كيسنجر وحرب تشرين: فوضى لم يتوقعها الإسرائيليون
صحيفة السفير اللبنانية ـ
ربى الحسيني:
«يبدو أن الإسرائيليين دخلوا في حرب أكثر فوضوية مما توقعوا»، هكذا يختصر رئيس الديبلوماسية الأميركية الأشهر هنري كيسنجر «حرب تشرين» العام 1973، في إحدى الوثائق التي كشفت عنها وزارة الخارجية الأميركية. من يقرأ تلك الوثائق، أو حتى جزءاً صغيراً منها، يستطيع أن يلاحظ حس السخرية الذي تمتع به الوزير الأميركي، والذي تحول مع الوقت إلى أحد منظري السياسة الخارجية والعلاقات الدولية.
وتنشر «السفير» على مراحل وثائق من أرشيف وزارة الخارجية الاميركية خلال مرحلة السبعينيات من القرن الماضي حول لبنان ومنطقة الشرق الاوسط وغيرها، ومن بينها وثائق تتناول تعامل كيسنجر مع «حرب تشرين» منذ اليوم الأول، مروراً بتحليله لميدانيات أرض المعركة، وتواصله مع «صديقه اللدود» السفير الروسي في واشنطن أناتولي دوبرنين، حتى التوصل إلى قرار وقف إطلاق النار، وما تبعه من مباحثات بين الأطراف المعنية. وفي الجزء الأول، يقتصر الأمر على اليومين الأولين، منذ استيقظ كيسنجر على الرسالة الإسرائيلية.
حين سأله المتحدث باسم البيت الأبيض رونالد زايغر عن التصريح الذي يجب الإدلاء به، أجاب كيسنجر «قل إني استيقظت صباحاً على رسالة من الإسرائيليين بأن هجوماً شن عليهم، وطلبوا منا إيصال رسالة إلى الأطراف المعنية بأنهم لا ينوون شن أي هجوم». وليعكس ديبلوماسيته، طلب كيسنجر الحرص على عدم الانحياز إلى أي طرف، «فقط قل إنه ليس واضحاً حتى الآن مدى القتال، ولا تعلق أبداً على من بدأ المعركة».
فور وصول المعلومات إليه من الإسرائيليين، بادر كيسنجر بالاتصال بنظيره المصري محمد الزيات عند الساعة السابعة صباحاً من السادس من تشرين الأول. وقال له «لقد وصلتنا تقارير، ويبدو أنه يمكن الاعتماد عليها، بالإضافة إلى اعتراض من الإسرائيليين، بأنكم أنتم والسوريون تحضّرون لشن هجوم خلال ساعات». أجاب الزيات بسؤال «خلال ساعات؟». واستطرد كيسنجر «نعم، نحن على اتصال مع الإسرائيليين، وقد طلبوا منا أن نبين لكم جدية الأمر وأنهم لا ينوون الهجوم، ولذلك فإن كانت تحركاتكم نابعة من خوف من هجوم إسرائيلي، فلا أرضية لذلك. ومن جهة أخرى، إن كنتم فعلاً تريدون شن الهجوم، فإنهم سيتخذون إجراءات قاسية جداً. تلك رسالة الإسرائيليين لكم. وأريد أن أقول لكم إني تحدثت مع الوزير الإسرائيلي وأبلغته بأن الولايات المتحدة ستتخذ موقفاً قاسياً إذا شنت إسرائيل الهجوم أولاً، وعليها ألا تفعل ذلك».
أما الرسالة التي طلبت غولدا مائير إيصالها إلى المصريين والروس في السادس من تشرين الأول فهي التالية «إسرائيل لا تنوي استهداف سوريا ومصر، وهي تعمل على نشر قواتها إذا تعرضت لأي هجوم، وقد دعت بعض جنود الاحتياط كجزء من خطة طوارئ. إسرائيل على معرفة تامة بالنيات العسكرية للمصريين والسوريين. وإذا شنوا هجوماً، فإنهم سيخسرون بالرغم من أن المهاجم قد يسبب الأضرار التي تتمنى إسرائيل تفاديها. ومجدداً، إسرائيل لن تشن هجوماً، ولكنها ستدافع عن نفسها إذا هوجمت». تلك الرسالة أبلغها نائب مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى روي آشرتون لكيسنجر عند الساعة السابعة والنصف صباحاً من السادس من تشرين الأول. طلب كيسنجر وقتها من مساعده إبقاء الأمر سراً.
واشتعلت الاتصالات بين الروس والأميركيين. اتصل كيسنجر بالسفير الروسي في واشنطن أناتولي دوبرينن. ويبدو من الوثائق مدى «الصداقة» أو المعرفة الوثيقة إن صحّ التعبير بين الرجلين. وخلال الاتصال أبلغه بالمعلومات التي وصلته من الإسرائيليين، وليس ذلك فقط، فقد أشار إلى معلومات عن سحب الروس مواطنيهم من دمشق والقاهرة، في ما بدا كأنه اتهام للروس حول معرفتهم المسبقة لما سيحصل.
ولكن بدا من الوثيقة أنه كان هناك مشكلة في الاتصال، حيث إن دوبرينن لم يستطع سماع كيسنجر جيداً، حتى اضطر الأخير لأن يقول له بسخرية «من الممكن أن تبدأ الحرب قبل أن تفهم رسالتي». وعلى كل حال، أبلغ كيسنجر الديبلوماسي الروسي برسالة إسرائيل إلى موسكو والقاهرة، وأشار فيها إلى ما تحدث عنه بعد ذلك بوقت قصير مع الزيات. وحث كيسنجر على أن يبدأ قطبا العالم في وقتها بالتعامل معاً لمنع أي اشتعال لنيران الشرق الأوسط، مشدداً على أن واشنطن لا تريد لذلك أن يحصل.
ألقى المصريون باللوم على الإسرائيليين، وعند الساعة الثامنة والنصف، أبلغ الزيات كيسنجر أنه عند الساعة السادسة صباحاً عمد الإسرائيليون إلى بعض التصرفات الاستفزازية في المياه الإقليمية المصرية.
وكما هو معروف، فإنه وإن كانت الولايات المتحدة لا تريد الحرب، فإنها لا تستطيع ألا تنحاز إلى إسرائيل بالرغم من ادعاء عكس ذلك. وفي السابع من تشرين الأول، تواصل كيسنجر مع وزير الدفاع جايمس شيلزنغر ليناقشا الطلب الإسرائيلي في الحصول على المزيد من الذخيرة، وأسلحة أخرى من بينها 40 طائرة «فانتوم»، و«هذا الأمر خارج الطرح أصلاً، ولكن الرئيس (الأميركي ريتشارد نيكسون) يتجه نحو إعطاء الإسرائيليين معدات أخرى إن كانوا قادرين على الحصول عليها بأنفسهم»، يقول كيسنجر. وهنا، أشار وزير الدفاع إلى أن الإسرائيليين طرحوا أن يأخذوا المعدات من دون تورط النقليات الأميركية بذلك.
وفي الساعات الاولى من المعارك، بدا واضحاً تعاطف كيسنجر مع الإسرائيليين، حين أشار إلى أنهم قالوا للرئيس إن خسائرهم كثيرة جداً.
واستفاض وزير الدفاع بشرح أسباب خسائر الإسرائيليين، لافتاً إلى أن «خسائر الطائرات الحربية تعود إلى صواريخ سام». وتابع أن «شيئاً غامضاً يحصل على الجبهة المصرية، حيث يبدو أن الإسرائيليين يريدون من المصريين الدخول، وهؤلاء لم يحركوا حتى الآن قواتهم عبر القناة، والإسرائيليون على الجهة المقابلة حركوا نسبة قليلة من القوات. ولكن في المقابل، تبدو الجبهة السورية الأكثر إشكالية».
ولكن استطاع وزير الدفاع الأميركي بجملة واحدة اختصار السياسة الإسرائيلية بقوله «في الحالتين، ربما يلعبون (الإسرائيليون) لعبة متقنة ليعكسوا للعالم أنهم المضطهدون بدلاً من النظرة المأخوذة عنهم بأنهم المتنمرون».