قلق روسي من إلغاء “الطائف” وإرساء نظام جديد في لبنان
موقع قناة الميادين-
غسان سعود:
من موسكو إلى الفاتيكان يتكرّر الكلام بشأن خشية كبيرة من إرساء نظام آخر في لبنان تحت ذرائع متعددة.
قبل أيام قليلة (6/12/2021) أعطى رئيس الحزب الاشتراكي النائب السابق وليد جنبلاط تصريحاً لصحيفة “الأنباء” الإلكترونية التي يُصدرها الحزب التقدمي الاشتراكي، كرّر فيه مجموعة مواقف سابقة، قبل أن يختم بسؤال يقول: “هل توصّلنا إلى قناعة، كلبنانيين، بأن النظام القديم فاشل”؟ وبسرعة، أجاب بنفسه بالنيابة عن اللبنانيين قائلاً: “توصلنا إلى هذه القناعة، وآن الأوان لإنتاج نظام سياسي جديد”.
موقف رئيس “الاشتراكي”، الذي كان ولا يزال الحجر الأساس فيما يصفه بـ”النظام القديم الفاشل”، مرّ مرور الكرام، إلاّ أن التدقيق في البرقيات الدبلوماسية يبيّن وجوب التعامل مع تسريبات جنبلاط المقصودة بجدية أكبر، بحيث تؤكد معلومات خاصة لـ “الميادين” أن وزير الخارجية اللبنانيّ عبد الله بو حبيب فوجئ، خلال زيارته الأخيرة موسكو، بنظيره الروسي سيرغي لافروف، يقول حرفياً ما ترجمته: “لدينا قلق في موسكو من إمكان أن تكون هناك نيّة في إلغاء اتفاق الطائف الذي كرّس المناصفة بين المسيحيين والمسلمين، وإرساء نظام آخر يقوم على أساس فدرالية مثالثة، يمكنها أن تؤدي إلى مشاكل بين الجميع”.
لافروف لم يُشر إلى جهة معينة تغذّي القلق الروسي، لكن عبارته هذه أتت مباشرة بعد انتقاده ردة الفعل السعودية “المبالَغ فيها”، بحسب قوله. ومن موسكو إلى الفاتيكان تكرّر كلام المستضيفين الرسميّ بشأن خشية كبيرة من إرساء “نظام آخر تحت ذرائع متعددة”.
وكان الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، أكد في خطابه بتاريخ 18 تشرين الأول/أكتوبر 2021، أن حزب الله ليس مع المثالثة، موضحاً أن تغيير النظام من وضعه الحالي الذي تمثّل المناصفة أساساً له، إلى نظام آخر تمثّل المثالثة أساساً له، هو فكرة “طرحها الفرنسيون على الإيرانيين في أيام الرئيس جاك شيراك، ونقلها الايرانيون إلى الحزب الذي رفضها نتيجة إيمانه بأن مصلحة لبنان تكمن في المناصفة”.
وهنا، لا بدّ من ترتيب الأفكار بوضوح:
1. الفرنسيون يعرضون قبل سنوات مبدأ تغيير النظام اللبناني، ولا يصدر أي رد منهم على كلام الأمين العام لحزب الله، على الرغم من نشاط السفيرة الفرنسية في لبنان في التسريب والتصريح.
2. وزير خارجية روسيا يقول لنظيره اللبناني، أمام أربعة عشر شخصاً، إن لدى موسكو قلقاً من وجود نية (سعودية، من دون أن يسميها) لإبدال نظام المناصفة بنظام مثالثة.
3. النائب السابق وليد جنبلاط يجاهر بوجوب إنتاج نظام جديد، تزامناً مع هجومه على “الهيمنة الإيرانية”، وقول كل ما يلزم لاسترضاء السعوديين.
4. تركيز الإعلام المموَّل من السعودية على النَّزَعات الفيدرالية، التي تقول إن تجربة “العيش معاً” لم تكن موفَّقة، مع تكرار ببغائيّ لعبارة اللامركزية الإدارية ممن لا يمكنهم تقديم نموذج بلديّ واحد يشجع على زيادة صلاحيات اللامركزية.
كل ذلك يتزامن مع تصاعد الحديث الفرنسي – السعودي عن “الإصلاحات الضرورية” كشرط رئيسي لمساعدة لبنان. وهو ما يفتح الباب أمام سؤال جدي ومشروع جداً:
هل يقصد هؤلاء، في حديثهم المتواصل عن الإصلاحات، تلك الإصلاحات الإدارية والقضائية والمالية التي يتطلّع إليها كثيرون من اللبنانيين، أَمْ يقصدون شيئاً آخر مُغايراً بالكامل، وله علاقة بنظام الحكم في لبنان؟ مع كل ما يعنيه ذلك من تعقيدات وتجاذبات ومحاولات مستجدة لتعديل النظام من دون موازين قوى تسمح بذلك. فالنظام، الذي أسسته فرنسا ودعمته بكل قوة السعودية بعد اتفاق الطائف، لم يعد صالحاً في نظر وليد جنبلاط وغيره من المستفيدين عقوداً من سيئاته، حين تبدّلت موازين القوى المحلية. ولا بدّ بالتالي من إيقاف التفاعل البريء مع الحديث السعودي – الفرنسي عن إصلاحات منتظرة، بسبب سؤالهم بوضوح عما يقصدونه بهذه الإصلاحات: إصلاحات مماثلة لما وُصف بالإصلاحات أيضاً في الطائف عشية تعديل الدستور أو إصلاحات كتلك التي يتطلّع إليها الشعب اللبناني، ويعارضها بكل قوة ممكنة كل حلفاء فرنسا والسعودية، من جنبلاط إلى تيار المستقبل إلى القوات اللبنانية، التي يفيد تذكير الإصلاحيين دائماً بأنها ترأس لجنة الإدارة والعدل في مجلس النواب.
بالتالي، بعد الكلام الرسمي الروسيّ الخطير: حين يتعلق الأمر بالسياسة المالية، هل تقصد فرنسا والسعودية، في حديثهما عن الإصلاح، تدقيقاً جنائياً كاملاً متكاملاً من دون قيد أو شرط، بكل ما يقتضيه ذلك من كفّ ليد حاكم مصرف لبنان رياض سلامة حتى انتهاء التحقيق، وإعلان نتائجه بكل شفافية للرأي العام؟ وهل يشمل الإصلاح، الذي تُكرّر باريس الكلام عليه، رفعَ السرية المصرفية والعقارية في أوروبا عن أملاك كل اللبنانيين الذين تعاطوا الشأن العام في لبنان، بمن في ذلك أصدقاء الاستخبارات الفرنسية من وزراء ونواب ومدراء عامين حاليين وسابقين؟
وفي الكهرباء، هل تقصد باريس والرياض، في حديثهما عن الإصلاح، إلزام أصدقائهما اللبنانيين بالقبول بخُطط جبران باسيل المتعاقبة لبناء معامل لإنتاج الطاقة الكهربائية، بكل ما يُلحقه ذلك بضرر بشركات استيراد النفط وتوزيعها، وشبكات المولّدات الخاصة بحلفاء الرياض وباريس في لبنان؟
قضائياً، هل تعنيان، في حديثهما عن الإصلاح، أن أداء مجلس القضاء الأعلى، برئيسه المقرّب جداً جداً من الفرنسيين سهيل عبود، يحتاج إلى تغيير، أم أنهما تريدان إطلاق يده أكثر فأكثر.
أمنياً، هل تشعر الرياض وباريس بأن ثمة فساداً في الأجهزة الأمنية اللبنانية، من فرع المعلومات، إلى قوى الأمن الداخلي، إلى استخبارات الجيش وقيادة الجيش، ولا بد من نفضة شاملة وإصلاح ما يمكن إصلاحه، أم ماذا تحديداً؟
إدارياً، في الإدارات العامة المتخَمة بالموظفين المحسوبين على حلفائهما في كل المواقع الأساسية: هل تريدان إصلاحاً وتغييراً على غرار ما يطالب به وليد جنبلاط، الذي يرفض أيّ مس بموظف محسوب عليه، أم ماذا تحديداً؟
اقتصادياً، هل ثمة شعور فرنسي سعودي بأن أصحاب الامتيازات وكارتيلات أصدقائهم، والشركات الفرنسية – اللبنانية المحتكرة للمواد الغذائية والأدوية وكل أنواع المواد الأولية، إنما هم جزء أساسي من الأزمة الاقتصادية اللبنانية، ولا بدّ من إطاحتهم جميعهم بخطوة إصلاحية كبرى، مع العلم بأن الشراكة اللبنانية – الفرنسية في هذا القطاع سابقة لاستقلال لبنان. هل يفكّر السعودي والفرنسي في إصلاح طريقة عمل المجتمع المدني مثلاً، أسوة بفرنسا والسعودية، فتنتظم هذه الجمعيات تحت سقف قانون واضح، وتقدّم في مواعيد واضحة ومحدَّدة تقارير مالية موثَّقة تفيد بكل ما وصل إليها من أموال وكيفية إنفاقها، وكيف ومتى وأين ولماذا؟ ويمنع من يدّعي أنه لا يبغي تحقيق منفعة خاصة من السعي وراء الكراسيّ النيابية والوزارية والأموال؟
هل هذا هو الإصلاح الذي تتحدث عنه بيانات السعودية وفرنسا، أَمْ أنهما تقصدان إصلاحاً آخر، لا علاقة له بكل ما سبق؟ لأن ما سبق إنما هو ركيزة النفوذ الفرنسي – السعودي في لبنان.
ما يقوله وزير الخارجية الروسي، معطوفاً على ما يقوله جنبلاط، معطوفاً على القلق الفاتيكاني المعلَن، معطوفاً على ما سبق للأمين العام لحزب الله أن أشار إليه سريعاً في معرض خطابه بُعَيد كمين الطيونة، يُفترض أن تفتح العيون جيداً على ما تحضّره السعودية مع جنبلاط والقوات اللبنانية ومع أطراف غيرهما.
فبعد الطائف الذي كرّس، على الرغم من كل سيئاته، المناصفةَ، هناك من ينوي الذهاب أبعد، كما تشير معلومات الخارجية الروسية، وهو ما يستوجب أعلى درجات الحيطة والحذر، وخصوصاً ان هناك مَن يُتقن تسمية الأشياء بغير أسمائها، مطلقاً وصف “الإصلاحات” على نيّات لا علاقة لها بالإصلاح، من قريب أو بعيد.