في مسرح العبث.. البنتاغون يطالب روسيا بالمزيد من الشفافية!
صحيفة البعث السورية-
سمر سامي السمارة:
ثمة تشابه بين مسرح اللامعقول، والمواقف الأمريكية والأوروبية، لكنها بعيدة كل البعد عن أن تكون مضحكة، بل توحي برؤية ضبابية تخفي نوايا خطيرة.
ففي الوقت الذي دعا فيه، وزير الدفاع الأمريكي خلال مؤتمر صحفي أجراه مؤخراً في مقرّ وزارة الدفاع، روسيا للتحلي بشفافية أكبر إزاء تحركاتها العسكرية بالقرب من حدودها مع أوكرانيا، وبعبارة أخرى، تبرير تحركاتها على الأراضي الروسية!، كانت القوات الأمريكية وقوات حلف شمال الأطلسي تصَعد بوقاحة وجودها الهجومي على حدود روسيا، وخاصة في منطقة البحر الأسود.
وقد نقلت وكالة “أسوشيتد برس” عن وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن أثناء المؤتمر الصحفي للبنتاغون قوله: “إن المسؤولين الأمريكيين غير متأكدين من سبب حشد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قوات عسكرية بالقرب من الحدود مع شرق أوكرانيا، لكنهم يعتبرونها مثالاً آخر على التحركات العسكرية المقلقة التي تتطلّب تفسيراً من موسكو. سنستمر في دعوة روسيا للتصرف بمسؤولية وأن تكون أكثر شفافية بشأن حشد القوات حول حدود أوكرانيا رغم أننا لسنا متأكدين بالضبط ماذا ينوي السيد بوتين فعله”.
يرى محللون، أن هذه الموهبة المريبة في التفكير المزدوج يتشاركها أعضاء آخرون في إدارة بايدن، فقد زعم كبير الدبلوماسيين الأمريكيين أنتوني بلينكين مؤخراً، أن روسيا كانت على وشك غزو أوكرانيا، لكنه في الوقت نفسه، اعترف بجهل مشابه بشأن ما “ينوي بوتين فعله”، الأمر الذي دعا مراقبين للتساؤل، كيف يمكن الانخراط في حوار هادف مع هؤلاء الأشخاص الذين من المفترض أن يكونوا قادة حكوميين، بينما الحوار معهم يشبه الدخول في حوار مع شخصيات مسرحية صموئيل بيكيت العبثية “في انتظار غودو”؟.
في المقابل، نفت روسيا مراراً وتكراراً أي ادعاءات تتعلق بتهديدها لجارتها أوكرانيا أو أي دولة أخرى بالغزو، كما ترفض موسكو أيضاً المعلومات “غير الموثوقة” التي روّجت لها إدارة بايدن ووسائل الإعلام الغربية، بشأن حشد القوات بالقرب من الحدود الأوكرانية على الجانب الغربي لروسيا.
لقد اعتمدت تقارير وسائل الإعلام الغربية -وهي تظهر مناورات عسكرية روسية- على بيانات كاذبة ومحرفة، وهي بطبيعة الحال مؤاتية للنشر التجاري المراوغ. وهذا الأمر يمثل قمة السخرية، لأنه عندما تتبنى شخصيات بارزة في الإدارة الأمريكية مزاعم خطيرة ضد روسيا معتمدة على مثل هذه المصادر المشكوك في دقتها، فإن هذا بحدّ ذاته يكشف عن الكثير من التدهور في المهنية الدبلوماسية والذكاء السياسي لواشنطن.
كما أن الحقيقة البارزة التي تمّ إغفالها في وسط هذه الجلبة التي تحدثها الإدارة الأمريكية، هي أن القوات والمعدات الروسية موجودة على الأراضي السيادية لروسيا، لذا فإن مواصلة المسؤولين الأمريكيين مطالبة روسيا بأن “توضح” وأن تكون “أكثر شفافية” بشأن دفاعاتها الوطنية هي ذروة العبثية، ويدلّ على الغطرسة المفرطة التي تشوه قدرة السياسيين الأمريكيين على التفكير بشكل معقول.
وثمة تشابه هنا مع اعتراضها مؤخراً على نجاح تجربة روسيا الصاروخية لتدمير قمر صناعي من الحقبة السوفيتية في الفضاء، حيث أدانت إدارة بايدن روسيا لقيامها بإنشاء “خردة فضائية” وتسليح الفضاء، بينما تجاهلت حقيقة أن الولايات المتحدة نفذت في السابق النوع نفسه من الضربات الصاروخية، ويمكن القول إنها كانت تحاول تسليح الفضاء منذ برنامج “حرب النجوم” الذي أطلقته إدارة ريغان في ثمانينيات القرن الماضي.
على أي حال، إن اتهامات الولايات المتحدة بالتعزيز العسكري الروسي على أراضيها تصبح أكثر سخافة عندما يفكر المرء في الزيادة الفعلية لقوات حلف شمال الأطلسي في أوكرانيا ومنطقة البحر الأسود مباشرة على عتبة روسيا الغربية. وهو الأمر الذي اعتبرته روسيا أنّ كلّ ما يجري في أوكرانيا يستهدف أمنها القومي، وترى أن خيار كييف بالاتجاه غرباً يهدف إلى إتمام إطباق حلف شمال الأطلسي والقوى المؤلفة له على حدودها الغربية والجنوبية على شكل “كمّاشة” تخنقها استراتيجياً، على قاعدة أن أغلب نشاط الدولة الروسية ووجودها البشري والحركي كدولة مركز في الجزء الغربي منها، أي في المناطق التي ستكون بين فكّي الكماشة، فيما لو أتمّ الحلف تطويق حدودها الغربية والجنوبية- الغربية.
وبالتالي، تعتبر موسكو أن الحلف لا يزال يشكّل مصدر الخطر المركزي عليها في منطقة أوراسيا، كما لا يزال يمثّل التهديد الأكبر لها كقوة عالمية تسعى لاستعادة مكانتها كقطب عالمي. كما لا تخلو مضامين تصريحات المسؤولين الروس وأدبيات الخارجية الروسية من التشديد الدائم على تحذير كييف وواشنطن تحديداً من الذهاب أبعد في استفزاز روسيا والإضرار بمصالحها.
في خطاب مهمّ ألقاه مؤخراً في وزارة الخارجية الروسية، أشار الرئيس بوتين مرة أخرى إلى فشل القوى الغربية باستمرار في تسجيل المخاوف التي تتعلق بالأمن القومي لموسكو بشأن توسع قوات حلف شمال الأطلسي على طول الحدود الروسية، ووصف عدم القدرة على إدراك ما يجب أن يكون شكوى واضحة بأنه “غريب للغاية”. كما أشار الكرملين إلى أن شنّ حلف شمال الأطلسي المزيد من الأعمال الهجومية وإبقاء القوات التابعة له بالقرب من حدود روسيا يهدف إلى إثارة الصراع، وأن روسيا تقاوم بشدة خطر المواجهة المسلحة، ومع ذلك تتواصل الاستفزازات.
منذ أسبوعين تقريباً، قام وليام بيرنز رئيس وكالة الاستخبارات المركزية، بزيارة رفيعة المستوى إلى موسكو، أجرى خلالها مناقشات مع شخصيات بارزة في الكرملين، بما في ذلك الرئيس بوتين، وحينها خرجت تحليلات تفيد أنه تمّ إخبار بيرنز بعبارات واضحة أن حشد القوات الأمريكية وحلف شمال الأطلسي بالقرب من الأراضي الروسية هو خط أحمر ينذر بردّ من روسيا ما دامت واشنطن وحلفاؤها في الناتو مستمرين في الالتفاف حول هذه الخطوط الحمراء.
لكن ما يبعث على مزيد من الحيرة، هو تحركات نظام كييف المدعوم من الولايات المتحدة لتصعيد الصراع في أوكرانيا ضد السكان من أصل روسي في منطقة دونباس، حيث يشنّ النظام القومي المتطرف حرباً خفية ضد دونباس منذ الانقلاب المدعوم من الولايات المتحدة في كييف في عام 2014. والأكثر من ذلك زادت الولايات المتحدة، وقوى حلف شمال الأطلسي الأخرى من توريدات الأسلحة والمدربين العسكريين للنظام، ما يشجعه على نبذ أي تسوية سلمية للصراع الذي دام ثماني سنوات.
في الشهر الماضي كان وزير الدفاع الأمريكي في كييف، حيث أيّد بتهور انضمام أوكرانيا إلى كتلة حلف الأطلسي على الرغم من التحذيرات العديدة من موسكو بأن مثل هذه الخطوة ستكون زعزعة غير مقبولة للاستقرار. لذلك فإن التدريبات الحربية المكثفة التي يقوم بها الناتو في منطقة البحر الأسود تقود نظام كييف حتماً إلى التنصل من الالتزامات الملزمة قانوناً لاتفاقية “مينسك” للسلام لعام 2015 التي توسطت فيها روسيا وألمانيا وفرنسا. لكن تُظهر الاتصالات الدبلوماسية الأخيرة الخاصة بوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بوضوح أن ألمانيا وفرنسا متواطئتان بتجاهل الانتهاك المنهجي لنظام كييف لاتفاق “مينسك”.
في هذا السياق، تتوخى روسيا الحذر -بشكل مبرر- بدخول المواجهة التي يمكن أن تفجر بؤر التوتر في أوكرانيا والبحر الأسود، لأنه النظر إلى التاريخ المأساوي للأمة الروسية في المعاناة من الغزوات العسكرية السابقة، فمن المفهوم تماماً أن تكون دفاعات البلاد في حالة تأهب قصوى. ورغم ذلك من المؤكد أن روسيا غبر مطالبة بالشرح وتبرير سبب وجود قواتها على أراضيها، بينما ينبغي محاسبة الولايات المتحدة وشركائها في حلف الأطلسي على عدوانهم الغاشم وأن يكفوا عن ادعاءاتهم الكاذبة.