لافروف.. صانع التحولات
كلاعب شطرنج محترف، استغل وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ما عرف بأنه «تعبير مجازي» أو «خطوة عفوية»، قام بها نظيره الأميركي جون كيري في مؤتمر صحافي بلندن، عندما أعلن أن الرئيس السوري بشار الأسد يمكن أن يتفادى ضربة عسكرية، إذا قام بتسليم كل ترسانته الكيماوية إلى الأمم المتحدة، في غضون أسبوع. وكان كيري يجيب عن سؤال عابر لصحافي مستفسرا عن إمكانية تفادي ضربة عسكرية قد تُوجّه لدمشق.
وفي غضون ساعات قليلة، نجح لافروف في استغلال تلك التصريحات، التي حاولت الخارجية الأميركية التقليل من شأنها، وعدتها «تعبيرا مجازيا»، وقام بما يسمى في لغة الشطرنج التي يجيدها «كش ملك»، ممسكا بالمقترح الأميركي، مقنعا الرئيس السوري بالامتثال له، ليتحول المشهد كله في ساعات قليلة في اتجاه مضاد، بعدما كانت قضية توجيه ضربة عسكرية إلى دمشق مسألة وقت ليس إلا.
ظهر لافروف (63 عاما) مقتدرا في إدارة دفة الأزمة السورية وتولى قيادتها، واضعا خطة مربحة لكل الأطراف. فقد استفادت روسيا من الاتفاق الروسي – الأميركي حول سوريا، بالظهور بمظهر الدولة العظمى القوية، صاحبة النفوذ، القادرة على التأثير في الأحداث الدولية. وقد جذب الوزير الروسي أنظار كثير من المحللين والسياسيين بعد نجاحه في عقد اتفاق «الكيماوي»، وارتفعت أسهمه على الساحة العالمية، وتساءل كثير من المحللين السياسيين، كيف تحقق هذا الإنجاز الفريد، بعد أن وقف بمفرده تقريبا، يتحدى على مدى عامين كل المحاولات الغربية لفرض بعض الإجراءات ضد النظام السوري. وكيف استطاع لافروف تغيير مسار اللعبة السياسية بهذه السرعة، وأجبر الولايات المتحدة على اللعب وفقا لقواعده، وأمسك في يده بكل خيوط اللعبة؟ فمن هذا الدبلوماسي المخضرم الذي طغى بشخصيته النافذة على كل أحاديث الساسة حول سوريا؟
ولد سيرغي لافروف في 21 مارس (آذار) عام 1950 في موسكو لأب أرمني وأم روسية من جورجيا كانت تعمل موظفة في وزارة التجارة الخارجية الروسية. وعلى الرغم من تفوقه الدراسي في العلوم الفيزيائية، فإن والدته أقنعته باختيار المجال الدبلوماسي، ولذا شق لافروف طريقه إلى معهد موسكو للعلاقات الدولية (MGIMO) المعروف بمكانته المرموقة، حيث درس لافروف الإنجليزية والفرنسية، واللغة السنغالية. وبعد تخرجه عام 1972 كانت أول مهمة له في عمله بوزارة الخارجية الروسية هي التدريب على اللغة السنهالية (لغة سيري لانكا)، تلتها أربع سنوات من العمل مع السفير الروسي في سريلانكا. وعاد للخارجية الروسية عام 1976 ليعمل في إدارة العلاقات الدولية.
وفي عام 1981، أُرسِل لافروف في منصب سكرتير أول ضمن فريق البعثة الروسية إلى الولايات المتحدة. وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991 عاد لافروف إلى وزارة الخارجية الروسية ليعمل مع الوزير الإصلاحي أندري كوزيريف، وفي عام 1992 رقي إلى منصب نائب وزير. وفي عام 1994 عاد مرة أخرى إلى نيويورك ممثلا لروسيا لدى الأمم المتحدة، وكان من أهم القضايا التي شارك في مناقشتها الوضع في يوغوسلافيا، وقضايا الشرق الأوسط، وقضايا مكافحة الإرهاب بعد هجمات 11 سبتمبر، وما نتج عنها من عمليات عسكرية أميركية في أفغانستان والعراق. وفي مارس 2004 عينه فلاديمير بوتين وزيرا للخارجية خلفا لإيغور إيفانوف. وأعاد الرئيس السابق ديمتري ميدفيديف تعيينه في مايو (أيار) 2012.
وبدأ سيرغي لافروف حياته الدبلوماسية منذ عهد بريجنيف، واكتسب كثيرا من المهارات التي شكلت قدراته الجدالية ومهاراته في التفاوض، وقد نجح في كثير من المواقف في فرض رؤيته على نظرائه من الدبلوماسيين، وربما يكون أحد وزراء الخارجية الأكثر فعالية ونفوذا اليوم لتجسيد عودة روسيا إلى المسرح العالمي.
لكن مسؤولا سابقا في إدارة الرئيس السابق جورج بوش انتقد أسلوب لافروف، ووصفة بالرجل الأحمق، وقال (رافضا نشر اسمه) إنه صنع شهرته واجتذب المعجبين به فقط بسبب استعداده المتواصل لمهاجمة الولايات المتحدة علنا، كلما سنحت له الفرصة، وكلما كان ذلك ممكنا. ومهما اتفقنا أو اختلفنا مع الرجل وسياساته واتجاهاته، فإنه حفر لنفسه مكانة متميزة في التاريخ الروسي بصفته الرجل الذي أعاد لروسيا نفوذها، وأعادها بقوة إلى المسرح الدولي.
يقول جيمس جيفري الزميل الزائر بمعهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى إن روسيا لعبت بشكل ذكي في سوريا بأوراق لعب محدودة، باستخدام شحنات الأسلحة، وبحق النقض في الأمم المتحدة، وبالمناورات البحرية لحماية مصالحها ودعم حليفها الأسد. ويؤكد وايت أن جعل روسيا شريكا للولايات المتحدة في حل الأزمة السورية، هو اعتراف رسمي من الولايات المتحدة بزيادة نفوذ روسيا. ويقول أندرو كوشينز، الخبير الدولي المتخصص في السياسات الروسية بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية (CSIS)، إن سياسات بوتين ولافروف أعطت لروسيا اليد العليا في إدارة الملف على الرئيس أوباما.
ويصف كوشينز التكتيك الروسي بأنه مثل «إخراج أرنب من قبعة الحاوي»، لأننا الآن أصبحنا نري طريقا دبلوماسيا لتدمير ترسانة سوريا الكيماوية.
ويبدو أن كيمياء خاصة بين وزير الخارجية الروسي لافروف ونظيره الأميركي كيري قد مهدت لهذه الانفراجة الدبلوماسية؛ فعلى مدى أكثر من عامين، تمسك لافروف بلغة متحدية في محادثاته حول الأزمة السورية، ولم تكن تلك الكيمياء موجودة مع وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون.
وقد أظهر كثير من اللقاءات بين كيري ولافروف قدرا من التقارب بين الرجلين، وظهرا متفاهمين في اللقطات التي جمعتهما معا. وفي أحيان أخرى أظهرت اللقاءات قدرا من الحذر والقلق والترقب من وزير الخارجية الأميركي تجاه نظيره الروسي. وقد ظهر ذلك واضحا في المؤتمر الصحافي بين الوزيرين، الأسبوع الماضي، حين طلب كيري من المترجم إعادة ترجمة تصريحات لافروف، بعد أن انقطعت الترجمة لفترة وجيزة. وأكد لافروف لكيري أنه لم يغب عنه شيء يثير قلقه، وقال له: «لا تقلق يا جون»، فرد كيري: «هل تريدني أن أثق في كلمتك، ربما ما زال الوقت مبكرا لذلك». وقد علقت وسائل الإعلام الأميركية على هذا الحديث الذي بدا باسما، لكنه عكس كثيرا من التوتر والقلق.
ولم تكن علاقة لافروف بوزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون هادئة، بل شابها كثير من الخلافات والاعتراضات المثيرة للجدل، خاصة خلال الأزمة السورية، وفشلت كل محاولات كلينتون لإقناع لافروف بالعمل بشكل جماعي داخل مجلس الأمن. وخلال اجتماع لافروف وكلينتون في الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2011، جاء لافروف كعادته يقرأ ورقة «نقاط الحديث»، التي أعدها له مساعدوه، وهو تكتيك لافروف المفضل في كل اجتماع رفيع المستوى يشارك فيه، حيث يلقي بكثير من النقاط من أهمية السلام ومخاطر الحرب، إلى الشكوى من ضعف الطلب الأميركي على شراء معدات لروسية لإمداد الجيش الأفغاني بها. وقاطعته كلينتون قائلة: «سيرغي.. ماذا عن سوريا؟!».
وتزايدت الفجوة مع انتقادات كلينتون لنتائج الانتخابات البرلمانية الروسية عام 2011، وانتقاداتها لانتهاكات روسيا في مجال حقوق الإنسان.
ويبدو أن لافروف لا يجيد التعامل مع وزيرات الخارجية الأميركيات، فقد اشتبك علنا مع وزيرة الخارجية السابقة كوندوليزا رايس خلال لقائهما في ألمانيا، في مايو 2007، حيث تبادل الاثنان انتقادات لاذعة في مؤتمر صحافي حول خطط الولايات المتحدة لتثبيت نظام الدفاع الصاروخي في أوروبا.
وسخر لافروف من ادعاء الولايات المتحدة أن النظام الصاروخي لا يستهدف روسيا. ونوهت كوندوليزا رايس إلى تصريحات بوتين بقدرات الصواريخ الروسية على تدمير أي نظام صاروخي تبنيه الولايات المتحدة، فرد لافروف سريعا، وقال: «آمل أن لا يُضطر أحد لإثبات صحة ذلك، وأن كوندي على حق».
ويقول فيودور لوكيانوف رئيس مجلس السياسة الخارجية والدفاع في موسكو، وهو مركز بحثي متخصص في العلاقات الخارجية، إن لافروف بارع ويحترم الأداء المهني الاحترافي، خاصة عندما يجد ذلك في نظرائه من الوزراء الأجانب، وهو يضع وزير الخارجية الأميركي جون كيري في هذا التصنيف، ويقول: «إن لافروف يستمتع بالحديث إلى الأشخاص المحترفين، ويسأم الحديث إلى غير المهنيين، ومع كيري يجد الحديث مثيرا للاهتمام، وعلى الرغم من التطورات المتقلبة في الأزمة السورية، فإن الرجلين حافظا على علاقة جيدة».
يتحدث لافروف الإنجليزية بطلاقة، وقد عاش في مدينة نيويورك لأكثر من 15 عاما، عندما تولى منصب ممثل روسيا في الأمم المتحدة، مصطحبا أسرته، وقد تخرجت ابنته الوحيدة ايكاترينا في جامعة كولومبيا بنيويورك. وخلال عمله بالأمم المتحدة، أثبت لافروف قدرا كبيرا من المثابرة والتصميم والمعرفة الواسعة بالقوانين الدبلوماسية، واستخدم كثيرا من الإجراءات والقواعد لتحقيق أهداف روسية بامتياز.
والمعروف عن لافروف أنه حاسم في قراراته وصلب في مواقفه، وكما يقول الأميركيون إنه لا يقبل الإجابة بـ«لا» على مطالبه. ويحكي أحد الدبلوماسيين بالأمم المتحدة أنه عندما أصدرت بلدية مدينة نيويورك قرارا بمنع التدخين داخل المباني عام 2003، قام المسؤولون في المقر الشرقي بالأمم المتحدة بالامتثال للقرار، عدا مندوب روسيا لدى الأمم المتحدة سيرغي لافروف، الذي رفض تنفيذ القرار واستمر يدخن سجائره، بحجة أن المنظمة الدولية لا تخضع لقوانين بلدية نيويورك. وقد تصدرت تلك القصة عناوين الصحف الأميركية في عام 2003، عندما أدان لافروف حظر التدخين داخل الأمم المتحدة، واعتبره انتهاكا لحقوقه الدبلوماسية.
وأشار أحد السفراء الأوروبيين الذين عملوا مع لافروف في الأمم المتحدة (رفض نشر اسمه) إلى أن لافروف كان عادة ما يهيمن على مجلس الأمن بملاحظاته وجداله وشخصيته النافذة، وكان معروفا عنه حب التدخين وشرب أفضل أنواع الويسكي والنبيذ الفاخر، وارتداء الملابس الإيطالية. ويقول: «كان لافروف يستحوذ على انتباه الحاضرين في مجلس الأمن بمعرفته الشاملة والدقيقة لما يحدث، وقدرته على التدخل وتغيير فحوى النقاش إلى الاتجاه الذي يريده».
ويقال إن لافروف يهوى العزف على الغيتار وكتابة القصائد والأغاني، وعندما يشعر بالملل في لقاءات وجلسات الأمم المتحدة، فإنه يقوم بالرسم على الأوراق أمامه. وبحسب الصحف الروسية، فإنه يعشق التجديف ورحلات الصيد في الغابات.
وأشار جون نيغروبونتي السفير الأميركي السابق لدى الأمم المتحدة الذي عمل معه في مجلس الأمن إلى أن لافروف لا يزال يمارس قواعد اللعبة نفسها التي مارسها في الأمم المتحدة في نيويورك، وإنما يمارسها اليوم من وزارة الخارجية الروسية في موسكو.
ويضيف أن «صلابة لافروف تأتي من موقف وطني؛ فهو يعتقد أن فترة التسعينات كانت وقتا ضائعا لروسيا وفترة امتهان، وطموحه الشخصي هو استعادة مكانة روسيا. إنها سياسته الخارجية».
وحول مواقفه المناهضة للولايات المتحدة يقول نيغروبونتي: «مواقفه المضادة لأميركا تكتيك وليست استراتيجية، لأن بوصلته الأخلاقية تتجه ناحية الدولة الروسية». يقول عنه ديمتري سيميز رئيس مركز المصالح القومية (وهو مركز معني بالشؤون الخارجية في واشنطن) إن لافروف يتسم بشخصية عنيدة أكثر من الدبلوماسيين الروس الآخرين، وقد اختاره فلاديمير بوتين عام 2004 ليتولى منصب وزير الخارجية، لأنه رأى فيه روحا حاسمة وقادرة على الوقوف لما فيه مصالح روسيا، وأنه لن يتردد في توجيه انتقادات لاذعة خلال المناقشات، والدخول في جدل قانوني ينتهي لصالحه. وأضاف: «لقد اختاره بوتين في مهمة للتأكيد على القوة الروسية والكبرياء الروسية، وهذا ما يجيده لافروف».
وفي حوار صحافي أجرته سوزان غلاسر رئيسة تحرير مجلة «فورين بوليسي» في مارس الماضي بالعاصمة الروسية موسكو، بدا لافروف فخورا بإنجازاته في استعادة نفوذ روسيا على المسرح الدولي، وقال للمجلة: «لقد تمكنت من استعادة النفوذ الروسي في أوروبا بعد الهزيمة في حرب القرم، وقد فعلت ذلك دون تحريك بندقية واحدة.. فعلتها من خلال الدبلوماسية فقط».
وتحدث بحسم عن أن روسيا ليس لديها أي نية لاتباع خطى الولايات المتحدة في العالم العربي أو في أي مكان آخر، مؤكدا أن روسيا أصبحت أقوى اقتصاديا، واستطاعت حل مشكلات اجتماعية كثيرة، ونجحت في رفع مستوى المعيشة، وأن هناك تغييرات كثيرة في السياسة الخارجية الروسية، حيث أصبحت روسيا أكثر حزما.
وقد كتبت سوزان غلاسر في مقال رأيها حول موقف لافروف المساند للنظام السوري، وقالت: «كل الذين تحدثت معهم من لافروف نفسه إلى خصومه السياسيين أكدوا لي أن لافروف إذا كان لديه شك في أن وضع الأسد ميؤوس منه، لكان تخلى عن دعمه له، لكن معركة لافروف ليست لمنع التدخل الغربي في سوريا، وإنما لمنعه عن التدخل في روسيا، فكل ما يهم لافروف ورئيسه في الكرملين، هو قدره روسيا على القيام بما تريده على الأرض». وقد شغل لافروف منصب وزير الخارجية الروسي لما يقرب من عقد من الزمن تقريبا، ليضرب رقما قياسيا أكبر من أي وزير خارجية روسي قبله. وتقول رئيسة تحرير مجلة «فورين بوليسي» إنها سألت عن أسباب استمرار لافروف في منصب وزير الخارجية وإعادة اختياره للمنصب عندما عاد بوتين إلى الرئاسة العالم الماضي، على الرغم من الشائعات الكثيرة التي روجت لاعتزال لافروف لمنصبه. وتقول جاءها الرد من أكثر من مسؤول روسي وباحثين روس.. «إنه الرجل المثالي لهذا المنصب».
المصدر: صحيفة الشرق الأوسط