لواء الثورة.. حلم يأبى الرحيل
موقع العهد الإخباري-
أحمد فؤاد:
حين جرت الكلمات على لسان السيدة زينب (ع) أمام ابن زياد، كان الحق يرسم حدود انتصاره أمام الباطل كله، وأمام القوة كلها، مستعليًا على الحياة ذاتها، النجاة الحقيقية أمام تفاوت الكفة بالمعايير الإنسانية المعروفة، كانت “ما رأيت إلا جميلًا” راية النصر خفاقة، وكانت عقيلة بني هاشم تلقي درس كربلاء الأخير في بهاء وعظمة، يليقان بسليلة بيت النبوة وذروة الشرف.
في الظرف الملتهب جدًا والصعب، والمتأجج بشماتة العدو وخذلان الناس، وعقب استشهاد الإمام الحسين(ع)، لم تكن الكلمات إلا إعلان الموقف الواضح بالاستمرار في طريق الحق، مهما كانت التضحيات التي بذلت، وهي عظيمة، أو الأثمان المنتظرة، وكانت مريرة، من الصبر على السبي ومرارة الحياة دون الإخوة والأحباب، كان الموقف كله مظلمًا حزينًا مأساويًا، إلا من جمال النبوة والولاية وكمال الإيمان.
كان الدرس الأبلغ في كربلاء يستكمل ما جرى في الطف، لكن في قصور بني أمية، وبين جيوشهم وأمام أمرائهم وقادتهم، وكانت السيدة زينب (ع) بطلة الواقعة الجديدة، تمنح لمن أراد له الله أن يرى خلاصة هذا الدين وكماله، وهو الفداء، درسًا لم ينته على الإطلاق من تاريخنا العربي والإسلامي، نراه متجددًا في وجه كل أم عربية توزع الحلوى ابتهاجًا بشهادة الابن أو الأخ أو الزوج، ومشهد كل صديق وقف مستبشرًا يصلي على جنازة أحد الشهداء، وكل دمعة صادقة من أخ تختم عهدها في لحظة لقاء أخير.
وضع المشهد كله شروط طريق الحسين(ع)، فالدم الزكي هو الثمن، والموت ليس إلا مرحلة واجبة على طريق الرحلة المباركة، والأرواح كلها تهون لقاء الصحبة، والأهم أن العين المؤمنة لا ترى المعادلة كما تراها الغالبية بالحساب والرقم، بل بالإيمان والبصيرة، وتستولد الإنجاز من الظرف المستحيل، وآلام الفقد لا تكون سوى وقود يزيد المؤمنين وعيًا وعنادًا وإصرارًا وثقةً وتوكلًا على الله واتصالًا به.
قليلةٌ جدًا الشخصيات التي مرت على منطقتنا، ويمكن لأي شخص تصنيفها على أنها “صانعة الحدث والتاريخ”، هم أناس قدموا من عالم آخر لا ينتمي لعالمنا على الإطلاق، لم يذوقوا مرارة الخيبة والخذلان ولا يعرفون للمهادنة سبيلًا، جاؤوا لفتح الطريق وزرع الأمل وممارسة الجهاد فعلًا لا قولًا، وعبروا مسافات شاسعة من الإنجاز في لمح البصر، ثم غادروا مسرعين أفضل ما تكون المغادرة وأكثرها قربًا من عالمهم هم، بالشهادة.
هذه المنطقة العربية البائسة جدًا، والفقيرة جدًا جدًا، إلى النماذج الهائلة للفداء، والمحتاجة حد التلهف إلى النماذج الإنسانية الخالدة بموتها، كانت على موعد مع جريمة العصر الكبرى، باغتيال الشهيدين اللواء قاسم سليماني وأبو مهندي المهندس، ليتجدد عهد العراق والمنطقة مع نموذج الحسين(ع) المتألق أبدًا، ويروي الدم من جديد الحكاية الأنبل في تاريخنا الإسلامي، لكن بكثير من كسرة القلوب والحزن المشروع على الرحيل المبكر جدًا لرجل تجسدت فيه أحلام عظيمة وآمال كبار.
لكن قبل الرحيل المفجع ألقى الحاج قاسم كلمته، ومؤداها أن لواء الثورة هو مع الجماهير الحقيقية، وبينهم، وأن القوى التي غيبها حكم صدام الطويل للعراق يمكنها صناعة المعجزات بالإيمان والعمل، والقليل من التنظيم والدعم، ليصنع مشهدًا مشابهًا للثورة الإسلامية، لكن في بغداد وبواسطة الحشد الشعبي، كان رهان الجنرال هو صناعة الوعي أولًا، ثم التعبئة الواسعة للجماهير، ودفعها دفعًا إلى صفوف الفعل والثورة والعمل المباشر ضد الطغيان والاستكبار.
في كل قصة الجنرال سليماني، القادم كشهاب سماوي والراحل إليها على عجل، لا تبرز فقط فكرة ما حققه من منجز مادي على الأرض، كمواجهة “داعش” في العراق، والتي كانت الولايات المتحدة تراها حربًا طويلة ستستغرق 10 سنوات، فإذا به ينهيها في شهور قليلة، ولا إيصال السلاح المقاوم إلى اليد الفلسطينية التي كانت فارغة قبله، تقارع الكيان المحتل بالحجر، واليوم تقارعه بالصاروخ والمدفع، فأنبت كل شق في فلسطين رعبًا للصهاينة، لكن ما هو أعظم من النجاح المادي، هو ذاك النموذج الذي قدمه للناس، الناس العاديين جدًا، من تجسيد لقدرة الفرد على القتال وصولًا للنصر مهما كانت القيود والعقبات.
الحلم الذي جاء مع الجنرال قاسم سليماني قائم ولم يغادر الأرض، حلم اليوم بالتحرير الكامل لفلسطين، حلم اليوم الذي ترتفع فيه الراية ويعلو فيه الأذان في المسجد الأقصى، حلم اليوم الذي تنطلق فيه إرادة هذه الأمة من عقالها، وتنفك من أسرها بالوهم الأميركي وتكسر قيود الأنظمة المتواطئة، وتعود إلى طريقها الوحيد الممكن لانتزاع النصر الرباني الموعود.