قراءة في حكم محكمة العدل الدولية ضد “إسرائيل”
موقع قناة الميادين-
حسن نافعة:
استخدام الولايات المتحدة الفيتو لعرقلة تنفيذ حكم ملزم لمحكمة العدل الدولية يمكن أن يقوم دليلاً على مشاركتها في ارتكاب أعمال إبادة جماعية، الأمر الذي يعرّضها للملاحقة في أروقة القضاء.
في 29/12/2023، رفعت حكومة جنوب أفريقيا دعوى قضائية أمام محكمة العدل الدولية، أعلى هيئة قضائية في منظومة الأمم المتحدة، تتهم فيها “إسرائيل” بممارسة أعمال إبادة جماعية ضد الفلسطينيين.
وأثارت هذه الدعوى انتباه العالم بأكثر مما أثارته كل دعاوى الإبادة الجماعية السابقة، نتيجة سببين رئيسين. الأول: استمرار الحرب الوحشية، والتي تشنها “إسرائيل” على قطاع غزة منذ أربعة أشهر، والتي يسقط فيها يوميا ما يقرب من مئة شهيد ومئات الجرحى، أغلبيتهم الساحقة من النساء والأطفال.
والثاني: ما يتمتع به طرفا الدعوى من خصوصية شديدة. فالطرف المدعي، وهو جنوب أفريقيا، دولة عانت أعواماً طويلة بسبب نظام فصل عنصري بغيض، قبل أن يتمكن شعبها من إسقاطه، ثم يتمتع بصدقية كبيرة على الصعيد العالمي. والطرف المدعى عليه، وهو “إسرائيل”، “دولة” تدعي أنها تمثل يهود العالم أجمع، بمن في ذلك من تعرض منهم لمحاولة إبادة جماعية على يد النظام النازي في ألمانيا، وأدّت دوراً أساسياً في صياغة اتفاقية الإبادة الجماعية المتهَمة اليوم بانتهاكها، الأمر الذي شكّل مفارقة كبرى جعلت العالم يتابع باهتمام بالغ مرافعة جنوب أفريقيا، التي استمعت إليها المحكمة يوم 11/1/2024، ودفاع “إسرائيل” الذي استمعت إليه المحكمة في اليوم التالي، وينتظر على أحر من الجمر حكم المحكمة في الشق المستعجل من هذه القضية، والذي تم النطق به فعلاً يوم 26/1/2024.
ربما يكون من المفيد هنا التذكير بأن محكمة العدل الدولية تتكون من خمسة عشر قاضياً، ترشحهم الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، ويتم انتخابهم من جانب كل من مجلس الأمن والجمعية العامة، في انتخابات منفصلة لا يجوز فيها للدول دائمة العضوية استخدام حق الفيتو، ولفترة ولاية تمتد لتسعة أعوام قابلة للتجديد. ويجب أن يعكس تشكيل محكمة العدل الدولية، في كل الأوقات، مختلف النظم القانونية والدوائر الحضارية في العالم.
تجدر الإشارة هنا إلى أن قضاة محكمة العدل الدولية لا يمثلون الدول التي يحملون جنسيتها، ويُحظَر عليهم طلب أو تلقي أي تعليمات أو توجيهات منها، ويتمتعون بامتيازات وحصانات مادية وأدبية تكفل لهم استقلالية تامة في كل ما يصدر عنهم من أحكام أو فتاوىً، بما في ذلك عدم جواز تنحيتهم أو فصلهم إلّا عبر قرار من المحكمة نفسها، ولأسباب تتعلق فقط بالعجز عن ممارسة المهنة أو ارتكاب جرائم مخلة بالشرف.
صحيح أن قضاة المحكمة يتأثرون بالاعتبارات السياسية والأيديولوجية والوطنية، شأنهم في ذلك شأن كل البشر، غير أنه يجب النظر إلى هذا التأثير في سياق تعدد المدارس القانونية وتباينها، وهو الأمر الذي عادة ما يؤدي إلى التمييز بين مدرستين، إحداهما تقليدية أو محافظة، والأخرى أكثر ليبرالية وانفتاحاً.
ولأن للمحكمة سِجِلّ حافل بأحكام وفتاوىً سابقة، لم تأتِ على مستوى توقعات الأطراف المعنية بها، فلقد خشي كثيرون أن يأتي حكمها في هذه الدعوى تحديداً متأثراً بالأهواء والانحيازات السياسية والفكرية، وهو ما لم يحدث، كما سنشير لاحقاً.
تثير أحكام محكمة العدل الدولية وفتاواها كثيراً من الجدل والنقاش، وعادة ما تخضع للتأويل والتقويم من منظورين متعارضين. الأول: سياسي – أيديولوجي، يراها من منظور قناعاته الفكرية أو مواقفه ومصالحه السياسية، ثم يرحب بها إذا جاءت متوافقة مع مواقفه وقناعاته ومصالحه، أو يشجبها إذا جاءت متعارضة معها.
والثاني: علمي – موضوعي، يستند في تقويمها إلى معايير واضحة ومحايدة، وبالتالي مجردة من الأهواء والمصالح الشخصية، قدر الإمكان. صحيح أنه يصعب العثور على معايير محايدة متفق عليها من الجميع، نظراً إلى وجود مدارس ونظريات متعددة قد تتباين أحياناً، إلى حد التناقض، لكن كلما استند التقويم إلى رؤية متحررة قدر الإمكان من الاعتبارات الشخصية والمصلحية، كان أقرب إلى الموضوعية.
ويلاحَظ أن وسائل الإعلام الغربية، التي علقت على الحكم الصادر في الشق المستعجل من هذه القضية، ركزت على جانب واحد منه، وهو خلوه من أمر بوقف إطلاق النار، بل ذهبت، في تفسير ذلك، إلى حد القول إن خلوّ هذا الحكم من أمر بوقف إطلاق النار ينطوي على موافقة ضمنية على أن من حق “إسرائيل” الاستمرار في عملياتها العسكرية ضد حماس، وفق الطريقة ذاتها المتّبعة منذ إعلان الحرب على القطاع. غير أن هذا النوع من التفسيرات لا يستند إلى أي أسس علمية أو موضوعية مقنعة.
فلم يكن في مقدور المحكمة، في الواقع، اتخاذ قرار بشأن وقف إطلاق النار، لأن ذلك يعني ضمنا إلزام حماس بهذا القرار، على رغم كونها ليست دولة، وإنما أحد فصائل حركة التحرر الوطني الفلسطينية، التي يحق لها قانوناً استخدام القوة لتحرير وطنها المحتل. صحيح أن جنوب أفريقيا طلبت إلى المحكمة اتخاذ إجراء احترازي يُلزم “إسرائيل” بـ”تعليق عملياتها العسكرية في غزة”، وهو ما لم تستجب له، غير أن المحكمة أمرت “إسرائيل” باتخاذ ستة إجراءات احترازية يستحيل تنفيذها عملياً إلّا إذا أوقفت جميع عملياتها العسكرية ضد المدنيين في قطاع غزة.
وهذه الإجراءات هي: 1- التوقف عن قتل الفلسطينيين، ومنع إيقاع أي ضرر جسدي أو عقلي جسيم بهم، ووقف أيّ إجراءات متعمَّدة قد تتسبب بفنائهم أو فناء جزء منهم. 2- إلزام “الجيش” الإسرائيلي فوراً باتخاذ كل ما يلزم لضمان التدابير الواردة في الفقرة السابقة. 3- منع التحريض على ارتكاب فعل الإبادة الجماعية من جانب المسؤولين الإسرائيليين، ومعاقبة المحرضين منهم. 4- توفير الخدمات الأساسية والمساعدات الإنسانية، التي يحتاج إليها قطاع غزة. 5- الامتناع عن تدمير أيّ أدلة تتعلق بارتكاب “إسرائيل” أعمال إبادة جماعية. 6- تقديم تقرير، خلال شهر، بشأن تطبيق كل الإجراءات السابقة.
تجدر الإشارة هنا إلى أن تصويتاً جرى، بصورة منفصلة، على كل من هذه الفقرات الست، بحيث حصلت الفقرات 1 و2 و5 و6 على تأييد خمسة عشر قاضياً واعترض اثنان، بينما حصلت الفقرتان 3 و4 على تأييد ستة عشر قاضياً، بينهم القاضي الإسرائيلي نفسه؛ أي على ما يشبه الإجماع تقريباً. اللافت للانتباه، في نتيجة التصويت هذا، أن القاضية سيبوتندي، التي تحمل الجنسية الأوغندية، كانت هي عضو المحكمة الوحيد الذي اعترض على جميع الفقرات الست، وهو أمر يثير الاستغراب حقاً، وخصوصاً أن وزارة الخارجية الأوغندية وجدت نفسها مضطرة إلى إصدار تصريح تؤكد فيه أن تصويت القاضية سيبوتندي كان تعبيراً عن موقف شخصي لا يمثل الحكومة الأوغندية!
وكان لافتاً للانتباه أن رئيسة المحكمة، وهي قاضية تحمل الجنسية الأميركية، صوّتت لمصلحة جميع الإجراءات التحفظية الواردة في الفقرات الست، وأن القاضي الإسرائيلي نفسه صوت لمصلحة فقرتين، الأمر الذي يقطع بأن الحكم الصادر في الشق المستعجل من هذه القضية تم وفق استقلالية تامة، وكان في منأى عن أي ضغوط أو اعتبارات سياسية.
كان الفريق القانوني الإسرائيلي بنى دفاعه على أساس أن محكمة العدل الدولية ليست مختصة بالنظر في هذه الدعوى، نتيجة عدة أسباب، منها: عدم وجود نزاع بين “إسرائيل” وجنوب أفريقيا يتعلق بموضوع الدعوى، وأن الحرب التي تخوضها “إسرائيل” هي حرب ضد منظمة حماس “الإرهابية”، وليست ضد الشعب الفلسطيني، وهي حرب “مشروعة” لأنها “تستند” إلى المادة الـ51 من ميثاق الأمم المتحدة، والتي تجيز حق الدفاع عن النفس، ثم طالب برفض الدعوى والحكم بعدم اختصاص المحكمة بالفصل فيها.
غير أن المحكمة رفضت الاستجابة لهذا الطلب، ثم حكمت ليس في اختصاصها بالنظر في الدعوى فحسب، وإنما أيضاً بشأن توافر أدلة قوية على شبهة ارتكاب “إسرائيل” أعمال إبادة جماعية، وعلى توافر النية لديها في ارتكاب مثل هذه الأعمال، ثم تستوجب فرض إجراءات احترازية لصيانة حقوق الشعب الفلسطيني، بصرف النظر عن “مشروعية” الحرب التي تشنها “إسرائيل”، أو عدم مشروعيتها، وهو موضوع لم يكن مطلوباً من المحكمة أن تفصل فيه، في أي حال.
لذا، يمكن القول إن خلوّ الشق المستعجل من أمر بوقف إطلاق النار، أو حتى من أمر بوقف عمليات “إسرائيل” العسكرية، لا يُضعف الحكم، بل على العكس يحصّنه ضد الثُّغَر.
ففي جميع الأحوال، لا تمتلك المحكمة آليات لتنفيذ أحكامها، وإنما يجب اللجوء إلى مجلس الأمن، الذي يمكنه وحده فرض عقوبات على كل من يرفض تنفيذ تلك الأحكام. وصرّح المتحدث الرسمي باسم الأمم المتحدة بأن السكرتير العام ينوي عرض حكم المحكمة على مجلس الأمن، كما طلبت الجزائر، العضو العربي غير الدائم حالياً في مجلس الأمن، وسوف يتم رسمياً عقد جلسة عاجلة لمجلس الأمن. ولأن “إسرائيل” مطمئنة إلى أن الولايات المتحدة جاهزة دوماً لاستخدام الفيتو لحمايتها من أي عقوبات، مهما بلغ حجم انتهاكاتها للقانون الدولي، يتوقع أن تضرب بعُرض الحائط كل الإجراءات التحفظية حتى لو تضمنت أمراً صريحاً بوقف إطلاق النار.
غير أن موقف الولايات المتحدة سيكون مغايراً هذه المرة، لأن استخدامها الفيتو لعرقلة تنفيذ حكم ملزم لمحكمة العدل الدولية يمكن أن يقوم دليلاً على مشاركتها في ارتكاب أعمال إبادة جماعية، الأمر الذي يعرّضها للملاحقة في أروقة القضاء.
وهنا تكمن الأهمية القصوى للحكم الذي أصدرته محكمة العدل الدولية، وخصوصاً أنه صدر بما يشبه الإجماع. ومع ذلك، مخطئ من يتصور أنه كان في مقدور الحكم أن يصبح أكثر فعّالية لو أنه تضمن أمراً بوقف إطلاق النار. فالواقع أنه لولا صمود حماس وفصائل المقاومة والشعب الفلسطيني وأحرار العالم، لما اكتسبت القضية الفلسطينية كل هذا الزخم، الذي وصل إلى ذروته مع صدور هذا الحكم التاريخي. شكراً لجنوب أفريقيا مرةً أخرى.