قرار محكمة العدل الدولية: جريء لكنّه ناقص
موقع قناة الميادين-
ليلى نقولا:
لم يكن قرار محكمة العدل الدولية على قدر التوقّعات المأمولة منه، لكنه شكّل سابقة دولية قانونية، وتاريخية تدين “إسرائيل” على أعمالها ضد الفلسطينيين.
أصدرت محكمة العدل الدولية قرارها المبدئي في قضية جنوب أفريقيا ضدّ “إسرائيل”، حول قيام “إسرائيل” بانتهاك اتفاقية “منع إبادة الجنس” الصادرة عام 1951، والتي تشترك فيها كلّ من “إسرائيل” وجنوب أفريقيا.
وفي قراءة أولية للحكم الصادر عن المحكمة يمكن الإشارة إلى ما يلي:
1-قبلت المحكمة الاختصاص في النظر في هذه القضية، وقالت إنه لا يمكن قبول طلب “إسرائيل” برفض النظر في القضية. ووجدت أنه يحقّ لجنوب أفريقيا مساءلة “إسرائيل” بشأن عدم التزامها باتفاقية منع الإبادة الجماعية، وبالتالي، للمحكمة السلطة في اتخاذ تدابير ضدّ أي ضرر وخطر قائم، ويمكنها إصدار حكم نهائي.
وهذا يعني أن “إسرائيل” ستخضع للمحاكمة في القضية وهذه إشارة إيجابية، إذ لأول مرة في تاريخها ـــــ ومنذ أعمال القتل المنهجي من عام 1948 ـــــ تكون “إسرائيل” عرضة للمساءلة أمام القانون الدولي.
وهكذا، ونظراً للمحاولات الغربية الدائمة لحماية “إسرائيل”، سيكون القانون الدولي والمؤسسات الدولية على المحك، لأنّ الضغوط التي ستتعرّض لها المحكمة وقضاتها ستكون كبيرة لمنع قرار نهائي بتجريم “إسرائيل” بارتكاب إبادة في غزة.
2-أقرّت المحكمة أن الفلسطينيين هم “جماعة” محمية بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية، كما ارتكزت إلى أحاديث رسمية من قبل مسؤولين إسرائيليين تثبت “النية الإسرائيلية” بإبادة الفلسطينيين في غزة.
وهذا الإقرار بأنّ الفلسطينيين “جماعة”، إضافة إلى تأكيد المحكمة “وجود نية إسرائيلية” تثبتها التصاريح الرسمية الإسرائيلية من قبل الرئيس الإسرائيلي ووزراء ومسؤولين إسرائيليين، تكون المحكمة قد قطعت نصف الطريق المطلوب لتجريم “إسرائيل” بتهمة الإبادة في غزة.
وكانت المادة الـ 2 من اتفاقيّة منع جريمة الإبادة الجماعية، التي تستند إليها المحكمة في قرارها والنظر في القضية اليوم، تعرِّف الإبادة الجماعية على أنها أيّ من الأفعال الآتية المرتكبة بقصد التدمير الكلّي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية، بصفتها هذه:
(أ) قتل أعضاء من الجماعة؛
(ب) إلحاق أذى بدني أو معنوي جسيم بأعضاء من الجماعة؛
(ج) إخضاع الجماعة، عمداً، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئياً؛
(د) فرض تدابير تهدف إلى الحيلولة دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة؛
(هـ) نقل أطفال من الجماعة، عنوة، إلى جماعة أخرى.
وبالنظر إلى ما أوردته رئيسة المحكمة من أعمال قامت بها “إسرائيل” في غزة، والاقتباسات التي نقلتها عن مسؤولين في الأمم المتحدة والوكالات الدولية، فإن “إسرائيل” ارتكبت “عمداً” معظم هذه الأعمال، وكانت لديها “النيّة المسبقة” للقيام بتلك الأعمال “لإهلاك الجماعة كلياً أو جزئياً”.
هذا القرار وهذه الحيثيات التي أوردتها المحكمة اليوم، تعتبر تاريخية وجريئة، وستكون علامة فارقة ومرتكزاً قانونياً، إذ إنها ستشكّل معياراً لا يمكن للمحكمة الجنائية الدولية التي تنظر في قضية فلسطين من ناحية المسؤولية الجنائية أن تتخطاها. وسيكون من الصعب على المحكمة الجنائية الدولية (إذا استمرت في القضية ضد إسرائيل) أن تتنكّر للإثباتات التي أوردتها محكمة العدل الدولية.
وكان المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية “كريم خان” قد زار “إسرائيل” وأطلق تصريحات أقلّ ما يقال فيها إنها ساوت الضحية بالجلّاد، وسلّط على ما سمّاه “الارتكابات التي قامت بها حماس والتي تنتهك القانون الدولي الإنساني”، من دون أن يشير بالمثل إلى ما قامت به “إسرائيل”، مؤكّداً لـ “إسرائيل” التزامه مبدأ “التكامل” أي أن المحكمة قد تتذرّع بقيام المحاكم الإسرائيلية بالنظر في ارتكابات قام بها “الجيش” الإسرائيلي ليدّعي بعدم اختصاص المحكمة الجنائية الدولية.
3-أمرت المحكمة في حكمها اليوم، أن تقوم “إسرائيل باتخاذ إجراءات لمنع أعمال الإبادة الجماعية في قطاع غزة، وأنه يجب تقديم تقرير عنها خلال شهر واحد”، وأنه يتعيّن على “إسرائيل” منع ومعاقبة التحريض على الإبادة الجماعية في القطاع، والسماح بدخول المساعدات الإنسانية إلى القطاع، وباتخاذ المزيد من الإجراءات لحماية الفلسطينيين.
اللافت في القرار أيضاً، أن المحكمة تخاذلت ولم تأمر “إسرائيل” بوقف العمليات العسكرية في القطاع (فوراً)، بينما أمرت حماس وباقي المجموعات الفلسطينية بإطلاق سراح الرهائن فوراً.
هذا القرار يثبت بما لا يقبل الشك انحياز المحكمة إلى “إسرائيل”. ففي حكم صادر من قبل المحكمة في نزاع أوكرانيا ضد روسيا، أمرت المحكمة “بضرورة أن تعلّق روسيا العمليات العسكرية في أوكرانيا على الفور”.
وجاء الحكم ضدّ روسيا رداً على دعوى رفعتها أوكرانيا في 27 شباط/فبراير، متهمة روسيا بالتلاعب بمفهوم الإبادة الجماعية لتبرير عمليتها العسكرية. وخلال إعلان القرار ضد روسيا، قالت رئيسة محكمة العدل الدولية: “في الواقع، إن أي عملية عسكرية، وخاصة على النطاق الذي ينفّذه الاتحاد الروسي على أراضي أوكرانيا، تؤدي حتماً إلى خسائر في الأرواح، وإلحاق أضرار نفسية وجسدية، وإلحاق أضرار بالممتلكات والبيئة.”
وفي المقارنة بين الحكمين، وبين ما أوردته الرئيسة من حيثيات القرارين، فإنّ الدعوة لروسيا جاءت لوقف العملية (فوراً) لأنها ستؤدي حتماً إلى خسائر في الأرواح، بينما قالت الرئيسة في قضية غزة “إن عمليات إسرائيل قتلت عشرات آلاف الفلسطينيين، وهجّرتهم وجعلت غزة مكاناً غير قابل للعيش”، وبالرغم من ذلك فإن القرار لم يطالب “إسرائيل” بوقف عدوانها (فوراً) بل أعطاها مهلة شهر لتقديم إثباتها أنها لا ترتكب أعمالاً تعتبر من أعمال الإبادة في غزة.
في النتيجة، لم يكن قرار محكمة العدل الدولية على قدر التوقّعات المأمولة منه، لكنه شكّل سابقة دولية قانونية، وتاريخية تدين “إسرائيل” على أعمالها ضد الفلسطينيين، وهو قرار يمكن الاستناد إلى حيثياته للدعاوى ضدّ “إسرائيل” في المحكمة الجنائية الدولية، وفي المحاكم الوطنية في الدول التي تتيح قوانينها تطبيق مبدأ “الولاية القضائية العالمية”.