قاسم سليماني.. الجندي الأُممي بعيون سورية
صحيفة الوفاق الإيرانية-
جو غانم:
حين دوى صوت الزعيم العربي جمال عبد الناصر في جنبات أمّة العرب: “ارفع رأسك يا أخي. مضى عهد الاستعباد”، رفع ملايين العرب هاماتهم عالياً، من دون حتى أنْ تكون في أيديهم بندقيات، لأنّ الشرف هو فطرة الإنسان.
“وفجأةً، انبثقت أمامي الكلمات التي فتّش عنها ذهني طويلاً.. الضرب على الحالة النفسية! هكذا أسميتُ لنفسي أخيراً سرّ القتال؛ سرّ النصر في القتال… ولكنّ بورناشيف في تلك اللحظة العظيمة الرهيبة، تقدّم قاطعاً ألف خيط من الخيوط الرهيبة التي تُسمّر الإنسان بالأرض تحت النار، وهو يصرخ بهذه الصرخة بالذات:
– في سبيل الوطن! إلى الأمام!
وفجأةً، انقطع صوته، وسقط على وجهه، كأنّما تعثّر بحبل ممدود تحت قدميه. كان الجميع ينظرون إليه، إلى الملازم المنطرح على الثلج، الذي حُصدَ منذ خطواته الأولى، ومرّت ثانية توتّر. ومن جديد هبّ أحد المقاتلين، وتماوجت فوق الحقل، مع طلقات الرشاش، الكلمات نفسها والنداء نفسه:
– في سبيل الوطن. إلى الأمام!”
ألكسندر بيك ـ قصّة الرعب والجرأة “طريق فولوكولامسك”.
بالحديث عن الحالة النفسية، وعن الروح المعنوية للجندي، ثمّة آلاف الصفحات التي يمكن كتابتها ونحن نتناول بعض فصول الحرب الطويلة التي تجري على أرضنا منذ عقود وعقود، وثمّة الكثير ممّا لا يمكن لخيال أي كاتبٍ أو مؤرّخ أنْ يبلغه أو يترجمه؛ الكثير من الصمت الذي يعتمل في تلك الأنفس البشرية، والذي يوازي في ضجيجه صوت ارتطام جبل جليدٍ بجبلٍ من الجلمود، والكثير من الأرواح المنكسرة بفعل الرعب والحزن وقدرة العدو على التوحّش، والكثير الكثير من الأرواح السّامية بفعل الجرأة والشرف والإيمان بالحقّ.
لقد جُرّبت فينا كلّ فنون الحرب النفسية؛ كلّ أشكال الاغتيال المعنوي الجماعي، كلّ أدوات كسر الأرواح وهزيمتها من دون قتال، حتى صدّق بعضنا أننا أمّة ضعيفة؛ أمّة يصعب عليها الانتصار، لأنّ العدو – كلّ عدو – أقوى منّا بكثير، من دون أن يعطينا هذا البعض الحقّ في أنْ نحاول إثبات عكس ذلك، لأنّ “العين لا تُقاوم المخرز”. قيلت هذه الجملة لكلِّ حركات المقاومة، وهناك من قرّر أنّنا لسنا أكثر من عينٍ عارية في صحراء التاريخ، تواجه مخارز جميع الطامعين بمستقبلنا.
حين دوى صوت الزعيم العربي جمال عبد الناصر في جنبات أمّة العرب: “ارفع رأسك يا أخي. مضى عهد الاستعباد”، رفع ملايين العرب هاماتهم عالياً، من دون حتى أنْ تكون في أيديهم بندقيات، لأنّ الشرف هو فطرة الإنسان، ولأنّ الكرامة هي سبيله الأحبّ في الحياة، ولأنّ الروح البشرية توّاقة أبداً إلى العزّة والإباء، وذلك لأنّهم وجدوا أخيراً “القائد” الذي يرى في أمرهم ما هو أبعد من عينٍ ومخرز.
وبعد عقود من محاولات النهوض، وقف أحد رجال القائد عماد مغنية أسيراً يحيط به جنود الاحتلال الصهيوني من كل جانب، وصحافي “عربي” ألقى في وجهه ما اعتبره أهمّ أسئلة الندم على الإطلاق في تلك اللحظة: هل لديك رسالة للأمين العام لحزب الله؟ أجابت الروح الحرّة داخل الجسد المكبّل بالأصفاد: نعم، لدي ما أخبره به: أقول له يا سيدنا… والله لو أمرتنا أنْ نخوض البحر لخضناه معك.
وفي زمن لاحق، كانت يد أداةٍ أميركيةٍ بمخالب طويلة تقطر منها الدماء تضع فوّهة مسدس في صدغ العريف في الجيش السوري، يحيى الشغري، وتطلب منه الهتاف بحياة التكفير مقابل النجاة، لكنّ روح الشغري لم تُضِع ثانية واحدة في المفاضلة، واختارت الشرف. وأستطيع أن أقول هنا إنّ خيار العريف المقاوم، كما خيار الأسير المقاوم، لم يكن شخصياً، بل لم يعد شخصياً منذ سنوات. هناك ما تغير في هذه الأمّة. هناك فئة عظيمة قرّرت أن تعيد صياغة أمّة.
حامل الرّاية
كان مجرّد وجوده في ميدان المعركة يشكل سبباً وجيهاً للنّصر، وضرباً معنوياً من ضروب كسر التوازن مع العدو. كان المقاتلون يشعرون بهذا ويتعاملون معه على أنه قاعدة عسكرية ثابتة: “الحاج هنا”. هذا لوحده يبعث على الأمان والحماسة والإحساس بالنصر.
أمّا نحن، الذين كنا نطلّ بأرواحنا مِنْ الأطراف لنتقصّى أخبار ميادين القتال على امتداد أرضنا المعذبة، فقد كنا نشعر، بل نسمع، بأنّه في كلّ مكان. كان في جنوب لبنان، وكان في العراق، وفي سوريا. كان في غزة. وأخيراً، قال الرفيق مادورو: لقد كان هنا أيضاً، في فنزويلا، وكان يقاوم.
كان ابن جنوب العالم هذا مسلماً حُسينياً مؤمناً حدّ الدّمع، لكنَّ رايته لم تكن محض إسلامية. لم تكن شيعية ولا إيرانية، بل كانت منسوجة من خيوط الراية ذاتها التي سقطت يوماً في وهاد بوليفيا، يوم سُجّي ذاك المقاتل الأرجنتيني العظيم على خشبة، ووقف “العالَم الأوّل” الفظيع مرتعداً فوق جثمانه، ينكل به كي يتأكد أنه مات وانتهى.
كانت منسوجة من خيوط الراية نفسها التي سقطت من يد عظيمٍ آخر في حي كفرسوسة الدمشقي في 12 شباط/فبراير 2008، يوم تنهّد الوحش الاستعماري معلناً اغتيال القائد عماد مغنية. إنّها راية الجنوب المنهوب التي تنقّلت بين كفوف الفقراء السّمر، منذ أن فكر المستعمر الغربي أنّه سيدٌ وأننا عبيد، ومذ قرّر أوّل جنوبي شجاع أنَّنا أحرار، وأنّ هذا الوحش الأبيض الشّره المدجّج بالسلاح لا ينبغي له أن يكون سيداً حتى على قمل رأسه.
كان قاسم سليماني جندياً سورياً باسلاً، يوم قرَّر عدد من السوريين أن يكونوا جنوداً لدى كلّ من قرّر تصفية وطنهم وجعله عبرةً لكلّ من يقول: لا. وعلى هذا تشهد كلّ انكسارات المشروع الاستعماري على أرض الشام، ويشهد ضباط الجيش العربي السوري وجنوده، الذين باتوا إخوة سلاحٍ وشرفٍ لسليماني ورفاقه، وعلى هذا نشهد، نحن السّوريين الذين رأينا خريطة بلادنا تتمزّق بسكاكين أدوات المستعمر، وامتهنّا حمل نعوش إخوتنا وأولادنا وأحبّتنا لمدّة 10 سنوات.
نشهد جميعاً أنّ قاسم كان منّا، وكان لنا، وكان بيننا. كان في قلب آلامنا، وفي طليعة مواكب انتصاراتنا. ولعلّ أرضنا الخبيرة بالشرف، منذ زنوبيا في وادي تدمر والبوكمال، في حلب وأرياف حماه ودرعا والقنيطرة، خبّأت أمام وجه الشتاء، على سبيل الوفاء، بعض دمعهِ الذي كان يحنو به على جندي هنا وهناك، أو كان ينسكب على طريق صلاة، ولعلّها اختزنت الكثير من صلواته وأدعيته وابتساماته، كي تطرح خيراً وغِلالاً بعد التحرير.
راية الوعي
أراد لنا المستعمر أنْ نكون شعوباً متناحرةً وقبائل متكارهة وطوائف تُكفّر بعضها بعضاً. وفي هذا تتوفّر له كلّ فرص استخدامنا كأدوات، ونهب ثرواتنا وحقوقنا، وتدمير مكتسباتنا، وتحويلنا إلى عبيد في حقولنا المسلوبة. وقد وجد بيننا من يؤمّن له كل هذا بثمنٍ مدمّر، لكنّ سليماني مثّل كل ما هو عكس ذلك تماماً؛ مثّل في الواقع العملي جبهةً للوعي بمشاريع المستعمر وأهدافه.
أراد أنْ يقول لنا جميعاً إنّه سوري وفلسطيني وعراقي ولبناني وكوبي وفنزويلي بقدر ما هو إيراني، لأننا جميعاً نُشكل هدفاً واحداً لهذا المستعمر، ولأنّ سقوط أي واحد منّا يعني سقوط الآخر غداً، ولأننا نُشكل معنا قوة جبّارة تستطيع أنْ تكون سيفاً للحقّ، يحمي كلّ ما يمكن أن يجعل من الكائن البشري إنساناً كريماً.
أراد سليماني أن يقول إنّ تحرير فلسطين هو واجب كلّ شريف وكل فقير وكل مظلوم في هذا العالم، لأنّ السكوت عن الظلم عار جماعي وخسارة إنسانية شخصية.
أراد أنْ يقول إنّ تأمين طريق طهران – بغداد – دمشق – بيروت، وطرد الطامعين مِنْ حوله، فيه استقلالنا ونهضتنا جميعاً، وفيه أنْ نتكامل ونكتفي ونصدّر للعالم ما نشاء من منتجاتنا وثرواتنا، بدلاً من أنْ نبقى تحت وطأة الحصارات التي تخنقنا منذ عشرات السنين، وفيه أنّ قوّة سياسية واقتصادية وعسكرية كهذه، مع تحالفاتها حول العالم، يمكن أنْ تجعل من احتلال فلسطين كابوساً لا يحتمل للمحتلين.
إنّ المفارقة السّاخرة الغريبة أنّ أعداء سليماني بين الأدوات في بلداننا، لا يجدون ما يواجهون به الرجل سوى العنوان الطائفي، وهؤلاء الذين ركعوا أمام الصهيوني دونالد ترامب وأفرغوا له خزائنهم، واصطفّوا كقطيع من الأسرى أمام “أطول برج” وحول “أكبر قرص فلافل” ليرحّبوا باللصوص الإسرائيليين، هؤلاء لن يدركوا أبداً، ولا يريدون، ولو على سبيل الصدفة العقلية المباغِتة أو على سبيل صحوة ضميرٍ أو شحّ أجورٍ استعمارية، مدى وضاعة منطقهم هذا أمام مشروع المستعمر الذي يستخدمهم، ومدى قزمية شعارهم أمام الهدف الذي مثّله سليماني ويمثّله كل مقاوم في هذا الشرق.
هؤلاء الَّذين وصفهم الزعيم أنطون سعادة يوماً بـ “صهاينة الداخل”، وحذّر من فداحة خطرهم على نهضة الأمّة، هم الخنجر المغروز في خاصرة حرّيتنا واستقلالنا. كانوا طريق الرصاصة والصاروخ والعبوة نحو أجساد خالد علوان ويحيى عياش وأبو علي مصطفى وعماد مغنية وعزير إسبر وأبو مهدي المهندس وقاسم سليماني، وهم الذين ما عاد بالإمكان أن نسمح لهم بأنْ يجمّلوا الذل والعبودية، وأن يقطعوا طريق نهضتنا كلصوصٍ مأجورين بحفنةٍ من الدولارات، هم من يجب أن نستخدمهم كوسائل إيضاح لأبنائنا، ونحن نشرح لهم الفرق بين حرية الرأي والاستعباد للمستعمر على حساب شرف الإنسان وكرامة وطنه وحريته.
بداية
لم يكن قاسم سليماني شخصاً كي يموت وينتهي، كما لم يكن عماد مغنية فرداً. كذلك، لا نحتاج إلى أنْ نشرح كيف أهدى الرئيس اليمني صالح علي الصمّاد اسمه، بعد أنْ استشهد، لصاروخ وطائرة مسيّرة، وكيف صار يطير حاملاً حِمم غضب الفقراء على ظهره وجناحيه، بعد أنْ غادر جسده بفعل الحقد الاستعماري.
لقد رأينا هؤلاء جميعاً، بعد رحيل أجسادهم، على حدود غزّة يوم “سيف القدس”، ونراهم يومياً في العراق وسوريا ولبنان واليمن وعموم فلسطين. لقد كان سليماني قبل أيام في دمشق يستمع إلى كلمات السوريين في ذكراه الثانية. كان حاضراً بقوّة، وكان يبتسم وهو يرى أنّ اسمه وعمله باتا نموذجاً للعمل المقاوم ونبراساً على طريق التحرير والنهضة.
يعرف الجنرال الذي أحبّ لقب الجندي أنّ قاعدة “عين الأسد” لا تُقابل شسع نعله في موازين الثأر الإنساني والوطني، وأنّ طرد آخر جندي محتلّ من هذا الشرق هو هدف حياته واستشهاده، وهدف الرفاق والجيل الذي تربّى على بسالة العقل وبأس الشرف وشجاعة المظلوم التي ورثها هؤلاء المقاومون؛ الجيل الذي وضعه هؤلاء على طريق حتمية التحرير، ويعرف الجندي الأممي قاسم أنّ الهدف بات قريباً.
أمّا الراية، فلا شك في أنّ ثغر الشهيد سليماني افترّ عن ابتسامة رخيمة وهو يسمع صوت أحد الرفاق وقد تماوجت كلماته فوق حقول بلاد الرافدين مع أصوات القنابل في اللحظة التي سقط فيها قرب رفيقه المهندس:
– في سبيل الوطن والإنسان. إلى الأمام!