لماذا عاد العسيري إلى بيروت ولماذا ذهب هِلْ إلى الرياض؟

aoun - 3sayre - ksa - lebanone
انشغلت خلال اليومين الماضيين المحافل السياسية والدبلوماسية في بيروت بمحاولة تلمّس إجابة شافية عن سؤال طرح نفسه عليها بإلحاح، وهو عن الأسباب التي جعلت السعودية في هذا التوقيت بالذات تعيد سفيرها علي العسيري إلى بيروت بعد غياب سياسي دام لعدة أشهر، وبالأساس ما إذا كانت لهذه العودة صلة برغبة السعودية القيام بدور مباشر في الانتخابات الرئاسية اللبنانية المتعثرة والمرشحة لأن تذهب إلى حالة الشغور؟
ومن خلال رصد ما تسرب من معلومات عن حصيلة الأجوبة التي حصلت عليها المحافل السياسية والدبلوماسية في بيروت عن السؤال الأنف، يمكن تقديم عدة خلفيات برزت كأسباب حتمت على السعودية رفع الحظر عن عودة سفيرها إلى بيروت:

تكشف هذه الخلفيات عن صلة مباشرة بين عودة عسيري ورغبة الرياض بممارسة دور سياسي مباشر في الكواليس السياسية اللبنانية لإدارة مسار الاستحقاق الرئاسي اللبناني. وبحسب هذه المعلومات فان تطوراً هاماً حصل مؤخراً على طبيعة قرار التعاطي السعودي مع لبنان فخلال الفترة الماضية كان هذا القرار متروكاً بالكامل للأمير بندر بن سلطان الذي قرر التعاطي مع لبنان بوصفه «ساحة انتظارية» للحدث السوري الموكل إليه أيضاً حصرياً إدارته. وطوال هذه الفترة «البندرية» فإن الملك كف يد الآخرين عن التعاطي بالشأن اللبناني، سواء كانوا الأمراء الآخرين داخل الأسرة المالكة أو حتى أعضاء اللجنة السداسية التي كان شكلها الملك في مرحلة ما بعد اغتيال الرئيس الحريري لإدارة الأزمة اللبنانية. وحتى السفير عسيري اقتصرت مهامه منذ تعيينه سفيراً للمملكة في لبنان على إدارة الملف الإداري في السفارة، والقيام بأنشطة محددة سياسية يكلف بها من حين لآخر. ولكن بعد إقصاء بندر من منصبه وابتعاده عن الملفين السوري واللبناني، تمت بلورة قرار جديد في السعودية مفاده إعادة عسيري إلى بيروت ليقوم بدور سياسي باسم المملكة يحاكي لحد بعيد الدور الفاعل الذي قام به السفير السابق عبد العزيز خوجة في لبنان خلال فترة ما قبل عام 2009.

بمعنى آخر فان السفير السعودي عسيري، يعود اليوم إلى لبنان بحلة مسؤوليات فعلية جديدة، ولديه نوع من التفويض الذي يسمح له بإدارة مبادرات تخدم أهداف السياسة السعودية في الاستحقاق الرئاسي اللبناني.

كما تلاحظ المصادر عينها أن عسيري يعود إلى لبنان في لحظة سعودية خاصة سواء على المستوى الداخلي أو على مستوى مستجدات حصلت بخصوص موقعها الإقليمي والدولي. فداخلياً تكثر التكهنات بأن وزير الخارجية السعودي الحالي والمخضرم، يقترب من إبعاده «بطلب منه» عن منصبه، مفسحاً في المجال أمام حلول نجل الملك الأمير عبد العزيز مكانه أو حلول وزير انتقالي يمهد للأخير الطريق لبلوغ هذا المنصب في اللحظة المناسبة. وخارجياً يشيع كلاماً في الكواليس الخليجية عن أن السعودية في مرحلة ما بعد زيارة الرئيس باراك أوباما الأخيرة إليها، هي غيرها المملكة في المرحلة السابقة لها، وبخاصة على مستوى الملفين الإيراني واللبناني مع إبقاء الموقف الصدامي مع سورية محمياً من واشنطن. فبخصوص لبنان كان لأوباما خلال محادثاته السعودية، موقف واضح حض الرياض على الانخراط في الجهود الرامية إلى الحفاظ على الحد الأدنى من الاستقرار السياسي والأمني في لبنان ودعاها لقلب صفحة مرحلة بندر فيه. وقد أشرت التطورات الداخلية اللبنانية بوضوح على أن السعودية سايرت لحد بعيد هذه الرغبة الأميركية. وهناك اليوم انتظار لمعرفة كيف ستترجم الرياض في موضوع الاستحقاق الرئاسي قرارها الجديد الذاهب لتغيير موقفها من الساحة اللبنانية وذلك على نحو يكمل سلسلة مواقفها المستجدة كما ترجمتها بخصوص موضوعي تشكيل الحكومة السلامية والخطة الأمنية في طرابلس.

والمتابعون لهذا السياق المستجد في مواقف السعودية، يرون أن عودة عسيري في هذا التوقيت إلى لبنان هي جزء من إشارات السعودية المطلوبة أميركياً لتجسيد سياسات جديدة حيال أكثر من ملف داخلي وخارجي، ومن ضمنها الملف اللبناني.

ولكن السؤال الاستتباعي الذي حظي أيضاً بمتابعة من قبل هذه المصادر، هو هل يحمل عسيري معه كلمة السر السعودية عن اسم الرئيس العتيد أو طريقة إخراج انتخابه؟

لا توجد لدى هذه المصادر إجابة حاسمة بهذا الخصوص، ولكنها تؤكد على نحو قاطع أن عودة عسيري تريد بشكل أساسي توجيه رسالة لكل من يعنيه الأمر بأنها مهتمة بممارسة دور رئيس في عملية إنتاج الرئيس الجديد. وتدعم المصادر عينها استنتاجها الآنف بعدة معلومات، أبرزها ما تسرب إليها عن انه خلال لقاء الوزير جبران باسيل بالرئيس سعد الحريري في باريس، أخبره الأخير أن شرط نيل العماد ميشال عون رئاسة الجمهورية هو قرار إقليمي ودولي وأن الإجابة عنه لا توجد في بيت الوسط بل في الرياض وأيضاً في واشنطن. وتوحي هذه الإجابة أن قرار الرياض تنصيب نفسها محاوراً مباشراً عن فريقها السياسي اللبناني قد عمم على كل من يهمه الأمر.

والسؤال الإضافي الذي يطرح نفسه في هذا المجال هو عما إذا كان هِل ذهب إلى السعودية ليتابع تفاصيل وإشكاليات على صلة بما يوحي به كلام الحريري لباسيل عن أن قرار بلوغ عون الرئاسة بحاجة بالأساس لحوار أميركي – سعودي وليس بين الرابية وبيت الوسط؟!.

وبخصوص هذه النقطة الأخيرة تتوقف محافل مسيحية لبنانية في 14 آذار وأيضاً مصادر دبلوماسية غربية في بيروت، عند معطيات تعتبرها مهمة في مجال رصد حظوظ عون «المتواضعة» لنيل تأييد الرياض في إيصاله لرئاسة الجمهورية. وتفيد أبرز هذه المعطيات أن فكرة الإتيان بعون رئيساً للجمهورية طرحها أول مرة داخل نادي 14 آذار، السفير الأميركي السابق في لبنان جيفري فيلتمان. حصل ذلك بعد أشهر قليلة من الانقلاب الأبيض الذي نفذه تحالف حزب الله – جنبلاط على الرئيس سعد الحريري الذي قاد لإقصائه عن رئاسة الحكومة لمصلحة الإتيان بنجيب ميقاتي. آنذاك قال فيلتمان لممثلي 14 آذار في بيت الوسط، خلال زيارة سريعة له للبنان قادته من جولة خليجية، انه لم يسمع في أي عاصمة خليجية كلاماً يطلب من واشنطن إعادة الحريري إلى رئاسة الحكومة. وأضاف وهو يرد على مطالبة بعض أقطاب 14 آذار بضرورة تصحيح الوضع وإقصاء ميقاتي: لنكن صريحين. ماذا يستطيع أي رئيس حكومة من 14 آذار أن يفعل أكثر مما يفعله الرئيس ميقاتي. يجب طي صفحة الانتقام من ميقاتي وبدل ذلك على قوى 14 آذار في هذه المرحلة أن تركز على هدف عملي واحد، وهو حصار حزب الله سياسياً داخل لبنان، وحتى لو كان ثمن ذلك استقطاب عون وتقديم إغراءات له لفك تحالفه مع الحزب.

آنذاك لقي كلام فيلتمان استياء من أقطاب 14 آذار لا سيما المسيحيين منهم. وعلق أحدهم قائلاً: «أيعقل أن فيلتمان يطلب منا مكافأة عون على كل مواقفه المعادية لواشنطن!؟».

وران بعد هذه الواقعة صمت على مستوى تطبيق فكرة فيلتمان، ذلك انه لا فريق 14 آذار كان متحمساً لها، ولا عون كان بوارد الاستجابة لإغراءاتها. ثم بعد سنوات، وتحديداً بمناسبة الاستحقاق الرئاسي لهذا العام، ظهر أن هِل قام بتطوير فكرة فيلتمان عن الاستعانة بعون لإحداث اختراق في واقع الستاتيكو اللبناني الجامد لمصلحة حزب الله. وبحسب تسريبات عن محادثات لهِل مع مسؤولين لبنانيين فان الأخير تحدث عن احتمال أن يكون إيصال عون لرئاسة الجهورية ينطوي على تحقيق صدمة ايجابية للواقع السياسي اللبناني المطلوب أميركياً تعزيز الاستقرار فيه، لأن واشنطن يكفيها الفوضى الجارية في دول المنطقة وليست بوارد نقلها إلى لبنان. وتتقاطع فكرة هِل مع نظرية عون عن الإتيان برؤساء الطوائف الأقوياء ليتشكل منهم مضمون العهد الجديد في لبنان. والمقصود هنا هو ترؤسه رئاسة الجمهورية بمقابل ترؤس الحريري الحكومة وترؤس بري مجلس النواب. وثمة سؤال الآن بمناسبة ذهاب هِل للسعودية المتقاطعة زمنياً وتوقيتاً مع عودة عسيري إلى بيروت، حول ما إذا كانت زيارة الأول ستدرس مع السعوديين إمكانية تطبيق نظرية رؤساء الطوائف الأقوياء كبند من جملة احتمالات عن الرئيس العتيد المطلوب. واستدراكاً عما إذا كانت عودة العسيري تصب في خانة تمكينه من إجراء الضغوط والاتصالات اللبنانية اللازمة لتنفيذ ما سيتفق عليه هِل مع السعوديين، ومن بينها احتمال الاتفاق على عون!؟.

تصر هذه المصادر على التذكير بأن اسم عون ليس هو كل خلفيات زيارات هِل إلى السعودية، ولكنه مطروح من بين سلة سيناريوات للبحث عن الرئيس العتيد، نظراً لكون هِل أظهر في بعض محادثاته الأخيرة مع مسؤولين لبنانيين، حماسة لفكرة أن انتخاب عون رئيساً قد يحقق صدمة ايجابية للواقع السياسي اللبناني، وربما ينطوي على فرص ذات صلة بأحلام فيلتمان حول جعل حزب الله من دون حليف مسيحي وأكثر إحراجاً تجاه موقع رئاسة الجمهورية.

ولكن هل يقبل السعوديون بنظرية الإتيان برؤساء الطوائف الأقوياء؟؟

تجيب المصادر عينها: «لا توحي المعلومات المسربة حول هذا الموضوع، بأن الإجابة هي نعم». فالسعوديون ليس لديهم ثمن يمكنهم الحصول عليه من إيران جراء القبول بترشيح عون. فبعد نجاح الانتخابات العراقية لم يعد نوري المالكي في موضع يسمح لها بمقايضة واشنطن عليه. كما إن الإتيان بعون تحت أي مسمى قد يؤدي إلى فرط التحالف المسيحي داخل 14 آذار. ثمة أمر آخر أساسي وهو أن الرياض لا تثق بأن ورقة عون- حتى لو قبل الأخير بشروطها – ستكون ذات فعالية في الضغط سياسياً على حزب الله داخلياً أو خارجياً. ومع ذلك – تضيف المصادر عينها – يظل ترشيح عون له مكان بغض النظر عن نسبته داخل زيارة هِل للرياض.

من تريد السعودية رئيساً؟؟

وتلفت المصادر عينها في هذا المجال، الانتباه لحقيقة أن الرياض وقتت عودة عسيري إلى لبنان بعد حصول جلستي انتخاب رئاسة الجمهورية، حيث دللت كلتاهما على معادلة أن الورقة البيضاء العونية تلغي ترشيح جعجع، فيما ترشح الأخير يضع العصي الغليظة في درب ترشيح الجنرال. والوضع المفضل لها الذي تنتظره السعودية المتعبة إقليمياً بعد نجاح نور المالكي في إجراء الانتخابات العراقية، يتمثل حالياً بمعرفة ما إذا «كان المرشحان اللدودان تعبا فعلاً؟». وفيما إذا تأكدت أن الإجابة إيجابية، فإنها ستبدأ رحلة تظهير اسم المرشح الثالث.

وتتكهن هذه المصادر بسيناريو لمواصفات الرئيس العتيد، أبرزها جان عبيد الذي نفذ مؤخراً زيارة طويلة نسبياً للسعودية. ويقوم عبيد هناك بتدعيم وجهة نظر موجودة حول الملك عبد الله تفيد بأنه حان الوقت لقطع سياق إيصال عسكري لرئاسة الجمهورية في لبنان، وذلك لمصلحة شخصية سياسية قادرة على إدارة تناقضات هذا البلد باتجاه تحصيل الاستقرار المطلوب له دولياً وإقليمياً. كما هناك داخل حملة عبيد الانتخابية – إن صح التعبير – من يهمس بإذن الرياض بأن وصول عبيد لن يعتبر انتصاراً لسورية، بل ربما العكس بخاصة أن دمشق تأخذ على عبيد أنه أدار ظهره لها منذ عام 2005، ولم يزرها ولو لمرة واحدة منذ ذاك التاريخ. غير أنه بمقابل هذا المنطق يوجد محبذون سعوديون للعماد جان قهوجي الذي يحتاجه موقع الرئاسة في هذه الفترة التي يوجد فيها للسعودية مع لبنان مشوار طويل في تطبيق خطة دعمها للجيش اللبناني ضمن صفقة الثلاث مليارات دولار.

قراءة مغايرة

وخارج سياق كل ما تقدم، بدا لافتاً خلال الأيام الأخيرة ظهور قراءة مغايرة داخل نقاش الهمس اللبناني والدبلوماسي الذي ساد لتحليل خلفيات عودة عسيري إلى لبنان. تلفت هذه القراءة إلى واقعة التوقيت المتزامن بين عودته أي عسيري وبين قيام السفير الأميركي في لبنان ديفيد هِل بالسفر إلى الرياض ليناقش هناك مع مسؤولين سعوديين ولبنانيين مسألة الاستحقاق الرئاسي اللبناني. ولا ترى هذه القراءة أن الرابط بينهما هو التكامل في الجهد بين السفيرين لإنتاج الرئيس العتيد كما تفيد المصادر الآنفة.

وبرأي القائلين بالقراءة المغايرة إن صحت التسمية، فإن قرار واشنطن بإرسال هِل إلى السعودية في لحظة قدوم عسيري إلى لبنان، يحمل إشارة أميركية بأن عوكر هي التي ستكون محور حركة السفارات في بيروت في شأن انتخاب الرئيس العتيد، وليس سفارة السعودية.

ويلفت هؤلاء إلى احتمال آخر وراء سفر هِل للرياض، وهي أن تكون عوكر لديها معلومات بأن عودة عسيري لديها مهمة الاستمرار بمناورة ترشيح جعجع، ما جعل هِل يذهب إلى هناك ليقطع الطريق على هذا السيناريو. وبكل الأحوال – ودائماً بحسب رأيهم – فإن ذهاب هِل للسعودية يوضح أموراً مهمة لم يعد هناك لبس فيها:

أولها إن الكلام عن أن واشنطن لا تتحرك تجاه ملف الرئاسة اللبنانية لم يعد دقيقاً.

ثانيها إن الكلام عن أن واشنطن كلفت باريس بهذا الملف لم يعد له مستمسكاً على أرض الواقع العملي.

الثالث إن هِل هو المكلف بتدوير زوايا عقدة انتخاب الرئيس العتيد إقليمياً وداخلياً.

يوسف المصري – صحيفة البناء اللبنانية

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.