قمة جوهانسبرغ بين الآمال المعقودة وتحديات المستقبل
صحيفة الوطن السورية-
محمد نادر العمري:
رغم الضبابية التي رافقت مسار النمو لما يعرف بتكتل «بريكس» خلال السنوات الماضية ومراهنة البعض من صانعي السياسات الاقتصادية والسياسية الغربية من تصدع العلاقة بين الدول الخمس المؤسسة لهذا التكتل وانهياره مع أولى الأزمات التي قد تعصف بدوله الداخلية أو على مستوى النظام الدولي، إلا أن هذه الرهانات والأمنيات يبدو أنها اصطدمت بالإحباط، وخاصة مع اختتام القمة الخامسة عشرة للتكتل والتي انعقدت في عاصمة جنوب إفريقيا جوهانسبرغ على مدى ثلاثة أيام.
ما يميز هذا الاجتماع إلى جانب انعقاده بشكل حي ومباشر بين القادة المشاركين بعد عقده في السابق بشكل افتراضي نتيجة انتشار وباء كورونا، يكمن في عدد من النقاط:
أولاً- فشل المؤسسات الليبرالية في فرض رؤيتها ومخططاتها للتحكم بكل دول النظام الدولي عبر التحكم بالمؤسسات المالية والنقدية، أو من خلال فرض العقوبات الاقتصادية على كل من يخالف توجهاتها ويحاول التخلص من أمواج الرأسمالية المتوحشة.
ثانياً- اتساع رقعة الصراع الجيوإستراتيجي بين الدول الغربية وروسيا على الساحة الجغرافية الأوكرانية وبين الولايات المتحدة والصين في حقول صراع متعددة المجالات، حتى بات المشهد أقرب للصراع بين الدول الغربية ودول الشرق، ما خلق حاجة لدول الشرق والدول الصاعدة والنامية لتسريع وتيرة التعاون فيما بينها وخاصة في المجال الاقتصادي للتخلص من العقوبات الغربية وإيجاد مساحة من التعاون بعيداً عن التأثير الليبرالي المهيمن.
ثالثاً- انتقال الصراع للقارة السمراء، فقد أظهرت أزمة النيجر حاجة الدول الإفريقية للتخلص مما يمكن تسميته استبدادية الديمقراطية الغربية التي جهدت لسلب ثروات الشعوب واستعبادها، وما يعزز ذلك انعقاد هذه الدورة بإحدى دول البريكس الإفريقية في رسالة لتعزيز مكانة القارة في النظام الدولي وفق ما نقل عن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في تصريح صحفي له مع وكالة «تاس» الروسية، سبق انعقاد قمة إفريقيا روسيا.
رابعاً- توجه الدول المؤسسة لتكتل «بريكس» بشكل كامل لقبول عضوية دول جديدة بلغ عدد من تقدم إليها بطلب العضوية ثلاثاً وعشرين دولة، البعض منها يشهد نمواً اقتصادياً لافتاً، بين هذه الدول أربع دول عربية وهي السعودية ومصر والإمارات والجزائر إضافة للجمهورية الإسلامية الإيرانية وفنزويلا.
خامساً- يلاحظ قبل القمة دعوة ٦١ دولة و32 منظمة إقليمية ودولية لحضور قمة جوهانسبرغ وسط عدم توجيه أي دعوة لأي زعيم غربي رغم إبداء الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون رغبته بحضور هذه القمة.
سادساً- ما تضمنه جدول أعمال القمة من قضايا مهمة بحثت على مدى الأيام السابقة لما لها من تأثير ملموس في تطور مكانة التكتل وآفاقه وأهم هذه البنود تمثلت في: توسيع العضوية والمبادئ الحاكمة، وبحث استخدام العملات المحلية للدول الأعضاء بديلاً عن الدولار الأميركي في المعاملات التجارية، وزيادة التجارة بين الدول الأعضاء، وهو ما يزيد من القدرات التي يتمتع بها هذا التكتل، إذ تمثل مجموعة «بريكس» الآن من خلال دولها الخمس 23 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي و42 بالمئة من سكان العالم، و40 بالمئة من المساحة الجغرافية، وأكثر من 17 بالمئة من التجارة العالمية.
إلا أن «بريكس» كتكتل أو مجموعة تأسست رسمياً في 16 حزيران عام 2009 في «يكاترينبورغ» الروسية قبل أن تنضم إليها جنوب إفريقيا وتتخذها اسمها الحالي، وتواجه بعقبات مازالت تمثل تحديات في مسار بلورة صيغتها الاقتصادية السياسية كفاعل دولي له تأثير مواز للنظام الغربي، وأبرز هذه التحديات تتمثل في:
1- في الوقت الذي تسعى به «بريكس» لإثبات حضورها وتوسعه في النظام الدولي، إلا أنها لم تتخلص بعد من التأثير الغربي وتدخلاته، إذ إن التكتل فشل في مواجهة التأثير الغربي المتمثل بمذكرة التوقيف الصادرة بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن محكمة الجنائية الدولية بذريعة ارتكاب جرائم حرب في أوكرانيا وهو ما دفع لعدم حضور القمة بشكل شخصي، فضلاً عن تجميد «بنك التنمية الجديد» للقروض الروسية لطمأنة المستثمرين من خلال امتثاله للعقوبات الغربية بدلاً من تقديم يد العون لروسيا.
2- صحيح أن «بريكس» حالياً تسعى لتقديم نفسها على أنها تمثل دول الجنوب، وعلى أنها الأنموذج البديل عن مجموعة السبع، على أساس أن معظم دولها تصنف كدول نامية أو ناشئة واقتصادياتها تشهد أسرع نمو مقارنة بكل اقتصاديات العالم، إلا أن هناك عراقيل تواجه الاندماج بين هذه الدول سواء فيما يتعلق بطبيعة أنظمتها السياسية، أو بقوانينها الاستثمارية، أو من خلال تنوع مشكلاتها الداخلية، أو حتى من حيث التباين في شكل وكم صادراتها ووارداتها، وهو ما قد يخلق فجوة بين دولها مستقبلاً من الناحية الاقتصادية إذ لا يمكن المقارنة بين حجم الصادرات الصينية على سبيل المثال مع صادرات جنوب إفريقيا.
3- التوجه نحو زيادة حجم ودائع بنك «بريكس» البالغة اليوم 50 مليار دولار وحجم احتياطاتها البالغة 100 مليار دولار، هو يتنافى من ناحية مع توجه دول «بريكس» لإيجاد عملة موحدة أو تعويم عملات التكتل في التعاون المتبادل، ومن ناحية ثانية عدم وجود مشاريع واضحة المعالم لاستثمار هذه الأموال، ما قد يضع بعض دول التكتل أمام مشكلات تضخمية ودول أخرى أمام كساد اقتصادي.
4- من أبرز وأهم التحديات التي تواجه دول «بريكس» في الوقت الحالي وعلى المستوى البعيد يكمن في اللجوء لأحد المسارين اللذين سيكون لهما عواقب إن لم تدر بشكلها الاقتصادي الصحيح، أما اعتماد العملات المحلية كقاعدة للتعامل بين اقتصاديات 40 بالمئة من العالم وهي قابلة للاتساع، أو اعتماد عملة موحدة قد تكون جديدة أو يتم الاتفاق على عملة خاصة بإحدى الدول يتم التداول بها، وكلا الحالتين تحمل مخاطر، فالخيار الأول صنع بهذا التوقيت لكون اعتماد عملة جديدة يحتاج إلى مقومات وشروط تحافظ على قوة العملة وتجعلها قادرة على مواجهة الدولار، وهذا مرتبط بحجم التداول والإنتاج والتعامل وغيرها، أما الخيار الثاني فإن وضع سلة العملات للتداول سيخلق تبايناً خطيراً بين هذه العملات، فالتعامل الروسي الصيني بالروبل واليوان هو مقبول لكون كلا الدولتين تمتلكان ذات الإمكانات ولا توجد فوارق كبيرة في الصادرات والواردات بينهما، ولكن التعامل بين إحدى الدولتين السابقتين مع الدول الأخرى قد يخلق فارقاً ما يجعل التداول بعملة على حساب عملة أخرى.
«بريكس» هذا التكتل الذي ولد فكرة عام 2001، ثم تحول لمشروع وها هو اليوم بات يمثل أملاً وحاجة لكثير من الدول، عليه أن يجزم إرادة دوله السياسية بالحفاظ على هذا التكتل وتعزيزه لكسب ثقة المزيد من الدول للانضمام إليه أو التعامل معه، وقد تزداد هذه الإرادة مع زيادة حدة الصراعات الجيوإستراتيجية الدولية أو مع تفاقم الأزمات الناجمة عنها.