كيف تستعدّ “إسرائيل” للحرب الثالثة؟
موقع قناة الميادين-
أليف صباغ:
يكاد يجمع المعلّقون العسكريون والباحثون في “إسرائيل” على أن الحرب قادمة لا محالة وتبقى الأسئلة المفتوحة: متى؟ وكيف؟ وما هو مداها؟
يكاد المعلّقون العسكريون والباحثون في مراكز الأبحاث الاستراتيجية وغالبية الشخصيات السياسية الحاكمة في “إسرائيل” يجمعون على أن الحرب الثالثة قادمة لا محالة، وأنها ستكون مدمرة أكثر من أي حرب سبقت، وأن “إسرائيل” ستدفع فيها ثمناً غالياً جداً، وتبقى الأسئلة المفتوحة: متى؟ وكيف تبدأ؟ وما هو مداها؟ وكيف يمكن ضمان نتائجها مسبقاً؟
هل يمكن حصرها مقابل “حزب الله” في لبنان أو مقابل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة؛ كل جبهة لوحدها؟ أو أن الجبهات ستكون موحدة؟ أو أن الحرب قد تبدأ على الحدود الشمالية وتتدحرج إلى حرب إقليمية متعددة الجبهات؟ وهل ستكون الولايات المتحدة إلى جانب “إسرائيل”، وتعطيها الضوء الأخضر والغطاء السياسي والعسكري طيلة أيام الحرب، أو أنها، كالعادة، ستحصر ذلك بأيام معدودة، تسعى بعدها لوقف الحرب من دون أن تحقق “إسرائيل” أهدافها أو ربما لحمايتها من اتساعها؟
كل هذه الأسئلة وغيرها تُطرح على طاولة الكابينت – السياسي الأمني في “تل أبيب”، وتناقشها كل مراكز الأبحاث الاستراتيجية في “إسرائيل” وأميركا على حد سواء، وهي مكتظة بجنرالات سابقين في الجيشين الأميركي والإسرائيلي، وعناصر مخابرات مخضرمين، وخبراء استراتيجيين من جنسيات مختلفة، بما في ذلك جنسيات عربية. كلّهم يسعون لضمان التفوق الإسرائيلي والهيمنة الإسرائيلية في الشرق الأوسط، ما يتطلَّب تدمير كل قوة صاعدة، اقتصادية كانت أو علمية أو عسكرية.
يتحدثون عن “الحرب الثالثة”، وقد يفهم من ذلك “حرب لبنان الثالثة”، باعتبار أن عدوان 1982 كان الحرب الأولى، وعدوان 2006 كان الحرب الثانية على لبنان، وفق التسميات الإسرائيلية، لكنهم يتحدثون عن “حرب ثالثة”، لأنهم على قناعة بأنَّ أي حرب قادمة ستكون إقليمية، ولن تبقى في حدود لبنان. يتحدّثون عن “الحرب” الثالثة، وليس عن “عملية أو حملة عسكرية” إضافية. ما الفرق بين الحرب والحملة العسكرية؟
وفقاً للتعريفات المقبولة إسرائيلياً، فالحملة العسكرية هي قرار للقيام بحملة بأدوات عسكرية لتحقيق أهداف محددة مسبقاً. أما الحرب، فهي عادة ما تحصل بين دولتين أو طرفين، بهدف حسم الصراع بأدوات عسكرية، بعد فشل الوسائل الدبلوماسية. هناك من يقول إن الحرب، بخلاف الحملة العسكرية، لا بد من أن تنتهي بانتصار، بينما الحملة العسكرية يمكن أن تنتهي بتحقيق أهدافها العينية. أما مفهوم الانتصار، فهو اعتراف الطرف الآخر بالهزيمة، وقناعته بأنه غير قادر على القتال من جديد. إذاً، هل تخطط “إسرائيل” لحرب أو لحملة عسكرية إضافية؟ وكيف يكون ذلك؟
ضمن هذه النقاشات، صدر عن مركز أبحاث الأمن القومي كتاب للكولونيل عميت ساعر (ضابط استخبارات كبير) في آذار/مارس 2019، تحت عنوان “كيف تبدأ حرباً لا يريدها أحد”. تناول الكاتب نموذجين لحروب لم يُخطَّط لها من قبل، كما يدّعي، وهما حرب تموز 2006 وعدوان “الجرف الصامد” في العام 2014. جوهر البحث يتناول ديناميكية التصعيد وتأثير سلوك الأطراف، وخصوصاً الطرف الإسرائيلي، في هذه الديناميكية.
سيناريو الحرب “غير المخطّط لها”
تحت هذا العنوان أيضاً، أصدر مركز “دادو” للتفكير العسكري المتعدد المجالات دراسة مطوّلة أعدها د. أودي (اهود) غولان، في كانون ثاني/يناير 2020، ونشرها المركز في آذار/مارس 2020، يتحدث فيها عن سيناريو “تدحرج المعركة ما بين الحروب”، والتصعيد “غير المخطط له من الجانبين، لتتحول إلى حرب إقليمية”.
لكنّ المتابع المثابر بعمق للخطاب الرسمي أو شبه الرسمي في “إسرائيل”، ولما يحدث على أرض الواقع، يدرك جيداً أنّنا أمام عنوان مضلّل لسيناريو مدروس جيداً، هدفه توريط أميركا في حرب إقليمية “غير مقصودة”، وكأن الحرب فُرِضت على “إسرائيل المسكينة والمسالمة” التي لا تسعى للحروب، وإنما تُفرض عليها فرضاً! والدليل على صحة هذا التحليل، أن الباحث المذكور يأتي بكل الحروب التي خاضتها على أنها أمثلة لحروب لم تخطط لها، وإنما فُرضت عليها فرضاً، بما في ذلك حرب حزيران 67.
من أهداف هذا الخطاب “الدفاعي” هو التسهيل على الحكومة تبرير أي خسائر بشرية أمام الجمهور الإسرائيلي، إذ يعطي الخطاب الدفاعي شرعية جماهيرية للحرب، باعتبارها حرباً “دفاعية” لا مفر من خوضها. إضافةً إلى ذلك، يعطي هذا الخطاب الشرعية والدعم الغربيين اللذين لا تتخلى عنهما “إسرائيل” في أي عدوان على جيرانها.
يقول غولان، في نهاية دراسته، إنَّ أحد الدروس التي تعلّمها “الجيش” الإسرائيلي من الحروب بعد حرب تموز 2006، ومارسها لاحقاً، هو ضرورة أن يبدأ المعركة “بهجوم عسكري كبير، حتى يضمن تقصير مدة الحرب وإمكانية الحسم السريع فيها أو إيقافها في الوقت الذي تريده إسرائيل، مستعينة بقوى سياسية خارجية قادرة على أن تؤثر في الطرف الآخر”.
عن سيناريوهات الحرب الثالثة، تطرّق المعلق العسكري رون بن يشاي (“واي نت”، 1 شباط/فبراير 2020)، إلى اجتماع قيادات عسكرية إسرائيلية وأوروبية وأميركية لم تنشر تفاصيله، ونقل فحوى المداولات معلّقاً:
“في الليلة الأولى من التصعيد، يتبادل جميع اللاعبين الرئيسيين في الساحة الشمالية الشرقية الضربات مع بعضهم البعض، وتتصاعد شدة ودرجة فتكهم بالرد أو الانتقام، فإسرائيل التي تقصف لبنان من الجو بقوة للمرة الأولى منذ حرب لبنان الثانية تستهدف 80 هدفاً، من بينها 3 مصانع لتصنيع الصواريخ الدقيقة. مدنيون لبنانيون وعناصر من حزب الله يُقتلون. “حزب الله” لا يصمت، فيصعّد. ويمكن أن نفهم، وفق جميع السيناريوهات التي نوقشت في ذلك الاجتماع، أن إسرائيل سوف تستند إلى معلومات استخباراتية دقيقة، وأن أي هجوم يجب أن يكون أولاً ضد الصواريخ الدقيقة، وأن أي عملية عسكرية أو حرب في المستقبل تشكل معضلة خطيرة، هل نذهب إلى حرب ثالثة، وستكون إقليمية، وتهدف إلى حسم عسكري واضح، أو الاستمرار في المعارك بين الحروب؟ كلّ شيء يمكن أن يتغير”.
الحرب الثالثة: هل هي عسكرية بالضرورة؟ لماذا؟ وكيف؟
تحت عنوان “حرب لبنان الثالثة، طابعها العام ووسائل حسمها”، كتب عوفر يسرائيلي، خبير جيوستراتيجي دولي، وباحث في المركز المتعدد المجالات في هرتسليا (مكور ريشون 31/12/2019) يقول: “لأجل تأجيل الحرب أو تفاديها، وفي الوقت ذاته حسمها في حال نشوبها، مطلوب من حكومة إسرائيل القيام بسلسلة عمليات سياسية وعسكرية داخل لبنان وعلى المستوى الإقليمي أيضاً. يتم تنفيذ ذلك بالتوازي قبل الحرب وخلالها وحتى بعدها. تكون هذه خطة شاملة. تعمل بها إسرائيل برؤية واسعة تشمل وسائل متعددة غير عسكرية، مثل حملة دبلوماسية، اقتصادية وسيكولوجية، لغاية اندلاع الحرب وبعدها، وفق عقيدة سون تزو” (تزو يعتقد أن هدف كل حرب هو تحقيق حسم عسكري سريع ونهائي).
أما الحالة الأفضل، يقول تزو، فهي أن تهزم عدوك من دون حرب. وإذا لم يحصل فإفشال استراتيجية عدوك. وإن لم يحصل فإقامة تحالفات ضده. آخر الحلول هو الصدام الميداني مع العدو، وأسوأ الحلول في الحرب هي أن تفرض حصاراً على العدو. وفي المقابل، استخدام وسائل عسكرية مكثفة، وبقدرات عالية مع اندلاع الحرب وخلالها، استناداً إلى عقيدة كارل فون كلاوزفيتس الذي يتبنى المعادلة القائلة بوحدة الدولة والجيش والشعب.
في نظرة سياسية، يقول يسرائيلي: “على إسرائيل أن تراكم شرعية للقيام بضربة مستقبلية ضد حزب الله، تحقق القضاء على قوته العسكرية في لبنان. العملية تتطلب “هجوماً” إعلامياً دولياً يوجه الاتهام بحدة إلى حزب الله على كل ما يحصل في لبنان، وتحميله مسؤولية سلامته ووحدته. بالتوازي، على إسرائيل أن تعمل بقنوات سياسية علنية وأخرى سرية مقابل اللاعبين الدوليين الأكثر أهمية في الساحة السياسية اللبنانية، وتحريكهم لدفع حزب الله إلى خارج دائرة التأثير في الدولة. من هؤلاء اللاعبين، الولايات المتحدة التي تمول الجيش اللبناني بعشرات الملايين سنوياً، وفرنسا بصفتها دولة الاستعمار السابقة في لبنان، والمؤثرة عميقاً في السياسة اللبنانية، وتنظيم الأمم المتحدة الفاشل الذي يُفتَرض أن يُضعف تأثير حزب الله، والمملكة العربية السعودية التي تشكل وصياً عربياً على لبنان”.
أما في “الجانب العسكري”، فيقول: “هو أهم جانب، وينبغي أن يستند إلى المبادئ الأساسيّة للحرب وجوهر أفضل استراتيجية لتحقيق الحسم العسكري.
أولاً، يتعيّن على الجيش الإسرائيلي الامتناع عن القتال على جبهتين أو أكثر. لذا سيتعيّن عليه، قبل الحرب، العمل على الحد من الاحتكاك مع كل من “حماس” في غزة والقوات الإيرانية في سوريا.
ثانياً، لا بد من تحديد أهداف واضحة للحرب، وفي مقدمها تدمير “حزب الله” وقدراته العسكرية، فضلاً عن تحقيق الاستقرار للدولة اللبنانية في نهاية الحرب.
ثالثاً، يجب على الجيش الإسرائيلي أن يعدّ نفسه لتدمير مراكز ثقل “حزب الله” – ترسانة الصواريخ الكبيرة التي تمكن التنظيم من توزيعها وزرعها في جميع أنحاء البلاد، ولكن أيضاً زعيمه حسن نصر الله، الذي سيقوّض تحييده قدرة ورغبة النشطاء في مواصلة القتال، وسيضرّ أيضاً بقدرة التنظيم على إعادة البناء في نهاية الحرب..
رابعاً، استخدام ميزة المفاجأة التي تشكل عنصراً أساسياً في أيّ استراتيجية ناجحة”.
وكجزء من “الهجوم الدبلوماسي” الذي يتعين على “إسرائيل” القيام به مقابل المجتمع الدولي حتى اندلاع الحرب، عليها، بحسب يسرائيلي، أن تُقنع القادة البارزين في الساحة الإقليمية والدولية أن “حرب لبنان الثالثة”، إذا اندلعت، فإنها ستغير، بشكل جذري، قواعد اللعبة، وأن “إسرائيل” لن تسمح بالعودة إلى الوضع الذي كانت عليه، أو الوضع الذي ساد قبل اندلاع الحرب، لأنَّ الحرب سوف تهدف إلى خلق واقع مستقبلي جديد، ويجب أن يكون في مصلحة “إسرائيل”، ما من شأنه أن يتوافق، بشكل مفاجئ أو لا، مع مصالح المواطنين اللبنانيين، أي تدمير حزب الله كمنظمة عسكرية وإزالة العقبة التي يشكلها أمام استقرار المجتمع اللبناني وازدهاره.
عند مراجعة هذا الكلام، لا بد من أن نأخذ تاريخ نشره بعين الاعتبار، ومن الطبيعي أن تكون كتابة البحث ومناقشته جرت قبل ذلك، أي قبل ما سمي بـ”ثورة” 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019 في لبنان. ولا بد من أن نراجع كل ما حصل على الجبهة اللبنانية، بما في ذلك سحب الأموال السعودية من البنوك اللبنانية، وتفجير مرفأ بيروت، وتعطيل تشكيل حكومة لبنانية، إلا إذا كانت وفق المقاييس التي تريدها السعودية وأميركا وفرنسا و”إسرائيل”، وأن نراجع ما حصل ويحصل على الجبهة الإيرانية من تشويه للموقف الإيراني وإنزال العقوبات القصوى ضده، والاعتداء على السفن التجارية الإيرانية في البحر الأحمر أو المتوسط منذ كتابة هذه الورقة وحتى اليوم، وتحديداً خلال الشهر الأخير. وأقصد محاولات “إسرائيل” تجييش أميركا وبريطانيا ورومانيا ضد إيران، بحجة ضرب سفينة في بحر العرب، وتجييشها السعودية وأميركا وفرنسا ضد “حزب الله” في لبنان، والحملة الإعلامية الدولية التي توجّه الاتهام إليه في كل ما يحصل من مآسٍ للبنانيين…
رغم كلّ هذه الحملات والاستعدادات، العسكرية والسياسية والإعلامية، لم تجرؤ “إسرائيل” على شنّ حرب أو حتى حملة عسكرية ضد “حزب الله”. لماذا؟
جوهر الجواب عن هذا السؤال يكمن في عدم وجود أحد في “إسرائيل” أو أميركا يضمن نتائج الحرب التي يستعدون لخوضها. وفي التفاصيل:
أولاً، إذا كان ترامب لم يعطِ نتنياهو الضوء الأخضر لشنّ الحرب، فلماذا يعطي بايدن ضوءاً أخضر لنفتالي بينيت؟ ولا سيما أن وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن لا يثق بالمعلومات الاستخبارية الموجودة لدى المخابرات العسكرية الإسرائيلية، وأنَّ التحدي الأهم لأميركا هو الصين وليس إيران.
ثانياً، أثبت المحاولة العسكرية الإسرائيلية الأخيرة في قصف مواقع لبنانية وردّ “حزب الله”، أنَّ “إسرائيل” لا تملك المعلومات الاستخبارية الضرورية للحرب، كما أنَّها لا تملك التقديرات الصحيحة لقدرة “حزب الله” واستعداداه للرد على أي عدوان إسرائيلي، إضافةً إلى أنها فشلت في عدوانها الأخير أيضاً على المقاومة الفلسطينية في غزة المحاصرة منذ 14 عاماً.
ثالثاً، ضعف حكومة نفتالي بينيت، واحتمال سقوطها المباشر عند شنّ أيّ حرب على لبنان، مع علم رئيسيها أنَّ خصمهما نتنياهو لن يسعفهم في الحرب، بل سيفرح لإسقاط الحكومة، كي يعود إليها مجدداً أقوى من أي وقت مضى.
رابعاً، يبدو أنَّ الجمهور الإسرائيلي غير مقتنع بضرورة الخروج إلى حرب وهو يعاني ويلات فيروس كورونا، الذي لم يمهله كثيراً حتى عاد أكثر فتكاً مما سبق، وأن الجمهور الإسرائيلي غير مقتنع بضرورة الخروج إلى الحرب، لأن كل التقديرات العسكرية والمخابراتية الإسرائيلية تقول إنّ “حزب الله” غير معني بالحرب، وأن خطر الصواريخ الدقيقة لم يتعزز في وعي الجمهور الواسع. لذلك، الجمهور غير مستعد لتقديم التضحيات في حرب ليست ضرورية.
من هنا، يعمل عدد من الإعلاميين والباحثين للتغلّب على هذا الحاجز، ومنهم الباحثة في مجال الأمن القومي، فنينا شوكر، التي كتبت في صحيفة “يسرائيل هيوم” في 20/7/2021 مقالاً تحت عنوان: “لا تخافوا من المعركة البرية”. وفيه، تحضّ القيادة السياسية والعسكرية على شنّ الحرب وعدم الخوف من المعركة البرية، وتقول: “حان الوقت للتخلص من الخوف ومن أن الجبهة الداخلية لا تستطيع تحمل التضحيات، حان الوقت لنثبت أن الجمهور مستعدّ للتضحية عندما يقتنع بأنَّ الحرب لا مفر منها، وأنها صادقة. لا تخافوا من الوحل اللبناني”.
من هنا، وبعد الفشل العسكري والاستخباراتي الأخير، لم يبقَ أمام حكومة بينيت- لبيد إلا التمسك بالسيناريوهات التي رسمها عوفر يسرائيلي أعلاه منذ العام 2019. ومن يراقب الأحداث يتأكَّد أن حكومة “إسرائيل” برئاسة بينيت- لبيد تسير وفق هذا السيناريو بالتنسيق الكامل مع إدارة بايدن وماكرون ومحمد بن سلمان، وقد انضمّت إليهم بريطانيا مؤخراً.