قناصون من البنايات.. تجريب الحرب الثالثة
موقع قناة الميادين-
محمد فرج:
ما جرى أمام منطقة “العدلية” في بيروت ليس حدثاً لبنانياً خالصاً، فما جرى في العراق يخضع للمنطق نفسه والتسلسل نفسه.
حربان جرَّبتهما “إسرائيل” والولايات المتحدة ضد المقاومة في لبنان؛ الأولى كانت الحرب المباشرة التي تكثّفت في لحظة تموز/يوليو 2006م، والتي تكثفت أهدافها في 3 أهداف أساسية، بحسب دراسة أنتوني كوردزمان في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن، الأول تدمير القوة الصاروخية لحزب الله، وتحديداً الترسانة المتوسطة والبعيدة المدى، وتدمير بنيته التحتية العسكرية بشكل عام، والثاني إعادة الهيبة لـ”إسرائيل” بعد الانسحاب الذليل والمر من الجنوب في العام 2000م، والثالث هو العمل على تأسيس حالة سياسية تتكوَّن فيها حكومة لبنانية ضعيفة ومضطربة، تضبط مقاومة ضعيفة.
بعد التأمل في الأهداف الثلاثة، وسحبها أيضاً على مناخات الحرب على سوريا خلال عشرية النار، يمكن القول إنها فشلت جميعاً ولم تتحقق، فالقدرة الصاروخية لحزب الله تطورت، وصورة “إسرائيل” استمرّت بالتراجع، والمناخات السياسية في لبنان عانت الأمرّين، إلا أنّ الحالة التي بحثت عنها “إسرائيل” لم تتحقّق.
بعد الفشل الميداني الإسرائيلي، بدأ التركيز على نمط جديد من الحروب (الحرب الثانية)، وهي التركيز المسعور على حرب الأفكار (كما روّجت مؤسسة “راند” البحثية في أكثر من مناسبة)، وحرب الإعلام، وتكريس الشق الأكبر من الميزانيات والأموال لمصلحة محاولات تطييف المقاومة، ومحاولة وسمها بمقاومة طائفية، ومحاولة تطييف السياسة الخارجية لإيران بالترافق مع كل ذلك (كما روّج مركز “كارنيغي” في أكثر من مناسبة).
لم تتحقّق النجاحات الاستراتيجية المرجوّة أميركياً وإسرائيلياً من الحرب الثانية، فحالة الشحن الطائفي التي لا ينكر أحد نجاح مفاعيلها في الجولات الأولى في أكثر من ساحة، تفرّغ الحيز الأكبر منها بشكل ضمني مع الفرز الواضح بين محور التطبيع ومحور المقاومة، وميزة هذا الفرز أنه لم ينحصر في دوائر النخب والمثقفين، إنما امتدّ شعبياً، كجزء من ملاحظات المواطنين الاعتيادية.
مع عجز “إسرائيل” عن إعادة تجريب الحرب الأولى (المباشرة الشاملة)، ومع إصرارها على استكمال نموذج الحرب الثانية (حرب الأفكار)، تركّز الحرب الثالثة بشكل أساسي على تحفيز التوتير الداخلي بأدوات مختلفة، وحصة لبنان من هذه الأدوات هي تسييس مسار التحقيق، والعمل على وضع جمهور محدد في خانة الاتهام المباشر ومحاولة استفزازه.
من أحداث منطقة خلدة، وقنص أشخاص يسيرون في جنازة، إلى قنص متظاهرين سلميين أمام العدلية، وإحداث إصابات خطيرة وسقوط شهداء، كلّ ذلك يسير في فلك المنطق الإسرائيلي القائم على استخدام أدوات صغيرة قد تحدث نتائج كبيرة.
بمعنى آخر، إن لم تنجح حرب الأفكار في إشعال نار حرب أهلية، يتمّ استخدام عدد محدد من المسلّحين والقناصين الذين يطلقون النار من أسطح البنايات، لعلّ الدم يجلب الدم، وتتدحرج كرة النار.
ما جرى أمام العدلية ليس حدثاً لبنانياً خالصاً، فما جرى في العراق يخضع للمنطق نفسه والتسلسل نفسه، فالحرب المباشرة أنتجت في نهاية المطاف مقاومة أجبرت الرئيس الأميركي جو بايدن على التصريح بالخروج قبل نهاية العام، وأجبرته كذلك على تحييد اللغة الرمادية والمموّهة (الإبقاء على مهمات استشارية).
وبعد الحرب المباشرة، وخلال تعرض العراق لموجة إرهاب عاتية، تعرّض الحشد الشعبي لدعاية التطييف ذاتها (حرب الأفكار)، وها هو اليوم يواجه الحرب الثالثة في العراق، وهي توتير الداخل من خلال التدخل في الانتخابات أو تشجيع مؤتمر تطبيعي في الشمال يستفز الجمهور العراقي. إن ذلك فعلياً مكافئ تماماً لمبدأ قناصين على أسطح بنايات في بيروت.
توتير الداخل هو العنوان الأساسي للجولة الإسرائيلية اليائسة القادمة، التي تعرف أنَّ المسار الاستراتيجي يسير ضد مصالحها، ولا سيما مع التراجع الأميركي.
“إسرائيل” تحديداً ستكون مهووسة خلال الفترة المقبلة بمناخات التوتر. ويعود السبب في ذلك إلى أنها تريد حصد أكبر قدر ممكن من الهدايا الأميركية قبل المزيد من الانسحاب. إنه الصراخ “الإسرائيلي” في مخاض التسويات الذي لم تجربه سابقاً، حتى بعد الحروب.