كاردينال المشرق في دمشق
وكالة أخبار الشرق الجديد ـ
غالب قنديل:
زيارة الكاردينال بشارة الراعي إلى دمشق كانت حدثا تاريخيا محملا بالكثير من المعاني و الدلالات و قد أكسبها التوقيت قيمة عالية و مضاعفة متعددة الأبعاد خصوصا و قد كانت مناسبة تنصيب بطريرك انطاكية للكنيسة الأرثوذكسية تستحق بذاتها ذلك الحضور.
أولا إن المسيحيين في المشرق و في سورية بالذات و ضمنا لبنان و العراق و الأردن و مصر أيضا يواجهون خطرا وجوديا تبدت نذره بعد الاحتلال الأميركي لبلاد الرافدين بعمليات قتل و تهجير و اقتلاع و ظهر بقوة خلال العامين الماضيين في سياق الأحداث السورية ، مصدر هذا الخطر هو انتشار جماعات التكفير الإرهابية التي دعمها الغرب و اعوانه من حكومات المنطقة بالسلاح و المال و قدموا لها الغطاء السياسي و رفدوها بجيش مما يسمى فصائل الجهاد العالمي قدره وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بخمسين ألف إرهابي و هذه القوى قامت و تقوم بعمليات بربرية ضد المواطنين السوريين من جميع الديانات و الطوائف المتواجدة على الأرض السورية و المتميزة تاريخيا بشراكة الحياة و التفاعل الثقافي و الاجتماعي و بالإخاء ضمن الرابطة الوطنية و القومية .
زيارة الكاردينال الراعي لسورية في هذه الظروف و دعوته للحوار و إدانته للعنف هي تتويج للمواقف التي بشر بها منذ انتخابه بطريركا للموارنة و من ثم كاردينالا لكنائس المشرق ، و مجرد تواجد الراعي في دمشق و توجهه بالخطاب إلى السوريين و أبناء الكنائس الشرقية منهم بالذات من شأنه ان يعزز تشبث السوريين بأرضهم و بوطنهم و أن يرفع من همة مقاومتهم للعدوان الإجرامي على بلدهم و الذي لخص الراعي الموقف منه باعتباره ان كل ما يحكى عن حقوق الإنسان و الإصلاحات لا يساوي دم إنسان واحد يراق و قد أسس بهذا الموقف للتمسك بالحوار طريقا لخلاص سورية من الأزمة التي تجتازها و هي الدعوة الموضوعية التي نادى بها الراعي منذ البداية و جاهر بها في وجه العالم و باتت اليوم شعارا تردده جميع الدول بما فيها تلك التي رفضت نصائح الراعي و تورطت في الأحداث و منعت التجاوب مع دعوات الحوار التي صدرت تباعا عن الدولة الوطنية السورية و رئيسها .
ثانيا تحمل الزيارة بعدا مهما في مستقبل العلاقات اللبنانية السورية و في هذه الظروف بالذات فهي أول زيارة يقوم بها بطريرك ماروني لسورية منذ الاستقلال و هو يمد بذلك جسور التواصل و الحوار المنتج داخل الكنيسة و من حولها الأمر الذي ستكون له نتائج و أصداء واسعة و عميقة الأثر في تطور العلاقات بين البلدين خصوصا و ان اللبنانيين و السوريين يواجهون الأخطار ذاتها بدءا بالتهديد الإسرائيلي المستمر و ليس انتهاءا بعصابات التكفير الإرهابية العابرة للحدود و قد شرع لبنان يدفع كلفة تورط بعض الأطراف الفاعلة في تكوين منصات للشراكة في العدوان على سورية و في احتضان إرهابيين متعددي الجنسيات و قدموا المأوى و الدعم للعصابات الناشطة داخل سورية و يقينا إن فعل التنوير و التحصين ضد تلك الأخطار و الذي حملته الزيارة بكل جدارة يسهم في تكوين إرادة شعبية واحدة في البلدين هي قاعدة الدعم المرتجى لإنتاج سياسات و قرارات تناسب حجم المخاطر الوجودية على سورية و لبنان .
ثالثا كرست الزيارة مفهوم سيد بكركي و القطاعات الأوسع من المسيحيين في لبنان عن المشرقية الراسخة الجذور في الأرض و المنتمية لبيئتها الوطنية و القومية و هو جوهر الإرشاد الرسولي الذي تعهده الكاردينال الراعي منذ سنوات و رعى ولادته و قاد حركيته في قلب الكنيسة و داخل المجتمع اللبناني و قد لعب الراعي دورا محوريا في تأسيس قاعدة المفاهيم التاريخية و الكنسية التي قام عليها الإرشاد و التي تحولت إلى مرتكزات حاسمة في سياسة الفاتيكان اتجاه المنطقة و لبنان و سورية خصوصا .
من غير أي شك فقد كان للجنرال ميشال عون و لحلفائه الوطنيين دور حاسم في تكوين الحاضنة الاجتماعية لهذه التوجهات و في رعاية تحول تاريخي داخل الكنيسة يواكب تبلور التيار الشعبي الوطني الذي توجه انتخاب الكاردينال الراعي على رأس الكنيسة المارونية.
يبقى القول إن الحملات الظالمة و الهستيريا التي قوبلت بها الزيارة تعكس إفلاس و انهزام خيار سياسي و ثقافي لم يجلب على المسيحيين سوى الكوارث و الويلات و هذا الخيار يعيش خيبة متجددة مع فشل رهانه على إسقاط سورية و رئيسها بعدما قدم رموزه السياسيون في لبنان دعما كبيرا لحركات سورية تكشفت عن واجهات لشبكات الإرهاب و التكفير التي تقوم عقائدها على إبادة و اقتلاع الوجود المسيحي في المنطقة و هي قدمت البرهان على ذلك عمليا في حمص و حلب خصوصا بإحراق الكنائس و نهبها و عبر جرائم موصوفة بحق العائلات المسيحية التي تجذر التزامها بمقاومة العدوان الأجنبي على سورية و التصدي لأدواته العميلة .