في يوم القدس العالمي.. هذه هي فلسطين التي نفهم
موقع قناة الميادين-
ثابت مرداوي:
فلسطين هي هذه القضية وهي بوابة عبورنا نحو الوجود الحضاري الفاعل والشاهد كأمة، وهي رافعة وعينا وأوتاد إدراكنا. هذه هي فلسطين التي نفهم.
هذه الرسالة كتبها الأسير ثابت مرداوي، من داخل معتقله، ككلمة بمناسبة يوم القدس العالمي:
العديد من الأيام، فصلت بين معرفتي بتوجهي إلى جمعكم الكريم هذا بكلمة، وبين شروعي في كتابتها. وبين دفتي هذه الأيام، حدثت لنا ومعنا، حيث نرقد تحت الزمان على أكف القدر، أحداث كثيرة.
منها ترتيب أوضاعنا التنظيمية والاعتقادية بعد نقلنا إلى المعتقل الذي افتُتح مؤخراً، وتحصيننا بخطوات نضالية لمواجهة إجراءات مصلحة السجون الصهيونية ضدنا، وفيها استشهد يوسف شقيق بركات، ودخل والد مهدي في غيبوبة، ولا يزال في المشفى بين الحياة والموت.
ومهدي وبركات ممن نقتسم وإياهم زمن الزنزانة ذاتها وضيق مكانها، وفيها رأيت أبي متكئاً على أخي وعصا، جاء لزيارتي بعد انقطاع أكثر من 6 أعوام، وهو الذي تركته عند اعتقالي في كامل صحته واستشاطات غضبه، وخرجت فيها إلى باحة المعتقل عشرات المرات، وطالعت كتابين، وقرأت ما تيسر عن الاتفاق الإيراني السعودي، وتابعت سطور تواريخ الجماعات اليهودية في تشظي هوية اللاممكن في الكيان المستحيل. وبقي في وقتي هذا متسعٌ لأُصاب بالإنفلونزا مرتين، وحتى لأتابع من على شاشة التلفزيون الفلسطيني الرسمي، المسموح لنا بمشاهدته في المعتقل الصهيوني، برنامجاً عن الجدل المحتدم بين القائلين بكروية الأرض وأولئك المصرّين على أنها مسطحة!
وبقيت طوال هذه الفترة، على رغم أحداثها، مشغولاً بسؤال هذه الكلمة. ليس حسرةً، وإنما كيف أقول لكم إن انبعاث أمة، ومصير أمة، ومشهدية الأمة الوحيدة المؤتمنة والقادرة على إعادة الانسجام والتناغم في طبقات الوجود، أمانة بين أيدي اجتماعكم، الأمر الذي يجعلني أعترف بين أيديكم، بأني أشفق علينا من وجوب كثرة الدعاء لكم، وعليكم مشفق من ثقل العبء الملقى على كواهلكم. ولعل هذا ما يحتم عليّ في هذه الفرصة تذكيركم بشيء عن القضية التي لأجلها تجتمعون.
إن واحدة من أظهر حقائق تواريخ الاجتماع البشري، وأكثرها شيوعاً وإشغالاً للعقول والأذهان والسيوف، كانت بدأت في السلوك، ثم تبعتها بحكم الضرورة وطبيعة الأشياء انزياحات في التصورات والمعاني، أو كان العكس هو الذي حدث.
ومع الزمن وتطاول الأمد، تبدو الانزياحات كأنها الأصل في الأشياء والمفاهيم والمعاني والسلوك، وتكون النتيجة عندها وصول الأحوال والأوضاع إلى الحد الذي فيه قال تعالى: “ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون” (صدق الله العظيم).
على رغم كميات الخوف المنبعث في الفضاء الذي ترسمه هذه الآية الكريمة، فإنها تسير وتتوجه نحو نافذة من أمل وهامش من عمل من أجل الواجب الممكن فيه، “لعلهم يرجعون”، والذي يشترط حُكماً تشكيل مساحة وعي جديد بين ما هو قائم وما يجب أن يكون، ثم لتأخذ هذه المساحة من الوعي على عاتقها مهمة تصويب الانزياحات وإعادة المعاني إلى هياكل اللغة والمفردات.
المسألة التي تختصر عملية تخلق الإدراك وولادته باستمرار كشرط لحركة العمل في المواجهة الدائمة مع واقع الانزياحات.
ومن كمال رحمته، سبحانه وتعالى، أنه يمن عليهم بقضايا تعينهم على تشكيل مساحة وعي تقوم بدور الناظم والضابط في مسيرة “لعلهم يرجعون”، بكل اشتراطها وتفاعلها.
صحيح أن هذه القضايا تقول في ظاهرها نتيجة الانزياحات وثمنها المدفوع دماً وألماً وتخلفاً واضطهاداً ومهانة، إلّا أنها في جوهرها تمثل أداة الرجوع وميدانه، ومعيار ضبط التصورات والمفاهيم، وميزان تقويم الأداء والعمل. وعي هذا المعنى نعمة تستحق الشكر وكل ثمن مدفوع من أجلها. كما أنه، بمقدار الاقتراب منها والانتماء إليها، يتحدد منسوب المعنى والقيمة في حياة العباد ووجودهم.
وفلسطين المأساة ليست نتيجة لاختلال موازين قوى، أو من جراء خسارة حرب ما، وإنما هي نتيجة انزياحات تراكمت عبر مئات الأعوام، وما زالت. أفسدت فيها أركان المفاهيم والتصورات والاجتماع والسياسة وما ينشأ عنها وما يترتب عليها، وضربت تصاميم دنيانا المعرفية، حتى لم نعد نتفق على معنى لنص أو دلالة لمفردة.
إلّا أن فلسطين القضية، في المقابل، وبما لها من خصائص ومكانة ودلالة في فهمنا الديني، وفي قراءتنا للتاريخ والواقع والمستقبل، تؤكد أنها هي الإطار الذي به ومن خلاله يجب أن تتشكل مساحة وعينا المنشود، بكل تفاعلاتها المفاهيمية والسلوكية، وأن الوعي المؤسس على إدراك فلسطين هو وحده القادر ليس فقط على كشف انزياحات الحاضر، بكل ألوانها وتفرعاتها، أو تلك التي حدثت عبر مئات من السنين خلت، وإنما أيضاً ضبط ايقاع حركة الأمة لمئات أعوام مقبلة، بل إلى قيام الساعة.
إذا كانت الأمم والجماعات تحتاج حكماً إلى قضايا مؤسسة وجامعة من أجل الوجود وضمان الاستمرار وتحديد فعّاليته وضبط حركته، وإلى روافع الوعي التام والوجود وعلومه الحركية، فإن فلسطين هي هذه القضية، وهي بوابة عبورنا نحو الوجود الحضاري الفاعل الشاهد كأمة، وهي رافعة وعينا وأوتاد إدراكنا.
هذه هي فلسطين التي نفهم.
وهذا هو معنى القدس لدينا، وفيه ننادي فلسطين تحديداً؟
هذا هو العبء الملقى على كواهلكم أيها السادة في اجتماعكم يوم قدسكم، أن تنشروا هذا الفهم بين المسلمين والناس أجمعين، وأن تجعلوا فلسطين رافعة الوعي المسلم والوعي الإنساني، وأن تضبطوا بمعيارها حركة وعي أمتكم، وأن تحاكموا بها وعليها التاريخ والواقع، والدول والعواصم، كالجماعات والمذاهب، كالأذكار والمواقف، وأن تقيسوا بميزانها تمام التدين وسلامة اللغة واستقامة المعاني والدلالات.
واسمحوا لي بأن أدّعي، بين أيديكم، أن هذا الفهم هو الوحيد الذي يمكن أن يرتقي إلى مستوى فلسطين القضية والمعنى، وهو الوحيد الذي يجب أن يكون عليه كل مشروع أو برنامج عمل لهذه الأمة. وهو وحده الكفيل بتحرير القدس وفلسطين؛ التحرير الذي سيكون معناه أكبر كثيراً وأبعد من استعادة بقعة جغرافية، إلى استعادة أمتنا حياتها ووجودها الحضاري، وتصحيح مسار تاريخ طويل من الانزياحات، وأنه يعني عودة مجرى التاريخ إلى نهر يرضى عنه الله، وألّا يبقى حيث تريد الشياطين.
وأظن أن الإمام الخميني، صاحب الفكرة، قصد، تحديداً، هذا الفهم، وله سعى وعمل. فجزاه الله عنا وعن فلسطين والقدس أفضل الأجر والثواب، وتغمّده بواسع رحمته، وأسكنه فسيح جناته.