لبنان عصيّ على الحصار
موقع العهد الإخباري-
مريم رضا:
يعاني لبنان من عدة أزمات لها تداعياتها الخطيرة على الصعيدين الاقتصادي والسياسي والمهددة للأمن الغذائي والأمن الاجتماعي. وإحدى تلك المشكلات التعامل مع الوضع بمنظار ضيق ورؤية جزء من الصورة بما يتشوه معه التحليل وتاليًا المعالجة. واليوم، يدفع الشعب اللبناني ثمن فساد متجذر في السلطات كما في النفوس؛ إنه هوس السلطة بشقيها: المال والنفوذ. تزداد المعاناة ويتنامى معها انعدام حسّ المسؤولية سواء في الأروقة السياسية أو الاقتصادية، وتتحطم معها أرقام “غينيس” في تحقيق أعلى نقاط في الجشع المالي، والاحتكار للمواد الحيوية، واللامبالاة بأوجاع المواطنين وأهل المنطقة وأبناء الجوار. بيد أن هذه الصورة مشوّهة ما لم يتم النظر خارج الزاوية الضيقة.
المسألة أعمق من أن تكون احتدامًا مع إجراءات فساد وتخمة نخبة حاكمة، فهي مواجهة منظومة فساد قائمة منذ التسعينيات عندما ترسّخ النظام الطائفي والنظام البنكي الريعي في السياسات “الحريرية” مع اتفاق الطائف. ومع الوقت، تعززت سياسات الفساد في مفاصل الدولة بحماية داخلية وبرعاية خارجية خدمة للمصالح الآنية والذاتية. النتائج التراكمية للواقع الفاسد ساهمت في زعزعة الهيكل، لكن الخطر كمن في القرار الأميركي في سحب دعائم الكيان والاستثمار في أزماته السياسية والاقتصادية ومعاناة الشعب اللبناني المعيشية. لا خلاف أن نظرية المؤامرة غير متفق عليها بالمطلق، وليس المطلوب تحميل الغير مسؤولية الأخطاء الذاتية، لكن الأخطر من رفض النظرية هو إنكار الواقع وطمس الأدلة وتشويه الحقائق وتجنب بعد النظر واعتماد الرؤية الضيقة الجزئية.
لبنان حلقة في سلسلة اخفاقات النفوذ الأميركي في المنطقة وجوارها، منذ غزو العراق في العام 2003 وقبلها أفغانستان 2001، نتيجة صعود محور قوى المقاومة وتأسيس معادلات ردع جديدة ضد المشروع الأميركي – الصهيوني، وتغير موازين القوى الإقليمية لغير صالح النفوذ الأميركي. وقد توزعت أولويات الولايات المتحدة مع الإدارة الجديدة خارج المنطقة نتيجة استنزاف قوى المقاومة للحضور الأميركي في مستنقع الحروب التي لا نهاية لها. اقتضت مصلحة واشنطن بدء الانكفاء ولو على حساب مصالح حلفائها ووكلائها. وعلى الرغم من كل المحاولات الأميركية في طمأنة هؤلاء والعمل على تدريبهم وتمكينهم، تفشل واشنطن في استعادة المصداقية؛ فالسياسة التي أطاحت بوكلائها ورمت بعملائها عن سطح مبنى الإخلاء في فييتنام العام 1975 هي ذاتها التي قطعت أذرعها الأفغان عن الطائرة في العام 2021. هؤلاء لم يؤمنوا بالمؤامرة لكنهم توهموا الديمقراطية والحرية وانتظروا تحصيل الحقوق من غير أصحابها.
إن النهج الأمريكي في المنفعة والبراغماتية لم يتغير من أفغانستان إلى لبنان مرورًا بسائر دول المنطقة. وقد أثار الانسحاب الأميركي من أفغانستان وتسليم البلاد إلى الفوضى موجة من التحليلات في المراكز البحثية عن تداعيات ذلك على مصير حلفاء واشنطن في الشرق الأوسط، وخاصة على الكيان الصهيوني، الحليف الوثيق لها. وقد طرح الكاتب سث فرانتزمان عدة مخاوف بمقالته في صحيفة “جيروزاليم بوست” في الخامس عشر من الشهر الجاري بعنوان “رسالة كارثة أفغانستان لحلفاء الولايات المتحدة، بما في ذلك إسرائيل”. وتساءل فرانتزمان عما إذا كان ما حصل في أفغانستان سيعاد في العراق وسوريا. ولبنان بالطبع ليس بمعزل عن كلا البلدين. انسحبت الولايات المتحدة من أفغانستان بعدما أنفقت تريليوني دولار دون القضاء على التهديد الذي تذرعت به يومًا للغزو. وسقطت الرهانات على البرنامج الأميركي في تدريب القوات الأفغانية وتمكينها للتعامل مع طالبان، وأضاف مكتب الاستخبارات الأميركي إلى سجل اخفاقاته سوء تقدير الوضع ما بعد الانسحاب مثلما أفاد مرة بتهاوي النظام الجمهوري الإسلامي مبكرًا، وقبل ذلك عدم ترجيح ثورة دينية ضد حكم الشاه.
تمثّل المعركة في لبنان عصارة الفوضى المنظمة التي تنشرها الولايات المتحدة أثناء خروجها من المنطقة بما يؤمن لها موقعًا في خارطة تثبيت النفوذ في ملء الفراغ الإقليمي، ويخلق ثغرة في دول المحور تحتمل عبر اختراقها قيادة العالم من جديد من خلال تقديم نفسها بصورة “المخلص” و”المنقذ”. ومن أخطر ما كشفه مؤتمر معهد الشرق الأوسط حول لبنان (26 أيار – 4 حزيران) هو أن الاهتمام الأميركي بالملف اللبناني يعني وجود فرصة ناضجة للقطف، وأن التزام واشنطن بحركة 14 آذار في 2005 كان من باب رؤية الولايات المتحدة للفرص في لبنان، وأن التدخل الأميركي يقتضي وجود لحظة فريدة من الفرص مثل اتفاق الطائف. وقد جاء هذا التصريح على لسان مدير برنامج الشرق الأوسط في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن (CSIS)، جون ألترمان. بمعنى آخر، إن نشاط التحركات الأميركية السياسية والدبلوماسية والأمنية مؤخرًا في الداخل والخارج، وعلى الصعيد الرسمي الدولي والمحلي، وفي الشوارع والمناطق ليست لأجل عيون الشعب وحقوقه الإنسانية وخوفًا عليه من الجوع والفقر.
الوطن اليوم يختنق بفعل الحصار الأميركي لقوى المقاومة والممانعة بحثًا عن فتات المصالح قبيل الانكفاء من خلال أدوات متنوعة. واشنطن تعمد إلى سياسة “جس النبض” لفحص فعالية الأداة، وتنتقل بسرعة من واحدة إلى أخرى لتجنب التكلفة لأنها تعاني الإفلاس والتخبط نتيجة استنزاف حكمة قيادة المقاومة وتماسك المجتمع المقاوم لتلك الأدوات. وفي حين تتنوع أدوات الحصار، تبرز آلة الهيمنة الإعلامية من أخطرها لما تلجأ إليه من طمس للأدلة وتحريف للحقائق والوقائع ضمن عملية تهجين لمنظومة القيم والمفاهيم بمعلبات ثقافية مستوردة تشوّه مشروع المقاومة ونموذج الحركات التحررية في السيادة والاستقلالية ورفض الانقياد والتبعية. ولبنان يعيش مرحلة مفصلية في مشهدية الصراع الوجودي ما بين مشروعين: مشروع الهيمنة ومشروع المقاومة. ولا مكان ثالث ما بينهما بعيدًا عن كل العناوين الطائفية والمذهبية والاصطفافات السياسية والأزمات المعيشية. وهذه المفاهيم الضيقة هي المطبات التي يعمل المشروع المناهض للمقاومة على إشغال المجتمع اللبناني بها.
هي معركة الوعي في صراع الوجود لأن خطورة استلاب الوعي تفوق نتائج أكبر المعارك العسكرية وأكثرها حسمًا. والأدوات الإعلامية المجندة التي تعمل على الاستخفاف بعقول الرأي العام على مختلف مواقع التواصل ووسائل الإعلام تسعى لضرب خط الدفاع الخلفي للمجتمع المتماسك حول القاعدة الذهبية التي أرستها المقاومة في لبنان في حربها ضد إسرائيل: ثلاثية الجيش والمقاومة والشعب. وتشتدّ الحاجة اليوم، على المستويين الرسمي والشعبي وأكثر من أي وقت مضى، إلى تحديد الصورة بإطارها الكلي الذي يرسم التفاعلات وفق المصلحة الوطنية العامة خارج الأطر الضيقة، بما يمكن معه تجاوز التحديات والتهديدات وفي مقدمتها الفتن الداخلية، والتحلي بالانضباط، وتحمل المسؤولية؛ والتكاتف والتعاون والإحساس بالمعاناة حتى الخروج من الضائقة. والأهم، هو الإيمان بالنهج المقاوم في صنع العز والكرامة والحفاظ على إنجازات المقاومة كرصيد ثقافي وسياسي، وعدم السماح للخطاب الإعلامي المضاد أن ينجح في قصف العقول بالادعاءات والأجندات التي لا تخدم إلا العدو الصهيوني.