لعبة الشطرنج الدولية بين ساحتين: تركيا “الأناضولية” وتركيا “الهند الصينية”
موقع العهد الإخباري-
حيان نيّوف:
يقف العالم اليوم على عتبة مرحلة تاريخية و مفصلية ستمتد على مدى ما يقارب الثلاثة أشهر، يمكن تمييزها بحدثين منفصلين و مترابطين في آنٍ معاً، هما الإنتخابات التركية التي ستجري في الرابع عشر من أيار/ مايو الحالي، و الإنتخابات الباكستانية التي من المتوقع أن تجري في منتصف شهر آب/أغسطس القادم.
وأما سبب وصف هذا المرحلة التي ستمتد طوال ثلاثة أشهر على الأقل بالمرحلة التاريخية و المفصلية، فهو عائد لما سينتج عن هذين الإستحقاقين في دولتين كبيرتين و محوريتين شهدتا في السنوات القليلة الماضية انقساما شاقولياً على مستوى الإصطفاف السياسي الداخلي لكل منهما يحاكي، و يوازي الإنقسام السياسي العالمي ما بين الشرق والغرب، وما يعنيه ذلك من احتدام الصراع العالمي على هاتين القوتين الإسلاميتين اللتين تتشابه ظروفهما الداخلية والخارجية إلى حدٍ بعيد، وكذلك الأهمية الجيوسياسية لكل منهما، وما يعنيه ذلك من ميلان لكفة الصراع للفائز بأحدهما او كليهما.
حول تركيا “الأناضولية”
تنطلق الإنتخابات التركية غداً، وتنحصر المنافسة الرئاسية فيها بين مرشحين، الأول هو الرئيس الحالي ومرشح تحالف الجمهور “رجب طيب أردوغان” و الثاني هو زعيم المعارضة ومرشح تحالف الأمة “كيليتشدار اوغلو”.
تمتلك تركيا ثاني أكبر تعداد من بين جيوش حلف الناتو منذ انضمامها إليه، وشكلت طوال عقود من الزمن مخلبا لهذا الحلف في قلب أوراسيا امتدادا من البلقان و وصولا إلى القوقاز، وتتحكم بواحدة من اهم الممرات المائية في العالم والتي تربط بين البحرين الاسود و المتوسط، وشكلت ايضا طوال الحرب الباردة سدا منيعا بوجه التمدد السوفياتي نحو الجنوب والشرق الاوسط، وتوجد على اراضيها واحدة من اهم القواعد العسكرية الأطلسية “قاعدة انجرليك” التي لعبت دورا مهما في معظم الحروب التي خاضها الغرب في الشرق الاوسط وافغانستان و غيرها.
في العقد الماضي لعبت تركيا دورا وظيفيا وقياديا في مشروع الشرق الاوسط الكبير ونسخته الاخيرة التي عرفت بمشروع ” الربيع العربي” بقيادة حزب العدالة و التنمية وزعيمه “رجب طيب اردوغان” الذي كان يطمح من خلال ذلك لبسط النفوذ التركي على المنطقة العربية.
أدى فشل مشروع الربيع العربي في سوريا اولا ولاحقا في اليمن على يدّ محور المقاومة وبروز قوى عالمية جديدة على الساحة الدولية إلى انقلاب في الإستراتيجيات الامريكية وهو ما ادى تالياً إلى التخلي عن هذا المشروع و بطبيعة الحال التخلي عن الدور الوظيفي لتركيا في قيادته، ما دفع بأردوغان إلى التفكير بالتفرد عن سياسات الغرب و فتح المجال لخصومه وخاصة روسيا و إيران للتشبيك مع تركيا وخاصة بعد محاولة الإنقلاب الفاشلة في العام 2016، والتي ثبت تورط الولايات المتحدة بها، وما نتج عن ذلك من معادلات إقليمية جديدة بفعل تصاعد وتيرة التشبيك الاقتصادي و السياسي وحتى العسكري بين تركيا و روسيا والذي توجته صفقة منظومات الدفاع الجوي الروسية S400 ، ومن ثم بناء روسيا لمحطة للطاقة النووية في تركيا واخيرا المقترح الروسي لتحويل تركيا إلى مركز دولي وإقليمي للغاز، وسياسيا كانت صيغة آستانة التي انطلقت حول التهدئة في سوريا كصيغة ثلاثية ثم وصلت مؤخرا إلى ما يمكن وصفه بمنصة اقليمية رباعية يمكن البناء عليها بين روسيا و تركيا و ايران و سوريا وتطويرها لاحقا كمنتدى اقليمي جيوسياسي فاعل ومؤثر.
ذلك كله دفع بالولايات المتحدة خصوصا و الغرب عموما إلى التفكير بإعادة صياغة نظام الحكم في تركيا وفق ما تقتضيه المصالح الغربية و الإستراتيجيات الامريكية لإدارة الصراع مع محور الشرق ، وهو ما بات واضحاً منذ محاولة انقلاب عام 2016 وصولا الى الدعم شبه العلني لمرشح المعارضة “كليتشدار اوغلو” للفوز بالإنتخابات، وهذا الاخير كان واضحا بعرض توجهاته لإعادة تثبيت وتأكيد اصطفاف تركيا في حلف الناتو وفي الإتحاد الاوروبي ، كما انه لم يخفٍ موقفه من روسبا بما يتوافق وسياسات حلف الناتو وخاصة لجهة تطبيق العقوبات الغربية عليها.
حول باكستان “تركيا الهند الصينية”
تمتلك باكستان جغرافيا مترامية الاطراف تمتد من وسط آسيا إلى جنوبها و جنوبها الغربي، وتشترك بحدود طويلة مع دول ذات وزن و ثقل إقليمي و دولي، مع الصين و الهند و إيران ، وتمتلك واجهة بحرية طويلة على المحيط الهندي، وتمتلك حدود طويلة ومشتركة مع أفغانستان التي تتداخل معها ديمغرافيا و عقائديا، وهي واحدة من الدول النووية التي تمتلك عشرات الرؤوس النووية الجاهزة للإستخدام العسكري، وتتمتع بعلاقات جيدة مع الصين و متوترة مع الهند ومتقلبة مع افغانستان.
أما العلاقات الباكستانية الامريكية ، فيمكن وصفها تاريخيا على العموم بالعلاقات التحالفية، لكنها بالرغم من ذلك فقد شهدت مراحل من الصعود والهبوط خلال فترات عديدة من تاريخها، وغالبا ما كان ينتهي كل تنافر بينهما بانقلاب داخلي في باكستان ينتج عنه وصول قيادة سياسية جديدة تعيد العلاقات التحالفية إلى ما كانت عليه.
وكل ذلك عائد للأهمية الجيوسياسية لهذا البلد الإسلامي الذي تنظر إليه الولايات المتحدة كمنظورها لتركيا، ولذلك اطلق عليه العديد من منظري السياسات الغربية “تركيا الهند الصينية”.
لعبت باكستان دورا بارزا في الحرب الباردة لصالح الغرب في وجه الإتحاد السوفياتي ، وخاصة في افغانستان و سبق للولايات المتحكة ان انشأت قواعد تجسس و قواعد جوية لها على الاراضي الباكستانية لاجل ذلك مقابل مساعدات عسكرية كانت تقدمها لباكستان، غير ان الإضطراب في العلاقة بين باكستان و الولايات المتحدة كان يعود بالدرجة الاولى لمحاولات باكستان التفرد في قرارها وخاصة مع محاولاتها الاولى و التي نجحت لاحقا في الحصول على السلاح النووي.
في السنوات الأخيرة ومع عودة ظهور قوى عالمية جديدة على الساحة الدولية، والتقارب بين دول آسيا ضمن اطار منظمة شنغهاي، والتشبيك الصيني الباكستاني من خلال مبادرة الحزام و الطريق، وفي ظل التعثر الاقتصادي الباكستاني بفعل الحرب الأفغانية و انسحاب الولايات المتحدة من افغانستان، عادت نزعة التمرد على الغرب و الولايات المتحدة ، والتفرد و التحرر من الهيمنة الغربية بالظهور داخل باكستان على يد زعيم حركة الإنصاف “عمران خان” الذي تمكن من الوصول لرئاسة الوزراء قبل ان يتم الإطاحة به بضغط امريكي فاضح و واضح، ومن ثم المجيء بغريمه “شهباز شرف” لإعادة ضبط إيقاع العلاقة الباكستانية الامريكية وفقا لما ترتضيه الولايات المتحدة.
وفي الوقت الذي اعلن فيه عمران خان عن أهدافه بالتحرر من الهيمنة الأمريكية و سبق له ان زار روسيا قبل بدء العملية العسكرية الروسية في الدونباس وأعلن رفضه لسيسات العقوبات ضدها كما اعلن رفضه إقامة قواعد عسكرية امريكية في باكستان، بينما خصمه “شهباز شريف” لم يخف هدفه بإعادة التموضع والإصطفاف في الحلف الغربي الأمريكي، وما تزال التناحرات السياسية قائمة بين الطرفين، وبدعم من القوى الدولية المؤيدة لكل منهما قبيل الانتخابات المزمع إجراؤها بعد ثلاثة أشهر.
النتائج المحتملة للعبة الشطرنج الدولية في باكستان و تركيا
لا ينفصل ما جرى في باكستان قبل أيام “من حيث توقيته” حيث قامت السلطات الباكستانية باعتقال “عمران خان” قبل ان تفرج عنه لاحقا تحت الضغط الشعبي الهائل من قبل مؤيديه عن الحدث الإنتخابي التركي، الأميركي زجّ بالحدث الباكستاني استباقاً لما يمكن أن تنتج عن الإنتخابات التركية.
الولايات التي تسعى جاهدة و بكل الوسائل الإستخباراتية و الامنية و الاعلامية و السياسية لإيقاف عجلة التراجع في نفوذها لصالح محور الشرق أرادت الزج بالملف الباكستاني قبيل الإنتخابات التركية على اعتباره الملف اللاحق له انتخابيا، وهي بذلك تريد التلويح بالترابط بين الملفين، و ربما التذكير بأن السيناريو الباكستاني الذي ازاحت بموجبه عمران خان سابقا يمكن تكراره في تركيا، أو ربما ارادت القول لخصومها أن تركيا ليست الحلبة الوحيدة للصراع وبأن باكستان ستكون الحلبة اللاحقة، ومن زاوية اخرى ربما ارادت دق اسفين بين خصومها من خلال توجيه رسالة للصين بالتوقف عن دعم اردوغان الى جانب روسيا، وبأنها يمكن ان تخسر باكستان بالمقابل وهي الاكثر أهمية بالنسبة لها من تركيا.
ما هو مؤكد أن من يفوز في هذا الصراع الدولي بكلتا الحلبتين “التركية و الباكستانية” يكون قد حسم مرحلة كبيرة من الصراع ، لكن هذا يبقى واحدا من الإحتمالات، فلربما نشهد فوزا لاحدهما في هذه الحلبة و خسارته للحلبة الثانية، و ربما نشهد ربح او خسارة احدهما لكلتا الحلبتين، و هناك احتمال آخر و هو احتمال مرجح جدا وهذا الإحتمال قائم على تفجير إحدى الحلبتين من الداخل أو تفجير كليهما.