كورونا وحتميّة رفع العقوبات الأميركيّة عن المقاومة
صحيفة البناء اللبنانية ـ
د. جمال زهران*:
في مقالي السابق، تحدثت عن الكورونا وحتمية إلغاء العقوبات الأميركية الظالمة على دولة إيران، والتي تخلو من الإنسانية التي لا تعرفها النظم الاستعمارية نهائياً، رغم التباهي بالدفاع عن حقوق الإنسان في العالم، وهو زعم باطل. وقد أشار البعض من المعقبين على المقال، إلى ضرورة الإشارة إلى باقي الدول التي تعاني من العقوبات الأميركية في منطقتنا العربية على وجه الخصوص، رغم إشادتهم طبعاً بالمقال وفكرته وفضحه لتلك الدولة الأميركية ورئيسها المتغطرس ترامب، التي تعاني من مرض الازدواجية، وإساءة استعمال القوة في مواجهة النظم التي تصرّ على ممارسة الاستقلال الوطني كأحد مرتكزات الدولة الوطنية.
وقد وعدت السادة القرّاء المتابعين لي باستكمال الموضوع بالإشارة إلى نظام العقوبات الظالم والازدواجي والقهري الذي تمارسه الولايات المتحدة الأميركية خارج الشرعية الدولية، وبإرادة انفرادية تسعى من خلالها تأكيد الهيمنة الأميركية.
ومما يُذكر في هذا المقام رسالة الدكتوراه التي أشرفت عليها من سنوات عدة للباحثة جينا عراقي، بعنوان العقوبات الأميركية كأداة للسياسة الخارجية، ونماذج عربية متفرقة. وقد ارتكزت على كتاب مهم تضمن إطاراً نظرياً بعنوان: نظام العقوبات الأميركية، للمؤلف ريتشارد هاس، وهو من أكبر مساعدي وزير الخارجية الأميركي، كشف فيه عن هذه المنظومة الأميركية السيئة والعقل الإرهابي الذي يقف وراء كيفية صناعة فكرة العقوبات ضدّ الدول المتمرّدة على السياسة الأميركية وإرهابها وازدواجيتها في التعامل مع هذه الدول التي تسمّيها أميركا «الدول المارقة»، للأسف!
وأشارت الرسالة العلمية التي أجيزت بلجنة من كبار أساتذة العلوم السياسية في مصر بمرتبة الشرف الأولى، إلى كيفية اختلاق الأكاذيب وإخراجها مخابراتياً، والتوظيف السياسي للإعلام الصهيوني في الترويج لهذه الأكاذيب، لخلق غطاء تبريري، يتمّ من خلاله إقناع الدول التابعة والحليفة في المنطقة أساساً، لتأييد سياسة العقوبات التي تقرّرها الإدارة الأميركية بطريقة منفردة. وبالتالي فإنّ النظام الذي يخرج عن الطاعة العمياء لأميركا وسياستها الظالمة، تكون العقوبات هي الحلّ. ويعمل معهد بروبكنغز بواشنطن بالتنسيق مع المخابرات المركزية الأميركية (C.I.A)، في صناعة الأكاذيب وآليات الترويج وشخوص الكُتاب الذين يعملون في الصحف الكبرى في المنطقة العربية خاصة، لتأييد ذلك صراحة وضمناً وفقاً لما يتمّ الترتيب له، والتخطيط لتحقيقه!
فهذه العقوبات وضعت ضدّ إيران في أعقاب ثورة 1979، واستمرت في التصعيد حتى عام 2012، بعد تهدئة نسبية في أعقاب اتفاق (5+1) في عام 2015، كما أنّ هذه العقوبات فرضت على سورية والعراق، ولبنان، وليبيا، واليمن، وغيرها. فضلاً عن أنّ هذه العقوبات الأميركية لا تشمل دول المنطقة العربية فحسب، بل ضدّ كلّ من يشق عصا الطاعة للسياسة الأميركية حتى لو كانت الدول الحليفة مثل ألمانيا التي عقدت اتفاقيات توريد الغاز عبر أنابيب مع روسيا، فهدّدتها أميركا ولا زالت العقوبات مستمرّة على ألمانيا وشركاتها التي لم تعبأ بهذه العقوبات رغم أنها جزئية. وهناك العقوبات الأميركية ضدّ نظم أميركا اللاتينية، وفي مقدّمتها فنزويلا!
وتستهدف العقوبات الأميركية إجبار الدول التي تمارس حقها في الاستقلال الوطني وترفض التبعية أو التحالف مع هذه الدول وريثة الاستعمار الغربي، على الخضوع والانبطاح والاستسلام للمشيئة الأميركية!
ومع انفجار «الكورونا» في وجه العالم كله من الشرق إلى الغرب، ومن الصين إلى الولايات المتحدة عبر منطقة الشرق الأوسط والمنطقة العربية وأوروبا، وراح ضحية ذلك ما يقرب من (100) ألف قتيل، وما يقرب من (1,5 مليون) إصابة موزعين على كلّ دول العالم، حتى أنّ الدول المتقدّمة والكبرى هي التي تشهد النسب الأكبر! أصبح من الحتمية الحديث الجدّي عن انعدام شرعية نظام العقوبات الذي تقرّه أميركا ضدّ دول المقاومة في منطقتنا العربية في المقدّمة سورية التي واجهت مؤامرة وحرباً دولية استمرت نحو عشر سنوات (2011-2020)، ومعها بقية الدول المقاومة. فهذه العقوبات أحادية، من جانب أميركا، وتفرض على الدول التابعة والحليفة الالتزام القهري في تطبيقها عبر الشركات متعدّدة الجنسية والدول الراعية، وتفتقر إلى جميع أنواع الشرعية الدولية والسياسية والأخلاقية والإنسانية، وأنّ استمرارها يعني أننا نعيش في عالم الغابة، حيث الوحوش هي التي تحكم.
وقد عانت شعوب المنطقة من جراء هذا النظام العقابي الذي تفرضه أميركا، وتضرّرت اقتصاديات الدول، وساءت الأحوال المعيشية لشعوبها، فضلاً عما يتوازى معه، من سرقة موارد هذه الدول وفي المقدّمة النفط والغاز، بهدف إفقارها وإذلال شعوبها حتى الرضوخ والاستسلام. كما أنّ هذه العقوبات تتمّ خارج إرادة الأمم المتحدة، وتنعدم شرعيتها القانونية!
ولذلك فإنّ النظام الدولي الذي قد تحوّل من الأحادية الأميركية إلى الثنائية الأميركية الروسية، على خلفية الأزمة السورية منذ تفجّرها، وتحوّل إلى تعددية نسبية مع تفجر وباء الكورونا بدخول الصين كفاعل دولي حقيقي، هو نظام تجري إعادة تشكيله وهيكلته.
وفي ضوء ذلك، فإنه لم يعد لنظام العقوبات الأميركية أيّ مبرّر في استمراره، ويستوجب التصدّي له عبر مجلس الأمن في ظلّ النظام التعدّدي العالمي الجديد، ويستوجب أيضاً التصدّي له عبر النظم الإقليمية الفعالة كالاتحاد الأفريقي والاتحاد الأوروبي، ومثلها في آسيا، لوقف هذه العقوبات، وإجبار أميركا على التراجع عنها مهما كان السبب، ليتأكد فعلياً – وليس قولاً – أنّ النظام الدولي بعد سورية، ثم بعد كورونا، لم يعد كما كان قبلهما، وإلا فإنّ الفوضى والعصيان هما الحلّ في نظام دولي دخل مرحلة التحلل وتجري إعادة تشكيله، وثورة الشعوب الآتية لا محالة، ما لم تُرفع هذه العقوبات الظالمة، وما لم تقف الدول الكبرى المنافسة (الصين وروسيا) في مواجهة أميركا، نصرة للشعوب المظلومة من جراء هذه العقوبات سنوات طويلة بلا مبرّر، إلا القهر، والإصرار على فرض الطاعة بالقوة، واغتيال فكرة الاستقلال الوطني الذي ناضلت الشعوب من أجله.
وشكراً يا كورونا رغم شكلك المقزز!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، والأمين العام المساعد للتجمع العربي والإسلامي لدعم خيار المقاومة، ورئيس الجمعية العربية للعلوم السياسية.