قراءة في صعوبة الإصلاح والتغيير في لبنان
جريدة البناء اللبنانية-
زياد حافظ:
عقد المنتدى الاقتصادي والاجتماعي سلسلة من الندوات الاقتصادية والمالية والاجتماعية تناولت عدة أزمات تعصف بلبنان. فكانت ندوة الدين العام وكيف يجب مقاربته ومعالجته وندوة حول جدوى اللجوء إلى صندوق النقد الدولي وندوة حول التحقيق الجنائي والمشهد التربوي في لبنان في الظروف الراهنة وأخرى حول قطاع الصحة وهجرة الأطباء والممرضين والممرضات. بات واضحاً من مجمل المداخلات والنقاشات التي دارت في تلك الندوات انه يوجد صعوبة شاملة للإصلاح في لبنان وذلك منذ الاستقلال حتى الساعة. فكافة المحاولات التي أجريت فشلت أو تمّ تفشيلها. وإذا استحال الإصلاح فلا بدّ عندئذ من التفكير الجدّي بالتغيير الجذري للبنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في لبنان خاصة في أعقاب تحوّل جذري يحصل في المشرق العربي حيث موازين القوّة تميل بشكل واضج لمحور المقاومة وما يحمل ذلك من تداعيات على البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية في دول ومجتمعات المنطقة.
ولا يمكن لأيّ شخص عاقل والحائز على الحدّ الأدنى من الإنسانية أن يقلّل من حجم الغضب الذي يعمّ اللبنانيين. وهذا الغضب سببه من جهة تردّي الأحوال المعيشية التي أذلّت اللبنانيين وهم يحاولون الحصول على الخبز والدواء والمازوت والبنزين وعلى أبواب المستشفيات لتلقّي العلاج ومن جهة أخرى استهتار السلطة بأكثرية مكوّناتها وعدم المبالاة لألآم اللبنانيين والغوص بالمناكفة والمزايدات الطائفية والمذهبية والتهرّب من المسؤولية عما جرى ويجري في لبنان. وبعد مرور أكثر من سنة على كارثة مرفأ بيروت التي دمّرت نصف بيروت وأجزاء من محيط العاصمة وضرب مكانة المرفأ في الاقتصاد الوطني بعد ضرب وانهيار النظام المصرفي ما زال اللبنانيون ينتظرون تحديد أسباب الكارثة والمسؤولية عما جرى. فالطبقة السياسية استغلّت الكارثة لتحويل القضاء على سلاح سياسي وللمزيد من المناكفة والمزايدة العبثية وعلى حساب آلام وأوجاع المتضررين من الانفجار.
والغضب الذي يعمّ اللبنانيين المحرومين من الكهرباء والماء والخبز والدواء وانعدام آفاق المستقبل يقابله التعالي من قبل رموز السلطة ومكوّناتها وكأنّ الأولوية في مكان آخر. وليست هذه المرّة الأولى التي يواجه اللبنانيون لا مبالاة قيادتهم المتنوّعة في كلّ شيء والمشتركة في انحدار الاخلاق وقلّة الفهم والمسؤولية. أما الحكومة الجديدة التي ولدت بعملية قيصرية بعد تدخّلات خارجية افقدت معناها الوطني فمهمتها شبه مستحيلة. فهي مدعوة إلى وقف الانهيار الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والبيئي. ولكن متطلبات ذلك العمل غير متوفرة موضوعياً وذاتياً. فموازين القوّة داخل مكوّنات السلطة ما زالت على حالها وتحول دون المبادرة بإصلاحات تعيد الاستقرار ومن بعد ذلك النهوض فما بالك من تغيير جذري. وليس لفريق الحكومة الجديدة رؤية واضحة حتى الساعة حول الأولويات وكيف معالجتها كما أنها، ولإنصافها، لم تدّع أنها صاحبة مشروع تغييري أو حتى إصلاحي بالمعني الفعلي. وما يزيد الطين بلّة هو عدم قدرتها على عقد اجتماع لها في أعقاب أزمة التحقيق في انفجار المرفأ والعدوان على المتظاهرين في منطقة الطيّونة ضدّ مسار التحقيق في جريمة المرفأ.
السؤال الذي يطرح نفسه لماذا تلك الصعوبات حتى لعقد اجتماع لمجلس الوزراء فكيف يمكن معالجة كافة القضايا التي تعصف بلبنان؟ ليس هناك من إجابة سهلة فما بالك من إجابة موحدة. فالموضوعية أصبحت نسبية وتعود إلى الخلفية السياسية لمن يقارب الموضوع. وما كنّا نعتقده من المسلّمات أصبح بدوره “وجهات نظر” بما فيه مفهوم “السيادة” وتحديد من هو “العدو” ومن هو “الصديق”. الأزمة كيانية كما هي بنيوية وبالتالي كيف يمكن مقاربة الأزمة البنيوية من غير مقاربة الأزمة الكيانية؟ حتى التشخيص المشترك للأزمة كالطائفية والفساد يخضع لاجتهادات مختلفة تعود في الأساس إلى الإشكالية الكيانية. فليس هناك تصوّر مشترك بين مكوّنات لبنان عن ماهية لبنان وعن دوره وعن طبيعة نظامه وعن مكانته في المنطقة.
الإشكالية الكيانية تعود إلى توازنات دقيقة بين مكوّنات المجتمع اللبناني التي تعكس بدورها توازنات إقليمية ودولية. فلا يمكن لأيّ قوّة داخلية كسر التوازن الداخلي دون الأخذ بعين الاعتبار التوازن الإقليمي والتوازن الدولي. ميزان القوّة منذ الحقبة الاستعمارية ومن بعدها في الحقبة الاستقلالية ما قبل الحرب الاهلية ومن بعدها، أيّ حقبة الطائف أوجد نظاما سياسيا عكس تلك الموازين. فالتجاذب بين الغرب الاستعماري والمحيط العربي الإسلامي المقاوم التحرري والمناهض للهيمنة الغربية كان وما زال محور التجاذبات الداخلية في لبنان تفاقم مع نشأة الكيان الصهيوني المحتل وما زال حتى الساعة. لكن ذلك الميزان تغيّر بشكل جذري خلال العقدين الماضيين. فمن جهة تنامى محور المقاومة الذي ولد من رحم الاحتلال الصهيوني للبنان وبدعم من سورية ومن الجمهورية الإسلامية في إيران الناشئة آنذاك قابله تراجع بنيوي استراتيجي للمحور الغربي الذي قادته فرنسا خلال المرحلة الاستعمارية ثم التحالف الانجلوساكسوني بعد الحرب العالمية الثانية ليصبح بيد الولايات المتحدة القوة العظمى الواحدة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. وهذا التراجع البنيوي الاستراتيجي في الغرب قابله على الصعيد الدولي تنامي مجموعة دول لها وزنها الجغرافي والسكاني والاقتصادي والعسكري والسياسي رافضا للهيمنة الأميركية التي ظهرت بوحشية فائقة منذ مطلع التسعينات وحتى الساعة.
لدى المحور الغربي إحساس ملموس بتراجعه
هناك إحساس ملموس في المحور الغربي بتراجعه وبالتالي يلجأ إلى سياسات وإجراءات يحاول من خلالها أما تغيير مسار الأمور في الحدّ الأقصى أو التقليل من تداعيات التراجع في الحدّ الأدنى. من هنا نفهم “التصعيد” في أوكرانيا وبحر الصين الجنوبي وتايوان وفي الملف الإيراني ولكن كلّ ذلك لن يصل إلى المواجهة المفتوحة التي لا يستطيع القيام بها وتحمّل تداعياتها. في المقابل فإنّ ذلك التصعيد الإعلامي في الأساسي يدفع اللاعبين الإقليميين تحمّل عبء المواجهة دون أن تلتزم الولايات المتحدة بحمايتها. فمراكز القوّة داخل الإدارة الأميركية قد تدفع الحكومة الأوكرانية الى ارتكاب حماقة تجاه روسيا دون أن تلتزم بحمايتها إذا ما ردّت الأخيرة بقساوة. هذا هو فحوى الموقف الأميركي خلال القتمة الافتراضية بين الرئيسين الروسي والأميركي. كذلك حصل في القمة الافتراضية بين الرئيس الصيني زي جينبينغ والأميركي جوزيف بايدن في موضوع تايوان. الولايات المتحدة لن تؤيّد استقلال تايوان ولكنها لن تعترض عليه ولن تدافع غنها إذا ما تحوّلت إلى مواجهة عسكرية بين جمهورية الصين الشعبية وتايوان.
إنّ عدم الرغبة وأو القدرة الأميركية على تأمين “حماية” الحلفاء سواء في أوروبا أو في الخليج وآسيا يعكس الضعف الأميركي الداخلي. وهذا ما بدأ يشعره حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة والإقليم حيث بدأنا نشهد إعادة تموضع سياسي لكلّ من الدول التي تحالفت معها (أو من التابعة لها) في الحروب العدوانية على كلّ من اليمن وسورية ومحاصرة لبنان اقتصادياً. ومن ملامح إعادة التموضع ما أقدمت عليه دولة الإمارات العربية المتحدة من تقارب مع سورية وحوارات مع الجمهورية الإسلامية في إيران وحتى مع تركيا. كما أن حكومة الرياض بدأت بحوارات مع الجمهورية الإسلامية في إيران بعد قطيعة استمرّت عدّة سنوات. وبلاد الحرمين بدأت حواراً وإنْ كان متواضعاً المستوى مع الجمهورية الإسلامية في إيران بوساطة عراقية وأو أردنية وأو عُمانية دليل على بداية مراجعة وتموضع سياسي. أما الأزمة التي افتعلتها حكومة الرياض تجاه لبنان فلا تعود بالضرورة إلى “نفاذ الصبر” لدور حزب الله ولهيمنة للجمهورية الإسلامية في المشهد السياسي اللبناني بل لتقول للرئيس الأميركي انه عليك الاتصال بنا مباشرة وخاصة بولي العهد كي نسهّل لك الأمور في لبنان والاّ لن نقدّم أيّ مساعدة ولا أيّ تسهيل لحلّ الأزمة في لبنان. هذا يعني أنّ ضعف الولايات المتحدة أتاح الفرصة لهامش مناورة لم تكن موجودة في السابق لدى تلك الدول. نرى مشهداً مشابهاً في تركيا حيث الرئيس التركي لا يتماهى بالضرورة مع المطالب الأميركية خاصة في الملف الكردي.
أما في لبنان فالتوازنات الدقيقة هي سمة الكيان والنظام القائم. فليس مسموحاً من قبل ميزان القوة الإقليمي والدولي لأيّ شخص ولأيّ قوّة لبنانية أو خارجية العبث بالتوازنات الداخلية وذلك منذ الاستقلال حتى الساعة. فكافة العهود الرئاسية التي مرّت على لبنان شهدت محاولات من قبل الرئيس أو من قبل شخصيات قوية فاقت حجم دور الطائفة أو المذهب الذي تمثّله وبالتالي كانت سبباً في اختلال الميزان الداخلي الدقيق، فهذه المحاولات لم تنته بفشل ذريع فحسب بل انتهت بمأساة شخصية لصاحب مشروع الإخلال بالتوازن. فالرؤساء السابقون كبشارة الخوري وكميل شمعون وفؤاد شهاب أنهوا عهودهم بخلافات عميقة قسمت اللبنانيين كما أنّ شخصيات وطنية فاق حجمها حجم التوازنات فخسرت حياتها. فكمال جنبلاط وبشير الجميّل ورفيق الحريري وقبلهم رياض الصلح ومن بعده المفتي حسن خالد والشيخ صبحي الصالح كان حجمهم في لحظة ما أكبر ما يمكن أن يتحمّله ميزان القوة الدقيق الذي يحكم لبنان منذ تأسيسه. وحتى الكيان الصهيوني المحتلّ ومعه الولايات المتحدة لم يستطع فرض اتفاق 17 أيار كما أنّ الوجود العسكري والمخابراتي الأميركي مُني بضربات قاسمة أخرجته عسكرياً ومخابرتياً من لبنان وكذلك الأمر بالنسبة للفرنسيين. يمكن أن نسترسل في تعداد الحالات التي تمّت محاولات كسر التوازين عبر الغاء قوى أو التفوّق على قوى فجميعها مُنيت بالفشل لأنّ الميزان الإقليمي والدولي لا يتحمّل ذلك. حتى المقاومة ورصيدها الشعبي لم تنج من ذلك علماً أنها كانت حريصة على احترام تلك الموازين الموروثة. لكن حجمها الإقليمي فرض عليها مواجهات لم تكن لترغبها ولكنها اضطرت لخوضها ونجحت فيها. ورغم تلك الإنجازات حافظت المقاومة على الخطوط الحمر التي تخص مكوّنات المجتمع اللبناني كما حافظت على إنجازاتها التراكمية التي زادت من فائض قوّتها.
ومن هنا يمكن مسك طرف الخيط الذي يساعد على استشراف المستقبل للبنان. فلا الإصلاح ولا التغيير ممكنان بفعل القوى الداخلية بما فيها المقاومة وما تمثّله من رصيد معنوي وشعبي أكبر مما تمتع به الشخصيات والقوى التي حاولت كسر التوازنات. لكن بمجرد انتماء المقاومة إلى محور عربي وإقليمي ودولي سيخلق ميزاناً جديداً غير الذي كان سائداً حتى الساعة على الصعيد الدولي والعربي والإقليمي. لذلك التغيير سيكون من ضرورات ذلك الميزان الجديد وليس بفعل رغبة القوى الداخلية التي تسعى إلى التغيير أو حتى الإصلاح.
ملامح التغيير وميزان المنتصرين
يمكن استشراف ملامح ذلك التغيير في لبنان الذي سيرسمه الميزان الجديد. وهذا الميزان صنعته جبهة منتصرة على جبهة مهزومة استراتيجياً وغير قادرة على تغيير مسار الأمور. بمعنى آخر فإنّ محور المقاومة الذي يضمّ كلّ من حزب الله وحلفائه في لبنان وسورية واليمن والجمهورية الإسلامية هو الذي سيحدّد ملامح النظام السياسي اللبناني الجديد ودور لبنان. فالدور الوظيفي القديم للبنان انتهى مع انهيار النظام المصرفي والنظام التربوي والنظام الصحي. فلبنان كمركز مالي ومركز تدريس ومركز استشفاء للمنطقة لم يعد قائماً بسبب التطوّرات في داخل كلّ بلد من بلدان المنطقة من جهة وبسبب الانهيارات التي حصلت في لبنان. وهذه الانهيارات سواء كانت مخططة أو عشوائية فإنّ النتيجة واحدة.
لكن هذا لا يعني أنّ لبنان فقد أي دور في المنطقة. فما زال لبنان ملتقى عربياً وحاجة إقليمية ودولية في آن واحد ولكن بشكل مختلف عما كان عليه في السابق. والحاجات الاستراتيجية للبنان تعود إلى الثروة الغازية والنفطية غير المستغلّة حتى الآن وإلى ارتباط دور محور المقاومة بمنظومة شنغهاي وطريق الحرير الجديد. لبنان أيضاً مرفأ استراتيجي لسورية وللعراق وللأردن وليس مرفأ حيفا إلى أن يزول الكيان الصهيوني. فمرفأ اللاذقية غير كاف بحدّ ذاته كنقطة انطلاق لطريق الحرير إلى أوروبا وبالتالي دور مرفأ في لبنان، سواء كانت مدينة بيروت أو مدينة طرابلس أو الاثنين، فهذا الدور أساسي للتجارة البينية لدول المنطقة ولطريق الحرير. وعلى لبنان أن يسلك طريقاً اقتصادياً متكاملاً مع كلّ من دول الجوار العربي بسبب العامل الجغرافي ليس إلاّ. التوجّه شرقاً هو شرط ضروري وحيوي لاستمرار لبنان ككيان سياسي له دور في المنطقة. العافية الاقتصادية التي ستعمّ سورية في مرحلة إعادة اعمارها المرتقبة ستطال لبنان إذا ما استطاعت الطبقة الحاكمة التكيّف مع الوقائع الجديدة.
في هذا السياق سنرى القوى السياسية التي كانت تناهض التوجّه شرقاً والتي ارتبطت سياسياً واقتصادياً وثقافياً بالغرب ستتكيّف مع الدول الصاعدة في المشرق العربي ومع دول آسيا. فلا يمكن التقليل من قوّتها الذاتية فهي تشكل عصب المجتمع العميق السائد في لبنان. ومن يستطيع التكيّف مع الشيطان الصهيوني أو الأميركي أو الرجعي يستطيع عندما يلزم الأمر التكيّف مع الملائكة! وتاريخياً، هذا المجتمع العميق كان أقوى من الدولة ومن محاولات بناء دولة. لكن هذه النخب ستدفع ثمناً كبيراً يحدّ من “استقلاليتها” وهامش المناورة. فمن شروط استمرارها التماهي مع متطلّبات جماهيرها وليس التسلّط عليها وإلا سيتمّ إزالتها. هذا يعني أنها ستضطر إلى التفكير الجدّي ببناء دولة ليس على مقياس مصالحها بل على مقياس متطلبات موازين القوة الذي سيسود لعدة عقود في هذا القرن. أما الطروحات السياسية الثقافية المستوردة عند بعض النخب التي تملأ الفضاء السياسي والثقافي فعليها أن تتكيّف مع الفضاء السياسي والثقافي السائد في المنطقة والذي يرتكز إلى موروث سياسي وثقافي ثبتت جدواه وخاصة بعد ثبوت فشل النموذج الغربي بكافة أنواعه. فلا داعي للبنان أن يكون “جسرا” وهمياً بين الشرق والغرب. فالحاجة للغرب تتراجع كي لا نقول لم تعد موجودة فمركز المعرفة للقرن الحادي والعشرين هو الشرق الممتدّ من بحر الصين إلى الشاطئ الغربي للبحر الأبيض المتوسط.
الدليل على قدرة النخب السياسية الحاكمة في لبنان على التكيّف مع الموازين الجديدة هو تاريخ لبنان ما بعد الاستقلال. فعدم الاستقرار في أواخر الأربعينات والخمسينات يعود إلى نشأة الكيان الصهيوني المحتلّ ومحاولات عسكرة المنطقة في وجه الاتحاد السوفياتي عبر حلف بغداد. أما في ما يتعلّق بالاستقرار فبشكل عام كان ممكناً في لبنان عندما كان الاستقرار سائداً ولو نسبياً في المنطقة. الاستقرار النسبي في الستينات عاد إلى وجود استقرار إقليمي قاده الرئيس جمال عبد الناصر. نكسة 1967 أخلّت بالاستقرار الإقليمي فدخل لبنان في أزمات متتالية سياسية ومالية في آن واحد. أما على صعيد النخب التي تكيّفت مع الواقع نشير أنّ مجلس النواب اللبناني الذي صوّت على اتفاق 17 أيار المشؤوم وتحت حراب القوات الصهيونية، فهو نفسه الذي ألغاه بعد خروج القوّات الأميركية والفرنسية من لبنان وبعد خروج القوّات الصهيونية من محيط العاصمة، وبعد انتفاضة 6 شباط. طبعاً كانت هناك استثناءات مميّزة لبعض القادة السياسيين الذين كانوا قدوة في التصدّي لاتفاق 17 أيار.
وأخيراً، خلال حقبة الطائف كانت القيادات السياسية الطائفية المذهبية المتصدّرة للمشهد اللبناني من أشدّ المؤيدين لنظرية توأمة المسارين اللبناني والسوري إلى ان اغتيل الرئيس رفيق الحريري. فبين ليلة وضحاها انقلب هؤلاء من مناصرين للوجود السوري إلى روّاد “السيادة والاستقلال” وهم من كانوا لا يقطعون أمراً إلا بالتشاور مع دمشق أو مع عنجر. ما نريد أن نقوله هو أنّ هذه القوى لا مبدأ لها إلاّ مصالحها الضيّقة وعلى حساب كلّ المبادئ والقيم. فعندما تكتشف أنّ مصالحها تقتضي التكيّف مع الموازين الجديدة فستتكيّف دون أن يرفّ لها جفن ونقطة على السطر. والسؤال البديهي هو هل ستثق الموازين الجديدة بالولاءات المستجدة فالإجابة على ذلك لن تكون بالجملة بالمفرّق ولكلّ حادث حديث!
بالمناسبة لا بدّ لنا من التذكير انّ شعار الجبهة اللبنانية في بداية الحرب الأهلية في لبنان كان يروّج لاستقلال لبنان من الوجود الفلسطيني والمحيط العربي. وإذ مصالح تلك القوى المكوّنة للجبهة اللبنانية تستدعي القوّات السورية لحمايتها من القوات المشتركة للحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية. هنا سقط المشروع الانعزالي بيد الجبهة اللبنانية. ومن سخرية القدر أنّ أحد كوادر تلك الجبهة آنذاك أصبح اليوم “حريصاً” على العروبة في وجه “التمدّد الفارسي”! ولكن ما يقصدونه هو عروبة غير ملتزمة بالمقاومة وتحرير فلسطين بل بعروبة منطوية تحت المظلّة الغربية! على صعيد آخر نذكر أنّ العديد من النخب المثقفة من الحركة الوطنية التي كانت تتنافس بالمزايدة في شعاراتها الداخلية والعربية ضد المشروع الانعزالي وتداعياته والتي كانت تنادي إلى برنامج مرحلي للإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي فتحوّلت إلى كوادر وقيادات تيّار المستقبل وجبهة 14 آذار النقيضة للحركة الوطنية! والأمثال كثيرة لا داعي لذكرها فالجميع يعرفونهم فالتكيّف مع موازين القوة السائدة هو المفتاح لفهم سلوك تلك النخب!
تبقى مسألة علاقة الجماهير بقياداتها الطائفية والمذهبية. العلاقة عضوية بينما يجب أن تكون جدلية أيّ على تناقض وليس على تكامل وتوافق. فالجمهور العام لا يحاسب قياداته والقيادات لا تكترث إلى مطالب الجمهور بشكل جماعي بل بالمفرّق بمقدار ما تجلب الاستجابة لطلبات ذلك الجمهور من مكاسب وتوثيق المواقع في المؤسسات العامة التي تُسخّر لخدمة الزعامات والقوى المنطوية تحت المظلّة الحاكمة. والسؤال إلى متى ستستمرّ تلك العلاقة العضوية وتتحوّل إلى علاقة مبنية على المساءلة والمحاسبة؟ من الواضح ان الجمهور العريض ما زال عاجزاً أن يفرز قيادات وكوادر تحاكي اهتماماته. اما الذين نصّبوا أنفسهم قيادات على الحراك الشعبي فأكثريتهم مرتبطة بدوائر خارجية. أما الباقون الوطنيون فذاتيتهم قضت على قدرة القيام بعمل جبهوي منظّم ما أتاح الفرصة للقوى الطائفية والمذهبية من الانقضاض على الانتفاضة الشعبية التي ما زالت تشكل أملاً للمستقبل إذا ما صحّت قيادتها. ومن متطلّبات نجاح القيادة عدم الفصل بين المشروع الوطني والمشروع القومي خاصة في ما يتعلّق بالمقاومة. فشلت الانتفاضة عندما تحوّلت إلى مناهضة المقاومة دون معالجة الفساد وأسباب الأزمة الراهنة. فلا مشروع وطني دون مقاومة ولا مقاومة قادرة على المواجهة دون بيئة حاضنة واسعة. نجاح المقاومة تكرّس عبر معادلة المقاومة والجيش والشعب التي ما زالت قائمة رغم اهتزازات داخلها ناتجة عن تدخل السفارات الغربية ولكنها لم تنجح في ضربها.
مرحلة الغالب والمغلوب
في الخلاصة نرى أنّ الموازين الجديدة في المنطقة ستفرز موازين جديدة في لبنان تسمح له في صوغ دور إقليمي ودولي جديد يتماهى مع متطلبات المرحلة القادمة التي تحكمها تلك الموازين. المسألة ليست مسالة تفاؤل أو تشاؤم بل ناتجة عن تقدير لموازين القوّة وحراكها. ليست كلّ النخب على نفس الوتيرة من القدرة على قراءة التغييرات والتحوّلات الجارية في العالم والإقليم وانعكاساتها على الموازين وبالتالي سنرى من سيكون من بين الفائزين ومن سيكون من بين الخاسرين. فالمرحلة المقبلة هي مرحلة الغالب على المغلوب في الخيارات والسياسات ولا يعني مطلقاً سياسة الإقصاء. فالغالب سيشرك الجميع على قاعدة أن الاستقرار يتطلّب مشاركة الجميع أو الأكثرية الساحقة. قاعدة اللعبة الصفرية أصبحت غير مقبولة وعبثية حيث ربح فريق يعني حتما خسارة فريق آخر. الربح يجب أن يشمل الجميع وهذا هو شعار العلاقات الدولية في المرحلة المقبلة وليس الشعار الغربي الذي ينادي بهيمنة الاقلّية على الأكثرية وخسارة كلّ من هو خارجها. الظلم ناتج عن ذلك والعدل كان وما زال أساس الملك.