قراءة جيو– استراتيجية في الأزمة الأوكرانية
موقع قناة الميادين:
لا يمكننا فهم طبيعة هذه الأزمة ومسارها وتداعياتها من دون أن نرجع إلى الماضي القريب والنظر إليها في إطار التفاعلات التي تجري في عالمنا الجديد.
من بين ركام الماضي وتناقضات الحاضر، اشتعلت في الأسابيع الأولى من العام 2022 أزمة عاصفة في العلاقات بين جمهورية روسيا الاتحادية وجارتها المشاغبة أوكرانيا، وبدا كأننا في صدد أزمة آخذة في التصاعد والغليان يوماً بعد يوم، تكاد تهدّد مجمل الأوضاع الحرجة والتوازنات الدقيقة في أوروبا كلّها، وقد لا نبالغ إذا قلنا العالم أجمع.
في الحقيقة، لا يمكننا فهم طبيعة هذه الأزمة ومسارها في الحاضر وتداعياتها في المستقبل المنظور، من دون أن نرجع، ولو قليلاً، إلى الماضي القريب، وكذا النظر إليه في إطار التفاعلات التي تجري في عالمنا الجديد الذي يبدو في طريقه إلى التشكّل من جديد بعد انهيار المشروع الإمبراطوري الأميركيّ والعالم الأحادي القطب منذ غزو العراق، وما جرى بعده من تصاعد موجات المقاومة ضدّ الهيمنة الأميركية في أكثر من مكان.
أوكرانيا التي أُلحقت قسراً إلى الدولة الإمبراطورية الروسية منذ منتصف القرن التاسع عشر، وأُعيد ضمها إلى الدولة السوفياتية الاشتراكية الوليدة في أتون الحرب الأهلية في العام 1922، برضا قطاع واسع من قوى اليسار الشيوعي ذي الأصول الروسيّة، كانت تضمر في داخلها تياراً عريضاً من ذوي الأصول الإثنية الأوكرانية، يميل إلى الجيش الأبيض المناوئ للثورة البلشفية، والمعادي في المطلق للاشتراكية.
وقد أظهرت سنوات الحرب العالمية الثانية والغزو النازي لأراضي الاتحاد السوفياتي في حزيران/يونيو 1941، وجود هذا التيار الَّذي تحالف مع جيش الاحتلال الهتلري، وكوَّن فرقاً عسكرية تعاونت معه ومارست التنكيل ضد قوى المقاومة السوفياتية، سواء في أراضي أوكرانيا أو أبعد من ذلك.
وبمجرَّد نجاح الهجوم الاستراتيجي السوفياتي المضاد في تحرير الأراضي السوفياتية من الاحتلال النازي، ومطاردة القوات الألمانية النازية حتى سور البوندستاج للرايخ الثالث (البرلمان)، واستسلام ألمانيا، عادت السلطات السوفياتية لترتيب بيتها من الداخل.
وكان أهمّ تلك الترتيبات التخلّص من عملاء النازيين الذين ظهروا وشكلوا خنجراً مسموماً في ظهرها، وكان في مقدمة هؤلاء تلك القطاعات من سكّان أوكرانيا، فجرى إعدام الكثيرين وتهجير مجموعات أخرى إلى مناطق أخرى من الأراضي السوفياتية، وخصوصاً سيبيريا، بشكل شبه جماعي.
من هنا، ظلَّت النفوس كامنة على غضب، تنتظر لحظة الانتقام من الروس. وقد بدا لهم أنَّ هذه اللحظة قد دنت، حين قام الرئيس الروسي المخمور بورس يلستين والمجموعة الصهيونية والمافيوية المحيطة به بتفكيك الاتحاد السوفياتي في العام 1992، فانقسمت الدولة السوفياتية الاشتراكية إلى 15 جمهورية، كان أكبرها على الإطلاق من حيث المساحة والقدرات الاقتصادية روسيا الاتحادية وجمهورية أوكرانيا وكازاخستان.
لم تفلح محاولات الاندماج القومي التي مارستها السلطات السوفياتية طوال 70 عاماً في طيّ صفحة التعصب العرقي، كما لم تنجح السياسات الاقتصادية وانتشار الفساد بين دواليب العمل الحكومي في هذه الجمهوريات الوليدة بعد عام من تفكك الاتحاد السوفياتي في العام 1992 في إحداث تغيير جوهري في علاقات المجموعات العرقية المختلفة، فظلَّ التيار الشوفيني من الأصول الأوكرانية أو العرق الجورجي ينمو ليخلق تياراً فاشياً جديداً اتخذ من الثارات القديمة غطاءً ومبرراً، لينقضّ على الحكم بدعم من حلف الناتو، في ما سُمي “الثورة البرتقالية” في العام 2014.
ولم يترك الجناح اليميني الذي سيطر على تظاهرات الغضب في ذلك العام جريمة إلا وارتكبها، من ترويع لمعارضيه وذبح وقتل وتنكيل لبعض السكان من أصول روسية، أو حتى ممن يشتبه بمعارضته تلك الثورة البرتقالية التي خضبت بالدم، وسط تهليل وترحيب الساسة في حلف الناتو والولايات المتحدة ووسائل إعلامها جميعاً.
وهنا، تحركت المناطق الجنوبية الشرقية التي تغلب عليها الأصول الروسية في مناطق دونيتسك ولوغانسك، للبحث عن حماية والانفصال عن تلك الجمهورية الخطرة، كما تحرك سكان شبة جزيرة القرم لإعلان الانفصال عن أوكرانيا والانضمام إلى الجمهورية الاتحادية الروسية، بكلّ ما تحويه من مخزون الأسطول الحربي البحري الروسي الهائل في البحر الأسود.
هكذا، نشأ الوضع الجيو-سياسي الذي نشهده الآن منذ العام 2014، ولم تفلح اتفاقية “مينسك” التي وقعت بين روسيا وأوكرانيا فرنسا وألمانيا وتفاهمات “نورماندي” في حل المشكلة، وظلَّ الوضع مختزناً عوامل التفجير في أيّ لحظة.
أوكرانيا تؤدي دور حصان طروادة
كما هي عادة الولايات المتحدة (الشيطان الأعظم) في إطار لعبة صراعات القوى ورغبتها في الهيمنة، استخدمت مواطن النزاع وعوامل التفجير في أوكرانيا، لتكون أداة لمناوشة ومشاغبة روسيا الاتحادية، التي عادت بدورها بقوة إلى المسرح العالمي بعد سنوات العشرية السوداء في عهد بوريس يلستين (1992-2002)، حيث القيادة الروسية الشابة والقوية، والتي تمتلك رؤية استراتيجية متكاملة لإنقاذ روسيا ومحيطها الجيو-استراتيجي من حالة الانهيار والضياع الذي صاحب تفكّك الاتحاد السوفياتي وتولي جماعات أقرب إلى المافيا قيادة هذه الدولة، إذ جرت خصخصة وبيع ونهب وإهدار أضخم قطاع اقتصادي عام مملوك للدولة، وتفكيك وبيع الكثير من القدرات العسكرية ومراكز الأبحاث، وانتشار الفقر والجوع بين القطاعات الأوسع من السكان، مقابل تركز هائل للثروات في يد تلك المجموعات المشبوهة وطنياً وأخلاقياً. والمفارقة التاريخية هي تزامن ما جرى في الاتحاد السوفياتي وروسيا مع ما جرى ويجري في مصر تماماً.
لم تكن تجربة تحرش جمهورية جورجيا تحت قيادة شاب أرعن مرتبط بالاستخبارات المركزية الأميركية يدعى ساكشفيللي في العام 2008 بروسيا الجديدة ناجحة، فقد تمكَّن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من حسم المعركة في أقل من أسبوع، وانتزع منها استقلال جمهوريتي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، وروّض هذا التمرد المدعوم أميركياً، وها هو ساكشفيللي مطارد وملاحق في أكثر من جمهورية بقضايا فساد منذ ذلك التاريخ حتى يومنا.
والآن، جاء دور أوكرانيا التي تمتلك بموقعها قدرات إزعاج أكبر للمارد الروسي، حيث بحر آزوف من ناحية، وخطوط إمداد الغاز إلى أوروبا من ناحية أخرى، والرغبة في الانضمام إلى حلف الناتو، واستدعاؤه على أبواب روسيا، وفي مرمى قصف عاصمته موسكو.
إنَّ الولايات المتحدة وحلف الناتو الذي كانت وظيفته دفاعية، ولم يكن يضم سوى 16 بلداً حتى العام 1997، تحوَّل إلى حلف هجومي، وضم إليه 14 بلداً آخر من شرق أوروبا (بولندا – المجر – رومانيا – التشيك – سلوفاكيا – ليتوانيا – أستونيا – مولدافيا – بلغاريا)، في مخالفة لكلّ الوعود الشفوية التي قطعتها الولايات المتحدة ودول الغرب الأوربي للقيادة الروسية المخمورة، وأصبحت صواريخه وهدير دباباته على مسامع الكرملين وبؤرة البصر، وها هي أوكرانيا بقياداتها ذات الميول الفاشية تزحف طلباً للانضمام إلى الناتو، لتستحضر قوات الحلف وتحظى بمساندته في المعركة القادمة مع روسيا، لاستعادة ما تصوّرت أنه اقتُطع منها (القرم ودونيتسك ولوغانسك) والثأر التاريخي من روسيا.
هكذا، بدأت التحرشات الأوكرانية مرات باستقدام وضيافة مدمرات بريطانية وأميركية عبر بحر آزوف الملاصق للبحر الأسود، تماماً كما تفعل دويلتا البحرين والإمارات باستقدام “إسرائيل” إلى منطقة الخليج من أجل التحرش بإيران. كما بدأت أوكرانيا بالتحرّش بروسيا عبر خطّ أنابيب الغاز (نوردم ستريم 1) الواصل بين روسيا وبعض دول شرق أوروبا ووسطها عبر أراضي أوكرانيا، التي تحصل من خلاله على 1.8 مليار يورو سنوياً كرسوم مرور.
ولم يكن لدى القيادة الروسية بصيرة سوى التحرك لنزع أشواكها بيديها بصبر وأناة، فوقعت اتفاقية مع ألمانيا لمد خط أنابيب جديد (نوردم ستريم 2) يصل بين الأراضي الروسية في أقصى الشمال الغربي عبر بحر البلطيق إلى ألمانيا، بكلفة 16 مليار دولار. وقد استغرق أكثر من 8 سنوات، وانتهى فعلياً في نهاية كانون أول/ديسمبر 2021، وأصبح جاهزاً للتشغيل في كانون الثاني/يناير 2022، حين أشعلت أوكرانيا الأزمة الجديدة.
وهنا، أسقط في يد القيادة الأوكرانية متصوّرة بأنَّ النجاح في بناء خط غاز “نوردم ستريم 2” سيدفع القيادة الروسية والرئيس بوتين إلى وقف العمل تدريجياً بالخط الأول، ويحرمها بالتالي من إيراداته وإمدادات الغاز الروسي إليها، فزادت التحرشات، وزاد عدد السفن الحربية التابعة لحلف الناتو الزائرة في البحر الأسود وبحر آزوف، من دون أن تدرك أنَّ هذه النار ستحرق أصابعها أولاً، سواء بحكم التركيبة الديموغرافية لأوكرانيا، التي يعدّ 20% على الأقل من سكانها من أصول روسية وبيلاروسية، أو بحكم فارق القوى العسكرية الهائل لمصلحة روسيا.
أبعاد الأزمة الراهنة ومساراتها
جاء التصاعد السريع والعنيف خلال الأسابيع الخمسة الأخيرة ليكشف عن أبعاد خطرة وأهداف استراتيجية لكلِّ طرف من أطراف الأزمة:
أولاً: بالنسبة إلى أوكرانيا
تتحرك أوكرانيا وتيارها اليميني الفاشي المسيطر على الدولة والحكم على أمل تحقيق عدة أهداف هي:
1- توريط حلف الناتو والولايات المتحدة في معركة سياسية واقتصادية ضد روسيا الاتحادية، بهدف وقف خط “نوردم ستريم 2″، وحرمان روسيا من هذه القوى المالية والنفوذ السياسي.
2- الوصول بالأزمة إلى مستوى يؤدي إلى تدخلات سياسية وتدخلات من مجلس الأمن من أجل استرداد شبة جزيرة القرم وبقية الأراضي المنشقة عنها شرقاً.
3- ضمان استمرار خط أنابيب “نوردم ستريم 1″، ليصبح الشريان الوحيد لإمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا، فتصبح أوروبا وروسيا معاً تحت رحمة أوكرانيا.
4- الانضمام إلى حلف الناتو كضمانة لأمنها في مواجهة الدب الروسي.
ثانياً: بالنسبة إلى روسيا
لم يعد أمام روسيا إزاء كل هذه التحركات المعادية والمهددة لأمنها القومي المباشر سوى حسم هذه القضية وتحقيق الأهداف التالية:
1- ليس عدم انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو فحسب، بل الأهم، الوصول مع الغرب والولايات المتحدة إلى منظور مشترك تجاه الأمن الجماعي لدول أوروبا وروسيا معاً، فلا معنى لتوافر الأمن لدول الحلف، بينما يكون الأمن القومي الروسي مهدداً، فإما يكون هناك أمن مشترك للجميع وإما لا يكون هناك أمن لأوروبا وحلف الناتو. هكذا، لن يتراجع الروسي عن هذا الهدف، وكل التحركات العسكرية الروسية والبيلاروسية المشتركة تسعى للضغط للوصول إلى تفاوض جدي مع الولايات المتحدة والدول الرئيسية في الاتحاد الأوروبي والناتو (فرنسا – ألمانيا – إيطاليا) لتحقيق هذا الهدف.
2- من أهداف الأمن المشترك للجميع، وقف تحركات وتحرشات أميركا وبريطانيا وحلف الناتو بروسيا عبر البحر الأسود وبحر آزوف، وإلا، فإنَّ أحد أهم أهداف العمل العسكري الروسي المرتقب هو قطع صلة الوصل بين أراضي أوكرانيا وبحر آزوف تماماً، وتوسيع مساحات الأراضي الممتدة من جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك، لتغلق المطل الأوكراني على بحر آزوف الذي يمثل البطن الرخو لروسيا وأسطولها.
3- إذا ما أجبرت روسيا على عمل عسكري بكلّ تكاليفه الباهظة، فإنَّ هدف تفكيك السلطة الحالية في أوكرانيا والإتيان بحكومة وسلطة ليست معادية لروسيا يصل إلى هذه الدرجة الشوفينية والفاشية.
4- إنَّ وقف تشغيل خط الغاز (نوردم ستريم 2) من روسيا إلى ألمانيا، ومنها إلى بقية دول أوروبا، هو ضربة مؤلمة وموجعة لروسيا، وهو أيضاً ضربة مؤلمة لأوروبا، وخصوصاً ألمانيا، وقد يعوّض روسيا قليلاً اتفاقياتها مع الصين، لمدها باحتياجاتها المتعاظمة من الغاز والبترول.
5- تنظر روسيا إلى هذه المعركة المركبة سياسياً واقتصادياً، وربما عسكرياً، باعتبارها إحدى محطات إعادة التوازن في العلاقات الدولية التي اختلّت منذ تفكّك الاتحاد السوفياتي والكتلة الاشتراكية (دول حلف وارسو ومجموعة الكوميكون). هذه المحطة هي امتداد لمعركة العراق وأفغانستان وإيران التي مرّغت الفحل الأميركي في الوحل.
6- تستخدم روسيا والرئيس فلاديمير بوتين استراتيجية حافة الهاوية التي ابتكرها الأميركيون في الخمسينيات، ووزير الخارجية الأشهر فوستر دالاس.
في الحقيقة، إنَّ معركة روسيا الآن لا تقتصر على روسيا وأوكرانيا وحدهما. ولا نبالغ إذا قلنا إنَّها تهمّ العالم أجمع، وخصوصاً دول الجنوب التي تتعرض منذ سنوات طويلة للقهر والنهب والغطرسة الأميركية والغربية، وبريطانيا وفرنسا، الشركاء الاستعماريين الكبار للولايات المتحدة. هكذا علينا أن نقرأ الحدث التاريخي الراهن.