في معنى المقاومة
تظهر في الآونة الأخيرة أصوات عديدة في وسائل الإعلام العربية، تندد بالمقاومة الفلسطينية في مواجهة الكيان الصهيوني، وتنطلق هذه الأصوات من منطلق «إنساني/ واقعي»، يؤكد أن منظر الشهداء الفلسطينيين مؤذ ويفطر القلب، وأن هذا المنظر غير الإنساني تتسبب به قوى المقاومة حين تخوض حرباً عبثية لا تقيم اعتباراً لموازين القوى المختلة، فتؤدي «مغامرات المقاومة» وعدم قراءتها للواقع إلى مأساة إنسانية.
هذا المنطق يسعى إلى إبعاد النقاش عن المتسبب الأصلي بالمأساة، أي الاحتلال الصهيوني، وإدانة المقاومة بمبررات الواقع، لتسويق خيار الاستسلام العدو، وتقديمه خياراً وحيداً لا مفر منه.
لا ينكر أحد أن ما يحدث لأهلنا في فلسطين يفطر القلب ويبكي العين، لكن توظيفه في إدانة المقاومة بدل العدو غير بريء ولا إنساني.
لو كان الأمر ممكناً لضغطنا على الزر الذي سيمحو إسرائيل عن وجه الخريطة ويعيد الصهاينة إلى أوروبا، ولكن للأسف هذا الحل غير ممكن، فليس هناك حلول سحرية وسريعة وغير مكلفة بهذا الشكل.
نحن بين خيارين: إما قبول فكرة إسرائيل ووجودها كما يدعونا إلى ذلك الواقعيون الإنسانيون، أو المقاومة لتحرير الأرض والإنسان العربي في فلسطين ودفع ثمن الحرية، وهو الخيار الذي تتبناه فصائل المقاومة في فلسطين وتدافع عنه، ومن ورائها جمهور عربي واسع.
الحديث عن أن الصهاينة أكثر عدةً وعتاداً من الفلسطينيين، هو كلام متهافت يراد به ضرب فكرة المقاومة.
لو لم تكن إسرائيل «أقوى» لما أسميناها مقاومة، فأنت تقاوم من هو أقوى منك، حتى أن تعريف كلمة مقاومة كما جاء في المعجم الوسيط هو «مواجهة الخطر أو العدوّ والثبات وعدم الاستسلام له، رغم قوّته وسيطرته الجزئيّة أو الكلِّيَّة على ميدان القتال» فلا معنى للمقاومة لو كان الفلسطينيون هم الحلقة الأقوى، ولو استعرضنا بعض حركات المقاومة في العالم لرأينا كيف كانت «أضعف» من المعتدي وانتصرت في النهاية، رغم دفعها أثماناً باهظة من أرواح الناس، فالتفوق المادي لا يُؤَمِّن وحده الانتصار، وقد دلتنا النماذج التاريخية لحركات المقاومة ضد الاحتلال والاستعمار على هذه الحقيقة.
المقاومة الليبية ضد الاستعمار الإيطالي التي ما انقطعت من بداية العدوان الإيطالي عام ١٩١١ تقدم نموذجاً في هذا الإطار، ولعل أبرز اسم في المقاومة الليبية هو الشيخ المجاهد الشهيد عمر المختار، الذي أصيب وسقط على الأرض جريحاً وحوكم محاكمة صورية لم تدم ساعة وصدر الحكم بإعدامه عام ١٩٣١، واستمر الليبيون في المقاومة وتقديم تضحيات عظيمة في سبيل تحرير وطنهم حتى خرج آخر جندي إيطالي في يناير ١٩٤٣.
المقاومة السورية ضد الانتداب الفرنسي نموذج آخر، فعلى طول فترة الانتداب من عام ١٩٢٠ الى الجلاء عام ١٩٤٦ لم يتردد السوريون في المقاومة ومحاربة التقسيم الاستعماري رغم قوة الفرنسيين وتفوقهم، وبرزت شخصيات وطنية عملاقة كالشيخ صالح العلي وإبراهيم هنانو وسلطان باشا الأطرش وكان شعار السوريين «اننا سوريون بالولادة، لكننا قوميون بالارادة وسنحمل السلاح ونواصل النضال حتى يرحل آخر جندي فرنسي عن ارض الوطن»، وفعلاً في ١٧ أبريل ١٩٤٦ اندحر الجيش الغازي وهو ما سمي بعيد الجلاء تتويجاً لنضال طويل مليء بالبطولات والتضحيات.
المقاومة الفييتنامية في مواجهة الاحتلال الفرنسي ثم الأميركي قدمت نموذجاً مهماً، وإن حظيت فييتنام بدعم من روسيا والصين (المعسكر الشرقي) إلا أن موازين القوى لم تكن متكافئة أبداً، هُزم الفرنسيون هزيمة نكراء عام ١٩٥٤ في معركة ديان بيان فو، وفي عام ١٩٧٥ تجرع الأميركيون مُر الهزيمة حيث أقلعت آخر مروحية أميركية حاملةً سفيرها معها، وقُدر قتلى الفييتناميين مليون ومئة ألف قتيل، بينما قدّر قتلى الأميركيين بـ ٥٧٥٠٠ قتيل، ومع هذا كانت تُعتبر هزيمة نكراء للأميركيين، فلم يحقق القتل الأميركي الانتصار، بل جلب هزيمةً وعقدةً استمرت لفترة طويلة في العقل السياسي والعسكري الأميركي.
نتذكر أيضاً المقاومة الجزائرية للاستعمار الفرنسي الذي استمر لمدة ١٣٢ عاماً (أي تقريباً ضعف مدة الاحتلال الصهيوني لفلسطين) ومارس فيه الفرنسيون أنواع الجرائم من قتل وإبادة وتجهيل وتهجير، وفي المقابل تشجيع استيطان الفرنسيين، ورغم هذه الظروف الصعبة إلا أن الجزائر تحررت في نهاية الأمر من الاستعمار الفرنسي، وانتهى الاستيطان الفرنسي في الجزائر (وهي عبرة لمن يدعي استحالة تفكيك الاستيطان الصهيوني في فلسطين بعد كل هذه السنين)، وفي عام ١٩٦٢ أُعلن استقلال الجزائر بفضل المقاومة المسلحة على مدار قرن وثلث من الزمان.
في حالتنا الراهنة أمام العدو الصهيوني قدمت المقاومة الباسلة في لبنان بتحريرها أرض الجنوب الحجة العملية التي دحضت أوهام المستسلمين المتمسكين باتفاقيات الذل مع العدو، بعد أن كان الصهاينة يمنون النفس ببناء مستوطناتهم في الجنوب في عام الاحتلال الأول عام ١٩٨٢ كما ذكر السيد حسن نصرالله في إحدى خطبه، لكن المقاومة الشرسة التي واجهها الصهاينة منذ لحظة وجودهم الأولى في لبنان جعلتهم يصرفون النظر عن هذه الفكرة.
لو استسلمت المقاومة اللبنانية لفكرة التخاذل «الواقعي»، لكانت إسرائيل في الجنوب إلى اليوم ولربما تمددت، ولكن واقع ما قبل عام ٢٠٠٠ لم يعد واقعاً بعد عام ٢٠٠٠، وما هو واقع في فلسطين اليوم لن يستمر واقعاً في المستقبل بفضل المقاومة المسلحة وبندقيتها.
لقد شهدنا منذ عام ٢٠٠٠ مروراً بكل الحروب الإسرائيلية في العقد الأخير في لبنان وفلسطين، تحولاً استراتيجياً يُظهر دون لبث فشلاً اسرائيلياً يزداد في كل مرة، ونجاحاً للمقاومة يؤكد صوابيتها وواقعيتها، مقابل خيارات الاستسلام الهزيلة تحت شعارات واقعية وإنسانية، تسعى لتجميل الهزيمة، بتنازلات قبيحة لا أفق ولا نهاية لها.
صحيفة الأخبار اللبنانية – صلاح الحيدر – كاتب سعودي