كأس العالم.. كيف يرانا الغرب؟
موقع العهد الإخباري-
أحمد فؤاد:
جدال فوق جدال وهجمة بعد أخرى أثارها انطلاق فعاليات مهرجان كرة القدم الأهم، كأس العالم 2022، والذي تستضيفه للمرة الأولى دولة عربية مسلمة، هي قطر، وجعلها مناسبة للحشد الغربي الموجه ضد العرب والإسلام بشكل عام، ومناسبة لجماعات أخرى رأت أن هذه الحرب الإعلامية تستوجب حمل ألوية الدفاع عن الإمارة الخليجية الصغيرة، وبين هذا وذاك تاهت الحقيقة بين الظلال والضباب الكثيف، أو كادت.
بداية فإن مناسبات كرة القدم تنتمي إلى عالم آخر، لا نعرفه كثيرًا في منطقتنا العربية، المزدانة بهمومها وجروحها، وأقصى ما يمكن انتظاره من مباراة أو حدث رياضي، هو شراء بعض الوقت للتهدئة ومنح الجماهير الواسعة جرعة من مخدر الوطنية الزائف، الدائر حول عدد من أفراده يرتدون زيًا موحدًا وينشدون نشيدًا واحدًا، خلاف ذلك فلا يمكن المقارنة بين العقلية الرياضية العربية بنظيرتها في أوروبا أو أميركا اللاتينية، والتي تحولت فيها الكرة إلى صناعة واستثمار هائلين، وهي المسيطرة بالفعل على الميداليات والكؤوس.
كأس العالم، كحدث وصورة، ربما يشبه قمة المناخ التي استضافتها مصر قبل أسبوع من اليوم، تجمع عالمي لا نملك فيه إلا صفة المفعول به، وربما فيه، ونصدق أن الاستضافة في حد ذاتها تعني الاعتراف بشيء ما، ونتخيل بناء على ذلك أهمية افتراضية لدولنا وأنظمة حكمنا الرعناء، وفي النهاية لا نجني من وراء هذه الأحداث سوى إنفاق موارد طائلة على “صورة جيدة” ننتظر أن يمن علينا بها الإعلام الغربي، الذي يصفعنا في كل مرة بتأجيج الحديث عن الفشل والتردي والعجز الذي وصلنا إليه.
يقول أحد الآراء، أن تكاليف استضافة مصر للحدث الذي يعني ويهم الدول الصناعية الأكبر والأهم، ونحن طبعًا خارجها تمامًا، كانت نحو 15 مليار جنيه، وكانت النتيجة المباشرة للتركيز الإعلامي على الحدث فضيحة دولية كاملة الأركان للنظام المصري، بفعل انتقال ملف المعتقلين والمختفين قسرًا وعشرات الآلاف من المسجونين إلى الصفحات الأولى لكبرى الصحف والدوريات العالمية.
واليوم يقول أصحاب هذا الرأي، إن قطر هي الأخرى أنفقت طبقًا لأرقام معلنة ورسمية نحو 220 مليار دولار على استضافة 32 فريقًا لمدة تربو قليلًا على شهر واحد، شملت إنشاءات الملاعب الرياضية وإنجاز بنية تحتية مذهلة في كل أرجاء البلد الصغير، تنافس أو تتفوق على مثيلتها بالمدن الأوروبية الكبرى، وإجمالي الإنفاق القطري على هذه البطولة وحدها يفوق كل ما أنفق على استضافة بطولات كأس العالم منذ انطلاقها في 1930، ولا يقارن بإنفاق الدول التي استضافت النسخ السابقة (روسيا- 11.6 مليار دولار) (البرازيل- 15 مليار دولار) (جنوب إفريقيا- 3.6 مليارات دولار).
الحقيقة الوحيدة في قصة إقامة كأس العالم ببلد عربي هي أنها مثال للبؤس الشديد والعجز المميت عن رؤية الأولويات والتحديات القائمة، لكل شعوب الدول العربية، وأن التاريخ العربي الحديث -بالذات – وإن كان خط بالدماء والآلام، فإن الكثير من صفحاته قد كتبها مداد الخيبة والطمع ومزيج العمى وجنون العظمة لحكامه.
المبلغ الذي أنفقته الإمارة الخليجية البترولية، كان كافيًا – مثلًا – لو تم توجيهه إلى ما يهم الشعوب العربية ويحقق مصالحها، لزراعة كل أراضي السودان، التي تتمتع بوفرة هائلة من أخصب الأراضي الزراعية على الكوكب، نحو 4.5 مليون فدان منهم 2.1 مليون فدان في منطقة الجزيرة، ولا ينقصها سوى التخطيط وإنشاء طرق وبنية تحتية مناسبة، وإقامة مستودعات ومصانع أغذية في وسطها، تضمن أن تتحول المنطقة العربية من “أخطر مناطق العالم بالنسبة لقدراتها على توفير الأمن الغذائي لمواطنيها”، وفقًا لتعبير منظمة الفاو، إلى سلة غذاء رئيسية للعالم العربي وإفريقيا.
وتستورد الدول العربية مجتمعة نحو 100 مليار دولار من السلع الغذائية سنويًا، وتشمل الواردات العربية كل السلع الغذائية تقريبًا، 63.5% من استهلاك القمح، و75% من استهلاك الذرة، اللازمة للأعلاف وإنتاج اللحوم الحمراء والدواجن، و55% من الاحتياجات السنوية من الأرز، و65% من استهلاك السكر، و55% من الزيوت، وكل الأرقام صادرة من قطاع الشؤون الاقتصادية بجامعة الدول العربية.
هذا المبلغ الذي تم إنفاقه على بطولة ستستمر شهرًا واحدًا، كان كافيًا لإعادة إعمار سوريا، التي مزقتها الحروب الممولة من إمارات وممالك الخليج النفطي، وكان كافيًا لخلق بنية صناعية من العدم على شواطئ الخليج، كان يكفي ويفيض إذا ما أحسن توجيهه نحو تحقيق مصلحة عربية بالفعل، ولصالح الشعوب.
لكن يبدو أن الخسارة هي التجارة الرائجة لدى الحكام العرب، ولدى الأنظمة المزروعة والمسيطرة عليه، فلا مصر استفادت من قمة المناخ، التي وصفتها الأمم المتحدة بعد نهايتها بإنها “فشلت في تحقيق اتفاق”، ولا قطر ستسفيد منها في تلميع صورتها وصورة حاكمها لدى الغرب، الغرب لا ينتظر مثل تلك المبادرات، وهو في تقييمه للتابع العربي لا ينظر إلا إلى مدى ما يستطيع التنازل عنه أو بيعه.
وفوق كل هذا، فإن النظرة الغربية للعربي، وللعالم كله خارجه، لم تتغير ولن تتغير، مهما بدا من تفوق الدولة المستضيفة للبطولة الكبرى في التنظيم والتخطيط وخلق البنية التحتية المتطورة، سيردها الغربي إلى فوائض النفط أو الخبرات الأوروبية والأميركية التي استطاعت الإمارة الصغيرة حشدها وتوظيفها، لتخرج البطولة بأفضل صورة دعائية ممكنة عنها، وربما يفعل الإعلام الغربي العكس تمامًا، ويعمد إلى التركيز على كل سقطة وسلبية قد يراها، ويجعلها الصورة الوحيدة المرتبطة بالأذهان عن البطولة إلى الأبد.
ويمكن تلخيص هذه النظرة، التي تتعدى الاستعلاء إلى نفي الآخر وإنكار كل حق إنساني له، في كتاب الباحثين “ديفيد بلانكس” و”مايكل فراستو”، والمعنون بـ “وجهة النظر الغربية من الإسلام في القرون الوسطى وبداية العصر الأوربي الحديث”، ويقول الكتاب إن الغرب في عز تفوقه وسيادته على العالم، قد نفى كل أثر للحضارات العربية القديمة (مصر والعراق) في تقدم الحضارة الإغريقية، ثم تجاهل إضافات الحضارة الإسلامية لها، ليضمن تأكيد هذا التفوق الدائم على كل الأعراق الأخرى.
ويضيف أن الأوروبيين كانوا يؤمنون أن الاختلاف أمر مقيت، ويعملون بكل جهد لاستئصال هذا الآخر أو استعباده، وكل من لا يفكر ولا يعمل ولا يلبس، كما يفكرون ويعملون ويلبسون، إنما هو زنديق، ويزيد من الغوص في العقل الأوروبي بقوله: إن “الشرق في الفكر الأوروبي موضع الشر في الأرض، والمسلمون وثنيون يتميزون بالخِسة”.
هكذا يرانا الغرب، أو هكذا يؤمن بصورتنا، وكل هذه المساحيق التي تنفق عليها المليارات لن تنتزع لنا حقًا ولن تعيد لنا أرضًا، والدرس متجدد وموجع، والحبل كما قيل على الجرار.