قراءة في عقيدة نتنياهو الأمنية.. إسقاط الحسم
موقع قناة الميادين-
أيمن الرفاتي:
استراتيجية ممارسة القوة لجيش الاحتلال تعتمد عدداً من المبادئ، هي: الردع، والإنذار، والدفاع، والحسم، والانتصار. ونتيجة للمتغيرات في العقد الأخير، تم حذف مبدأ الحسم أو إسقاطه، وتغيير مفهوم الانتصار.
يبدو أن التطورات الميدانية والمعارك القوية، التي خاضتها المقاومة الفلسطينية، إلى جانب تعاظم قوة محور المقاومة خلال الأعوام الماضية، دفعت القيادة السياسية في “دولة” الاحتلال إلى تغيير العقيدة الأمنية الخاصة بها. فبعد أن تنازلت عن مبدأ “الانتصار في المعركة” يتنازل نتنياهو، في وثيقة جديدة، عن مبدأ “الحسم”.
فعلي عكس خطة “جدعون”، التي وضعها غادي آيزنكوت، رئيس هيئة الأركان السابق، وخطة “تنوفا”، التي وضعها أفيف كوخافي، رئيس الأركان الأسبق، فإن خطة “رياح الجنوب”، والتي تهدف إلى تحقيق الحسم العسكري في الحرب ضد حماس والفصائل في قطاع غزة، تنازل نتنياهو فيها عن أهمية “الحسم في المعركة” على عكس الخطط السابقة.
بصورة عامة، فإن استراتيجية ممارسة القوة لجيش الاحتلال تعتمد عدداً من المبادئ، هي: الردع، والإنذار، والدفاع، والحسم، والانتصار. ونتيجة للمتغيرات في العقد الأخير، تم حذف مبدأ الحسم أو إسقاطه، وتغيير مفهوم الانتصار، بينما جاء نتنياهو هذه المرة ليضع “المجتمع” الإسرائيلي و”الجيش” أمام حقيقة، مفادها أنه لا يوجد شيء اسمه حسم. فلا القوة الهائلة، ولا السرعة في تنفيذ العمليات العسكرية، ولا تكبيد العدو أكبر قدر من الخسائر في الأرواح والمقدرات، قادرة على تنفيذ هذا الحسم.
وبحسب الوثيقة، التي وضعها نتنياهو بعنوان “المفهوم الأمني لعام 2030″، فإنَّ على “إسرائيل” أن “تردع أي عدو يهدد باستهدافنا بصورة قاتلة، أو القضاء علينا”، وعليها تنفيذ ذلك من خلال “أربعة عناصر قوة، هي: الأمنية، الاقتصادية، السياسية، والأهم من جميعها قوة روحانية”.
جاءت الوثيقة، التي أطلقها نتنياهو، محاولة لإسكات الأصوات التي انتقدته والجيش خلال الأعوام الماضية لأنهما لا ينتصران، ولأنهما، في الغالب، يخرجان من المعارك والحروب بالتعادل الأقرب إلى الخسارة، وخصوصاً أن كل العمليات العسكرية الإسرائيلية، وتحديداً ضد قطاع غزة، اضطر الاحتلال إلى إيقافها من دون حسم واضح أو تغيير استراتيجي.
عقيدة نتنياهو تروّج المعقولية في التفكير الإسرائيلي بعيداً عن الضغوط والحساسية العالية تجاه نتائج المعارك، إذ دلل نتنياهو على ذلك بالقول: “عندما لا يكلفنا عدم حسم المعركة ثمناً غير باهظ، في الإمكان إنهاؤها من دون حسم قاطع”، أو أنه “في المواجهات التي فيها الإنجاز السياسي المطلوب لا يلزم بحسم العدو، فإنه في حالة كهذه نلائم رداً محدوداً”.
من ناحية أخرى، يسعى نتنياهو لاسترضاء “الجيش” وقيادته العسكرية، التي تعمدت نشر استراتيجيتها منذ عام 2015 كي لا تتحمل مسؤولية الفشل في المعارك العسكرية، بحيث يقول نتنياهو، من خلال استراتيجيته الأمنية، إنه ليس من حق أحد انتقاد الجيش إذا لم يحسم المعركة، لأن المستوى السياسي لم يعد يطلب إليه ذلك، بصورة صريحة.
في المقابل، يضع نتنياهو لغماً أمام القيادة العسكرية للجيش يعيد تحميلها المسؤولية عن تطور قدرات أعداء “إسرائيل” في الأوقات الطبيعية وفي المعارك، ويحملهم بصورة مسبّقة مسؤولية عدم حماية الجبهة الداخلية في الحروب، إذ جاء في الوثيقة أن “على الجيش الإسرائيلي أن يتغلب على القوة العسكرية للعدو بصورة قاطعة وعلى نحو سريع، من أجل إخراج الجبهة الداخلية من حيز الاستهداف، ومنع العدو من تحقيق إنجازات مهمة، مثل احتلال بلدات حدودية. والتغلب على العدو يتحقق عندما تُسلب رغبته في مواصلة القتال، وعندما تتضرر قدرته على الصمود بصورة كبيرة. وهكذا سنُبعَد الحرب المقبلة”.
علاوة على ذلك، فإن نتنياهو يعيد صياغة مفهوم الجيش بشأن “المعركة بين الحروب”، بسبب تراجع دورها في تحقيق النصر السريع للجيش في الحروب الكبرى، إذ تحدث نتنياهو عن مواجهة وصول المقاومة إلى سقف من القوة لا يمكن تقويضه، إذ قال “إننا بين الحروب نعمل من أجل استهداف خطوات أعدائنا في بناء القوة تحت سقف الحرب. ولن نسمح بأن يتجاوز تعاظم قوة أعدائنا سقفا لا يمكن تقويضه، أو في حال وجود إنذار بشأن مفاجأة استراتيجية”، وتم شطب كلمات “سننفذ ضربة استباقية”.
يتناقض المفهوم الجديد لنتنياهو مع تعريف مفهوم “المعارك بين الحروب” والتي تُعرّف بحسب وثيقة استراتيجية الجيش، عام 2015، بأنها شنّ حملات عسكرية محدودة جداً، هدفها توفير أطول فترة هدوء ممكنة عبر إضعاف “عناصر القوّة السلبية” لدى الخصوم، ومنعهم ولو بالقوّة، من تطوير قدراتهم كي لا يستطيعوا “كسر موازين القوّة”، وتوفير الظروف لتحقيق “دولة” الاحتلال “النصر السريع” في حال دخلت أي حرب مستقبلاً.
المفهوم الجديد لدى نتنياهو جاء نتيجة لفشل مفهوم المعركة بين الحروب، بعد أن لم ينجح هذا المعيار في تحقيق هدفه المطلوب على مدى الأعوام الماضية، إذ استطاعت أطراف المقاومة تجاوزه ومراكمة القوة كمّاً ونوعاً، وباتت اليوم تمثل، عبر تكتلها ضمن حرب متعددة الجبهات، خطراً وجودياً ثانياً، إلى جوار الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
وفي نقطة أخرى، على عكس جميع الخطط السابقة، التي تتناول العقيدة الإسرائيلية، تحدث نتنياهو عن التحالف الخارجي والحلف الاستراتيجي الأخلاقي مع الولايات المتحدة كبعد جديد في العقيدة الأمنية الإسرائيلية، مشدداً على أن واشنطن ستقدّم مساعدات إلى “دولة” الاحتلال خلال الحرب، لكنه استدرك كي لا يقع في حرج داخلي، بالقول إنه “على رغم ذلك، فإن علينا أن نكون مستعدين للدفاع عن أنفسنا بقوتنا الذاتية”.
إنَّ الوثيقة الاستراتيجية الأمنية لنتنياهو تؤكد أنه لا معنى لأي تصريحات من المسؤولين الإسرائيليين، سواء كانوا سياسيين أو عسكريين، خلال الحروب والمعارك بشأن انتصارات عسكرية، أو قدرة إسرائيلية على حسم المعركة بذاتها، إذ إن المستويين السياسي والعسكري تخلّيا عن مبدأ الحسم، ويصب كل منهما جهده في المحافظة على بقاء “دولة” الاحتلال خلال المستقبل المنظور.