لحظة من فضلكم
موقع قناة الميادين-
بثينة شعبان:
هذه المرحلة من تاريخ أمتنا تتطلب التحلّي بأعلى درجات الوعي والتفكير والتأمل والإدراك قبل النطق ببنت شفة تعليقاً أو تصريحاً على كل ما يجري في البلاد من أزمات فُرضت علينا.
في بداية الحرب على سورية، زارني السفير الأميركي والبريطاني والفرنسي معاً، وتحدّثوا إلي عن مطالب الناس والأمور التي تدفعهم للخروج إلى الشارع، وضرورة معالجة هذه الأمور. وبعد أن صدرت القرارات التي تلبّي المطالب المطروحة في ذاك الوقت، ازداد عدد التظاهرات، واتسعت انتشاراً، وتغيّرت الشكاوى والمطالب، وبدأ مع كل هذا استخدام العنف وتدمير مؤسسات الدولة، وقد أصبح واضحاً بعد فترة قصيرة أن المطالب التي رُفعت لا علاقة لها بالرغبة في تحسين أحوال العباد والبلاد، بل كانت تستهدف استقرار البلد ومنجزات شعبه وحضارته وهويته واستقراره وأمنه والعيش المشترك بين أبنائه، والذي كان محطّ حسد العالم برمّته، ويقدّم أنموذجاً فريداً لتعايش أبناء الديانات والتعاون المثمر دائماً في دولة من أكثر الدول أماناً في العالم.
أما اليوم، وبعد أحد عشر عاماً من الاستهداف الممنهج والمدروس والمركّز لكل ما يفخر به الشعب السوري، وبعد أن فتح العثمانيون الجدد والغرب أبوابهم لهجرة السوريين في سابقة غير معروفة في التاريخ الحديث، وبعد أن استكمل العثماني والأميركي الأعمال الإرهابية باحتلال الأرض وخلق بؤر للمخيمات الإرهابية وقطع أوصال سوريا مع محيطها العربي وفرض حرب اقتصادية مجرمة بعد الحرب الإرهابية والعسكرية؛ فهل يجوز لأحد منا أن يستمع إلى ما عمد إعلامهم إلى ترويجه من أكاذيب وشائعات كان الهدف منها كسر إرادة السوريين والتسبّب في فقدانهم ثقتهم بمستقبل بلادهم وعبور البحار للوصول إلى موقع آمن بعيداً عن بلاد الشمس والحضارة والتاريخ والنسيج المجتمعي الذي يشكلون أهم عناصره وأدوات تطويره؟
وأما اليوم، وقد انكشفت أيضاً شبكات التجسّس الإسرائيلية في لبنان العزيز، والتي اعترفت أنها تعمل في بيروت ودمشق، وقد اعترف بعض هؤلاء العملاء بأنه تمّ تلقينهم حتى الشعارات التي ردّدوها في التظاهرات، ومن بينها “كلُّنْ يعني كلُّنْ وحزب الله واحد منهم”. ولا شك في أن العملاء الذين لم يتم اكتشافهم في معظم الدول العربية أكبر عدداً بكثير من هؤلاء الذين تمّ اكتشافهم، لأن مسار الأحداث والطرق التي تُدار بها هذه الأحداث تُري من دون شك أن هناك اختراقات أكيدة هدفها الأساسي إفراغ بلداننا من خيرة أبناء شعبنا، مقدمةً لتنفيذ هدف العدو الوجودي للأمة العربية الذي يعلنه دوماً: “أرضكِ إسرائيل من الفرات إلى النيل” عبر الاتفاق الإبراهيمي وتغيير وجه المنطقة من وجه عربي إلى وجه إسرائيلي صهيوني. وإن يكن تحقيق هذا الهدف البعيد يحتاج إلى مئة سنة مقبلة، إلا أن ربط الخيوط بعضها ببعض يُري أن هذا هو الهدف الحقيقي، وأن كلّ التفاصيل التي تبدو متباينة ومتباعدة تصبّ في النتيجة في خدمة هذا الهدف.
من هنا، فإن هذه المرحلة من تاريخ أمتنا تتطلب منّا جميعاً التحلّي بأعلى درجات الوعي والتفكير والتأمل والإدراك، قبل أن ننطق ببنت شفة تصريحاً أو تعليقاً على كل ما يجري في البلاد من أزمات فُرضت علينا كي توهن عزيمتنا، وكي تجعلنا ضحايا سهلة لما يخططون له ويرسمونه لنا ولأولادنا وأحفادنا من بعدنا، وخاصة أننا نراهم مستميتين كي يقضموا الأرض التي نعيش عليها، وكي ينعموا بالخيرات التي حبانا الله بها، ولا شك في أن هذا هو الهدف الأساس من استهدافهم لنا، من فلسطين إلى لبنان وسوريا والعراق واليمن، وإلى كل بلد ناطق بلغة الضاد.
هذا لا يعني إطلاقاً أن تحسين الأحوال من المحال، ولا يعني أننا يجب أن نستسلم لما فرضه علينا الآخرون من دون إمكان تجاوزه أو تغيير الظروف التي تساعدنا على تجاوزه، ولكن هناك فرق شاسع بين التجذّر في الأرض والانضواء تحت سمائها والعمل على رفع الويلات عنها بنفسٍ مؤمنة صادقة، وبين إدارة أسماعنا لما يدور من أقاويل مدسوسة وترديدها كالببغاء، مع أن الهدف منها ليس حرية التعبير ولا حقوق الإنسان ولا إرساء أسس الديمقراطية، بل الهدف منها هو زعزعة كيان الدولة وزعزعة ثقة المواطنين بدولتهم ومستقبلهم ومستقبل أطفالهم؛ إذ يصرّ الكثيرون ممن يغادرون البلاد على القول: “أريد أن أضمن مستقبل أولادي”، متناسين أن هذا البلد تمكّن من ضمان مستقبل أجدادنا على مدى عشرة آلاف سنة خلت، بينما اندثرت حضارات وغابت دول عن خريطة العالم.
لقد خاض الجيش العربي السوري والشعب السوري برمّته مع العون من الحلفاء والأصدقاء معركة مشرّفة على مدى عشر سنوات ونيف ضد أعتى القوى الإرهابية في العالم ومموّليها ومسانديها، وضد حرب إعلامية مضلّلة وشرسة وكاذبة؛ فهل يجوز اليوم بعد كل ما جرى أن نركن إلى أدواتهم الإعلامية أو السياسية؟ وهل يجوز أن نعير أذناً لأقاويل الطابور الخامس ومعلوماته وشائعاته التي تأكدنا للمرة الألف أنها تستهدفنا في الصميم وتستهدف بلدنا ومستقبل أبنائنا وأحفادنا؟ أم يجب علينا اليوم أكثر من أي وقت مضى أن نتحلّى بالصبر، بعد أن أصبحنا على يقين من طبيعة المعركة وأهدافها، وأن نعمل سياسياً ومجتمعياً بأدوات أشد حذاقة من تلك الأدوات الرائدة التي استخدمها جيشنا الباسل، وأن نكون أولاً وأخيراً مسلحين بالإيمان بأن الحرب علينا سببها الأساس طمعهم بأرضنا وشمسنا وسمائنا ومياهنا وخيراتنا، ولذلك لا بدّ لنا من أن نزداد تشبّثاً بكل ما لدينا، وأن ننغرس كالأشجار في هذه الأرض لا يقلقنا أحد منهم ولا تقنعنا أي من أدوات تضليلهم بالخضوع لعدوّ يستهدف وجودنا كشعب ودولة.
إنّ كلّ ما يحاولون جرّنا إليه هو الانزلاق الأكبر نحو الهاوية، ولا يمكن أن تتضمن مقولاتهم نفعاً أو فائدة تعود علينا، ولن يرضوا عنّا إلى أن نصبح عبيداً لهم لتنفيذ أجنداتهم؛ فلنكن حاسمين في تعابيرنا ومواقفنا وتطلعاتنا، لأن الاعتزاز بالانتماء والهوية هو الطريق الأسلم نحو السلامة والعلا.