكلّ القوى المعادية في منعطف خطير من المؤامرة على بلادنا، وهو نهج أكبر بكثير من السعي إلى إقامة نظام علمانيّ ضدّ النظام الطائفي في لبنان، فهذا جزء من الاستهداف لا كلّ الاستهداف، بل الهدف هو تجميع قوة الأمة في مواجهة المخطط المعادي.
المخطط المعادي الآن هو نفسه الذي حذّر منه سعاده… هو أميركا التي تريد من لبنان أولاً نفطه الذي ظهر، وتريد ثانياً أن تهدي «إسرائيل» من أرض لبنان ومائه مساحات شائعة تلزمها كما تقول لأغراض دفاعية في البر وتحتاجها لما فيها من غاز في البحر فضلاً عن توطين نصف مليون فلسطيني فيه، وتريد ثالثاً إقامة حكومة لبنانية لا تعترف بالمقاومة وطبعاً لا تضمّها ولا تصغي إلا لأوامر أميركا. حكومة تكون طيّعة لها ولا صوت فيها لمعترض على إملاءات أميركا أو لمطالب بحكومة سيادية. وحتى يكون لها ذلك وتطمئن لتحقيقه فإنها تريد إخراج حزب الله من الحكومة ثم تحجيمه في مجلس النواب ثم عزله عن بيئته ثم خنقه ودفعه الى الموت البطيء من غير حرب او مواجهة.
اذن لأميركا والغرب أهدافهما وللشعب اللبناني مطالبه، أما الخطورة في الأمر فإنها تكمن في إصرار الخارج على المزج والخلط بين مؤامراته وأهدافها وبين الحركة الشعبية ومطالبها، ليتمكّنوا من تحقيق أهداف المؤامرة على لبنان عبر استغلال جوع الشعب اللبناني وألمه الذي أنتجته سياسات أتباع أميركا في العقود الأخيرة، علماً أنه عندما تتحقق أهداف المؤامرة في وضع اليد على النفط واقتطاع الأرض وتحوّل لبنان محميّة أميركيّة لا مقاومة فيها، عند ذلك ستغيب مطالب الحراك الشعبيّ وقد يتحوّل الوضع اللبناني الى أسوأ مما كان عليه.
وقد بدأت نذر ذلك بالظهور كما وسيتمسك الأميركي بالطبقة السياسية الفاسدة والناهبة للبنان لتتابع سياسة النهب وإغراق لبنان بالديون حتى تتيح لأميركا توطين الفلسطينيين خدمة للعدو «الإسرائيلي». ومن المفيد أن نذكّر هنا بأنّ ما رُفع من مطالب في إطار ما سمّي «ثورة» سورية وما انتهت اليه الأمور من سرقة أميركا للنفط السوري واحتلال تركيا لأرض سورية، واقع فرض على سورية وشعبها التحضير لإجراءات فاعلة لتحرّر أرضها وثروتها.
في السياق نفسه، ما يثبت فكرة المؤامرة الأميركية أيضاً، الخطة «الفيلتمانية»، التي رسمت خارطة طريق لمستقبل لبنان، وضرورة ان لا تغادره أميركا، وفق الديبلوماسي الأميركي، لأنّ روسيا والصين إضافة الى إيران وسورية، سيكون لهم النفوذ فيه، فتعتبر المصادر، انه بيت القصيد، وهو إخراج لبنان من «محور المقاومة»، كما من إقامة علاقات مع روسيا والصين، وقد سبق وتحدث الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله عن التوجّه نحو الصين لحلّ الأزمة الاقتصادية، وجذب استثمارات منها، وهذا ما أزعج أميركا التي تريد للبنان أن يبقى يدور في فلكها، فتمنعه من أن يحصل على سلاح روسي للجيش فتعرقل مهمته، كما ترفض أن تدخل شركات غير أوروبية مثل الصينية والإيرانية، لحلّ أزمة الكهرباء، والبنزين، أو بناء سدود مياه وطرقات ومشاريع أخرى.
كما يمكننا التأكيد على أنّ اميركا تتطلع الى أن تكون شريكة في النفط اللبناني، الذي دخلت اليه ثلاث شركات وهم «نوفاك» الروسية و»ايني» الايطالية و»توتال» الفرنسية، وهذا ما أزعج واشنطن، التي عملت على تأخير ترسيم الحدود البحرية والبرية للبنان عند خط الناقورة، وأعطت أميركا «اسرائيل» في المنطقة الخالصة المتنازع عليها عند بلوك رقم 9 في الجنوب والبالغة 860 كلم2، نصف المساحة التي هي حق للبنان، الذي قرّر البدء بالتنقيب فتحركت «إسرائيل» مع أميركا، لمنع حصول ذلك.
في التحليل السياسي، لا بدّ من قراءة متأنية للإفادة السابقة لفيلتمان، عندما يتحدّث عن أنّ روسيا باتت لديها قواعد على البحر الأبيض المتوسط، وموانئ وآبار نفط، وهو ما يضايق أميركا ويهدّد مصالحها في المنطقة، فتحاول استغلال «الشعب اللبناني»، لتحقيق أهدافها ومصالحها في لبنان.
يمكننا أن نثبت المخاوف الأميركيّة من التمدّد الروسي ما جاء في صحيفة الكرملين الروسية «vz» من أنّ الحراك اللبنانيّ مثلاً هو «صراع جديد في الشرق الأوسط يهدّد مصالح روسيا». وتقول الصحيفة إنّ نقطة ساخنة جديدة قد تشتعل من جديد على الحدود مع سورية، وأنّ الأزمة السياسية في لبنان «جار بشار الأسد» تهدّد بتدمير السلام الهش بين الطوائف. وتتساءل عن القوى، التي تقف وراء الأزمة اللبنانية الجديدة، وعن الأخطار التي تحملها الاضطرابات في بيروت للمنطقة ككلّ، وما إذا كان بوسع روسيا «المُصلح الرئيسي في الشرق الأوسط» التأثير على الوضع.
كما ونثبت هذا الكلام بما نقله موقع «rambler» الإخباري فيضع الحدث اللبناني ضمن أنبائه المالية، ويرى أنّ «الاحتجاجات اللبنانية تهدّد بإلحاق خسائر بروسيا»، ويعتبر أنّ روسيا لذلك قلقة وهي تتابع الأحداث في لبنان. ويذكّر الموقع بمذكرة التفاهم والتعاون في حقل النفط والغاز، التي وقعها البلدان في العام 2013، وتعزز التعاون بين البلدين منذ ذلك التاريخ، برأيه. فقد وقعت الحكومة اللبنانية في نهاية العام 2017 عقداً مع ثلاث شركات من بينها شركة روسية للتنقيب عن النفط والغاز في حقولها البحرية، واتفاقية أخرى مطلع 2020 مع شركة روسية منفردة حول إدارة واستثمار وتوسيع خط أنابيب النفط في طرابلس. وينسب الموقع إلى مصادر دبلوماسية في بيروت قولها، بأنّ لبنان معنيّ بتوسيع التعاون الاقتصادي بين البلدين ومشاركة البيزنس الروسي في المشاريع الكبرى في لبنان، على غرار التنقيب عن النفط والغاز في حقوله البحرية. ولذلك، يعتبر الموقع، أنّ مخاطر سقوط الحكومة اللبنانية تطال موسكو بالمباشر.
في النتيجة، انّ الهدف من كلّ ما تقدّم هو إخضاع الشعب اللبناني للإرادة الأميركية وللشروط الأميركية والضغط على الحكومة اللبنانية والقيادات السياسية والمدنية المستحدثة ليتخلوا عن حقوقهم وأرضهم وكراماتهم ويخضعوا بالكامل للاحتلال «الإسرائيلي» ويقبلوا بصفقة القرن التي تُجهز على ما تبقى من القضية الفلسطينية لمصلحة الكيان الصهيوني. وهذا الكلام الذي يضعه البعض في إطار نظرية المؤامرة، هذا البعض هو متآمر منذ توليه السلطة والتاريخ لا يرحم كلّ من تعاون مع العدو الصهيوني وكلّ من تآمر مع دول الغرب والخليج على حرية وسيادة لبنان.. وهذا ما يؤكد أيضاً نظرية المؤامرة واستغلال الشعب اللبناني لضرب المصلحة الوطنية التي تبدأ وتنتهي بمقاومة العدو…
بناء عليه، يوم كان معظم رواد النهضة ورجال الفكر والثقافة غارقين في الخطب الرنانة والنظريات وإلقاء المواعظ، عرف سعاده كيف يكوّن رداً على عهود الانحطاط والجهل والتخاذل. وهكذا عرف من أين يبدأ، ومن أين تنطلق النهضة وحركة التغيير فقال في مقال نشره في «المجلة» بتاريخ 1/4/1933 ما يلي: «وأوّل ما يجب أن نبدأ به هو أن نحوّل التفكير النظري، الذي لا يحقق شيئاً بذاته إلى تفكير عملي يدفعنا إلى العمل على تحقيق ما نؤمن به ونعتقد بصلاحه… العمل للخير العام في ظلّ السلام والحرية… أقول: تفكير عملي مجموعي لأجعل منه ما يقابل التفكير العملي الفردي».
وكم نحن اليوم بحاجة إلى تجسيد هذا «التفكير العملي المجموعي» بديلاً عن المواعظ الرنانة البعيدة عن حركة الصراع والفعل في الواقع الملموس، وبديلاً عن المكاسب الأنانية والأداء الشخصاني.
واذا كانت الأزمة اقتصادية، فمختصر القول في الناحيّة الاقتصادية هي القاعدة التي أرساها سعاده «إلغاء الإقطاع وتنظيم الاقتصاد القوميّ على أساس الإنتاج وإنصاف العمل وصيانة مصلحة الأمّة والدولة» هي القاعدة التي تقدّمت وما زالت على كلّ الحلول الاقتصاديّة التي اعتُمدت ولم تؤدِّ إلَّا إلى نتائج قزميّة.
إذا كانت المشكلة بالطائفية السياسية، لنعد الى فكر سعاده بفصل الدين عن الدولة، هذا الفصل ضرورة ملزمةٌ لكون تعلّق المؤسّسات الدينية بالسلطة الزمنية يشكّل العقبة الكبرى أمام تحقيق الوحدة القوميّة، ويسيء إلى جوهر الدين كقيمة اجتماعية بانية.
وإذا كانت المشكلة بالتبعية والمصالح الخارجية، والتهديدات الصهيونية، فما علينا الا التأكيد على مبدأ مواجهة الغطرسة الأميركية التي تستعمل القوة المفرطة للهيمنة على العالم، بينما الشعوب تتمسك بالمقاومة كخيار للدفاع عن الحق القومي، وتحقيق الحرية والعدالة لكلّ الأمم من دون هيمنة أو استفراد أو استكبار. وهذا ما استشرفه سعاده في مقال نشره في المجلة بتاريخ 1/5/1924 تحت عنوان «سقوط الولايات المتحدة في عالم الإنسانية الأدبي».
وهذا المقال الذي يحاكي الراهن جاء فيه «إنّ الشرقيين عموماً فقدوا الثقة الأدبية بالولايات المتحدة وسائر الدول الغربية، لأنّ الولايات المتحدة لا تفرق في شيء عن أخواتها الغربيات الطامعات في التلذذ بالاستعمار والاستبداد…»، و»لتكن الولايات المتحدة على ثقة من أنّ الدولارات مهما كثرت وفاضت فهي لا يمكن أن تعمي بصيرة التاريخ… وستظلّ الولايات المتحدة ساقطة إلى يوم يغيّر فيه الأميركيون ما بأنفسهم».