كلفة سقوط الهيمنة الأحادية
وكالة أخبار الشرق الجديد ـ
غالب قنديل:
طغت ازمة شلل الدولة الاتحادية والمفاوضات الصعبة على الموازنة العامة بين البيت الأبيض وزعماء الكونغرس على جميع الاهتمامات والأولويات الأميركية لدرجة تأجيل القمة الروسية الأميركية المقررة في زمن دولي حرج بينما انصرف الأميركيون لمتابعة اخبار صرف مليون موظف حكومي وسط إلحاح الحزب الجمهوري على نسف اعتمادات الضمان الصحي.
أولا لا بد لوضع الأمور في نصابها من التنبه إلى أن دراسة الأزمة الأميركية المالية والاقتصادية بمفاعيلها ومظاهرها شكلت موضوعا للعديد من الكتب والأبحاث خلال السنوات العشرين الأخيرة وقد تنبأ بعضها بانهيارات شاملة لم تحصل ويرى البعض أنها تأجلت بمسكنات موضعية منذ التسعينيات ولكن الأكيد ايضا أن مسار التأزم هو خاصية تراكمية في مسار الاقتصاد الأميركي خصوصا منذ سبيعينات القرن الماضي ومن المتعذر تشخيص قوانين تطور الأزمات المتلاحقة منذ حوالي نصف قرن دون الاستناد إلى حقيقة ما يمثله النهب الاستعماري العالمي الذي تقوم به الإمبراطورية الأميركية في الحركة الاقتصادية العالمية .
ولابد أيضا من ملاحظة ارتكاز الإمبراطورية الأميركية في العقود الثلاثة الأخيرة إلى اقتصاد الحروب والغزوات الاستعمارية لمقاومة الركود ومنذ تطوير نظريات مجلس الأمن القومي الأميركي عن منع قيام قوة عالمية منافسة للولايات المتحدة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي .
ثانيا خسر المخططون الأميركيون رهانهم على منع قيام قوة منافسة ومنيت الإمبراطورية الأميركية بخسارة نظام الهيمنة الأحادية على العالم نتيجة اختبار القوة الذي أعقب قرار العدوان على سوريا وحيث اضطرت إدارة اوباما إلى الرضوخ مجددا لقواعد الشراكة الدولية التي لم ترتسم بعد في صيغتها النهائية مع أبرز قوتين منافستين للولايات المتحدة سياسيا واقتصاديا: روسيا والصين .
هاتان القوتان تتصدران معسكرا عالميا صاعدا ومتقدما يمثل اكثر من خمسي الاقتصاد العالمي ويضم دول البريكس : البرازيل والهند وجنوب أفريقيا ودول اميركا اللاتينية وإيران وسوريا وهو مرشح للتوسع في السنوات القليلة المقبلة مع تطلع أطرافه لتحرير العلاقات الدولية من آثار التسلط الأميركي واستقطاب الحكومات الراغبة في دخول حلبة التنمية المستقلة والتحرر السياسي.
ثالثا تكفي نظرة خاطفة على التحديين الروسي والصيني للتعرف على مأزق الهيمنة الأميركية ومردوده الاقتصادي داخل الولايات المتحدة حيث يقترن الرفاه الاجتماعي الداخلي بمقدرات الاقتصاد على مد الخزائن العامة بالفوائض التي تلبي الحاجة المتزايدة للأموال والتقديمات.
الصين هي القوة العالمية الصاعدة اقتصاديا وهي الإمبراطورية التجارية الدولية التي تغزو أسواق العالم وتهيمن في قلب الولايات المتحدة كما تمسك بحصة رئيسية من صكوك الدين العام الأميركي المتعاظم وهي تسعى إلى حيازة حصة كبرى في السيطرة على أسواق وموارد عديدة في مجابهة الولايات المتحدة في آسيا ( الجزر العائمة على النفط والغاز والمتنازع عليها مع اليابان والشراكة مع باكستان وإيران ومع مجموعة النمور الآسيوية ) وفي عموم القارة الأفريقية حيث يدور الصراع الكبير على النفوذ بين الصين والولايات المتحدة على انقاض الهيمنة التاريخية الفرنسية والبريطانية وكذلك رسوبات النفوذ الإيطالية والأسبانية.
أما روسيا فهي القوة الإمبراطورية العملاقة اقتصاديا وعسكريا وهي تسعى لاسترجاع مناطق نفوذها التقليدية التي هيمنت عليها الولايات المتحدة خلال العقود الثلاثة الماضية سواء في الجمهوريات والأقاليم التي كانت جزءا من الاتحاد السوفيتي ام في دول اوروبا الشرقية التي يميزشعوبها الانتماء إلى السلافية واعتناق الديانة الأرثوذكسية وهما عصب القومية الروسية وركيزة نفوذها القاري العابر للحدود منذ قرون .
رابعا من خصائص القوة الإمبراطورية الروسية انها تتشابه من حيث التكوين بالقوة الأميركية في ارتكاز بنيتها ومصالحها العالمية إلى أسواق السلاح والنفط والغاز وهو ما يجعل الصراع على الموارد والأسواق بين روسيا والولايات المتحدة صراعا وجوديا ضاريا بينما تمثل الصين قوة ناعمة للهيمنة التجارية والمالية والتكنولوجية وهي تشحذ أسنانها ومخالبها مؤخرا لفصل قادم من المنافسة الخشنة مع الولايات المتحدة التي أدرجت الصين في استراتيجيتها بوصفها الخطر رقم واحد وقد لاحظ الخبراء الأهمية الكبيرة لقرار إنزال أسطول حربي صيني ينتقل بهذه الدولة المقتدرة من التصنيف التاريخي التقليدي لها كإمبراطورية برية تملك جيوشا ضخمة وتقتصر في المياه الدافئة على قوة لخفر السواحل من غير أي سلطان بحري حقيقي.
عاشت الولايات المتحدة حالة من الاستقرار النسبي الممدد لسنوات بنتيجة صرف نفوذها وهيمنتها الأحادية العسكرية والسياسية ونعمت بثمار الفورة المالية والاقتصادية التي استندت إلى التلاعب الافتراضي بأسواق الأسهم وعندما وقع الانهيار الكبير قامت تجميع آلاف المليارات لانقاذ اقتصادها العليل من خلال تدفيع عشرات البلدان أرصدة من فوائضها المالية للخزينة الأميركية الخاوية التي صرفتها للاحتكارات والشركات المفلسة وواصلت طبع البانكنوت.
خامسا مع تغير التوازنات العالمية تصل حلقة التحايل الأميركي على الأزمات والمشاكل إلى خط نهاية نسبي لتفرض المنافسة نفسها في كل مكان من العالم وهذا ما سيجعل حياة الإمبراطورية من الداخل صعبة وشاقة حافلة بالانقسامات السياسية والخلافات التي قد ترتب نشوء خارطة حزبية وسياسية جديدة ومن الطبيعي ان يتصاعد التطرف اليمين الاستعماري بالتوازي مع النزعة الانعزالية الداعية للانكفاء على الداخل وحيث تشتد وتائر الصراعات والمطالب الناجمة عن تقلص الفوائض يمكن للتشكل السياسي ان يتمفصل حول الانتماء للولايات والعرقيات المتنوعة التي يتكون منها النسيج المجتمعي فحزب الشاي اليميني هو صورة عن مستقبل الحياة السياسية الأميركية أي ان نشوء التجمعات الجديدة سيكون القاعدة وليس الاستثناء.
ما نزال في اول الطريق الصعب والمتعرج لتراجع إمبراطورية تدفع الكلفة المستحقة لخسارة سيطرتها على العالم وسيكون عليها الرضوخ لقواعد جديدة وتعددية في العلاقات الاقتصادية والمالية والسياسية العالمية وكذلك في التوازنات والمعادلات العسكرية.