في ظل تراجع الهيمنة الأمريكية… دخول التنين الصيني إلى جغرافية الشرق الأوسط المتأزمة
صحيفة الوفاق الإيرانية:
زيارة وزير الخارجية الصيني الدورية إلى غرب آسيا وشمال إفريقيا، حاملاً خططًا لحل الأزمات الرئيسة في المنطقة، تعني لقادة هذا البلد أهمية إيلاء المزيد من الاهتمام للعب الدور في تطورات الشرق الأوسط. ولا شك أن الصين هي أحد الرابحين الرئيسيين لتراجع الهيمنة الأمريكية طويلة الأمد على المنطقة وانسحابها التدريجي منها.
أصبحت الصين لاعباً يتزايد دوره في الشرق الأوسط خلال العقد الماضي. وفي حين أن هذا البلد لا يزال لاعبًا جديدًا نسبيًا، ويتوخى الحذر الشديد في مواجهة التحديات السياسية والأمنية المحلية، ولكن في أعقاب التراجع التدريجي للدور الأمريكي، زادت الصين بشكل كبير من بصمتها الاقتصادية والسياسية – وإلى حد ما – الأمنية في المنطقة على مدى العقد الماضي، وتعتبر أكبر شريك تجاري ومستثمر أجنبي في العديد من دول المنطقة.
کما أصبحت بكين، بوصفها أكبر مشتر للنفط في المنطقة، بهدوء القوة الدولية الوحيدة التي تتمتع بعلاقات سياسية وتجارية قوية مع کل الدول الرئيسية في المنطقة، ونظراً لوجودها الاقتصادي المتنامي في هيكل الاقتصاد الدولي، فمن المرجح أن يؤدي ذلك إلى مشاركة أوسع مع منطقة الشرق الأوسط.
أهمية غرب آسيا في مبادرة الحزام والطريق
مركزية التعاون الاقتصادي والتنموي في تفاعل الصين مع الشرق الأوسط، تنعكس في وثيقتين مهمتين للحكومة الصينية. وهما “مقالة السياسة العربية 2016″ و”آفاق وإجراءات 2015 في مجال المشاركة في إنشاء مشروع الحزام الاقتصادي لطريق الحرير، وطريق الحرير البحري للقرن الحادي والعشرين”.
يركز إطار التعاون المحدد في هذه الوثائق، على الطاقة والبنية التحتية والتجارة والاستثمار في الشرق الأوسط. لا يتحدث الصينيون عن التعاون الأمني في هذه الوثائق سوی القليل، وبناءً على وجهة نظر بكين التقليدية هذه، فإن الوجود في الشؤون الإقليمية لن يساعد في تحقيق أهدافها الجيوسياسية.
في الواقع، تحرص بكين على تجنب تكرار الأخطاء التي ارتكبتها التدخلات الغربية، وتقدِّم سرداً للتفاعل المحايد مع جميع البلدان – بما في ذلك البلدان التي تتعارض مع بعضها البعض – بناءً على اتفاقيات مفيدة للطرفين.
بعد إعلان إدارة أوباما عن سياسة “التحول شرقًا” التي بدأت في عام 2011، في عام 2012 اقترح وانغ جيسي، أبرز معلق للسياسة الخارجية في الصين، مفهوم “التحول غربًا”.
قال وانغ جيسي: “بينما تحول واشنطن انتباهها إلى آسيا، أصبحت العلاقات بين الولايات المتحدة والصين مثيرةً للجدل بشكل متزايد، ووصلت إلى الصفر.”
وتوقع وانغ أنه مع احتدام المنافسة في آسيا، ستكون آسيا الوسطى والشرق الأوسط أكثر استعدادًا للتعامل مع الصين. وجادل وانغ بأن الانسحاب الأمريكي الحتمي من الشرق الأوسط، كان معادلة “ربح- ربح” محتملة للصين ودول هذه المناطق.
نُشر مقال وانغ قبل المؤتمر الثامن عشر للحزب الشيوعي الصيني، عندما كان شي جين بينغ يستعد لتولي منصب الأمين العام للحزب، وقدَّم المنطق الاستراتيجي والشعارات والمفاهيم المالية التي تم إضفاء الطابع المؤسسي عليها فيما بعد في شكل مشروع “حزام واحد طريق واحد”.
هدف الصين هو كسب النفوذ دون التورط في نزاعات الشرق الأوسط. ويمكن ملاحظة ذلك في قائمة الدول التي وافقت على المشاركة في مشروع “حزام واحد طريق واحد”، والتزمت بطريقة ما بالتعاون معها، والتي تشمل مصر وإيران والعراق وقطر والسعودية وتركيا والإمارات.
وعلى الرغم من أن هذه الدول لديها خلافات وصراعات سياسية وجيوسياسية وأيديولوجية، إلا أنها جميعًا تريد علاقات أوثق مع الصين، وهذا بالتأكيد جرس إنذار لواشنطن.
في عام 2015، أصبحت الصين رسميًا أكبر مستورد للنفط الخام في العالم، وتستورد حوالي نصفه من الشرق الأوسط. من ناحية أخرى، باعتباره تقاطعًا مهمًا واستراتيجيًا لطرق التجارة والممرات البحرية التي تربط آسيا بأوروبا وأفريقيا، فإن الشرق الأوسط مهم لمستقبل مشروع “حزام واحد طريق واحد”.
المقاومة من حلفاء الصين الرئيسيين
لقد عزَّز النفوذ الاقتصادي الصيني المتنامي في المنطقة التعاون مع محور المقاومة، الذي لعب دورًا رئيسيًا في مواجهة التدخلات والسياسات الإمبريالية الأمريكية في المنطقة والعالم.
وتُظهر اتفاقية الشراكة الاستراتيجية بين إيران والصين، التي ترتبط بالاستثمار الصيني طويل الأجل في البنية التحتية الإيرانية، تحالف الصين العميق مع إيران.
وإضافة إلى الوضع الجيوسياسي الحساس والنفوذ الإقليمي للجمهورية الإسلامية ودورها في خلق الاستقرار في مواجهة الاضطرابات التي تسببها الولايات المتحدة وحلفاؤها، تفكر الصين في استقرار مصادر الطاقة الخاصة بها للمستقبل من خلال التحالف مع طهران؛ لأن الدول الخليجية لديها سياسة غير مستقلة إلى حد كبير، وقد تتعرض علاقات الطاقة بين هذه الدول وبكين لضغوط من الولايات المتحدة في المستقبل.
كانت العلاقات الصينية الإيرانية وديةً منذ عقود، لكنها نمت بسرعة خلال رئاسة دونالد ترامب. وعلى الرغم من العقوبات، قامت الصين بمشتريات كبيرة من الخام الإيراني، واتخذت موقفًا مؤيدًا لطهران في محادثات إحياء الاتفاق النووي. كما أجرى البلدان تدريبات بحرية مشتركة في الخليج الفارسي منذ العام الماضي، ما عزز التعاون العسكري بين البلدين.
من ناحية أخرى، أدت العلاقات الودية مع إيران إلى تعاون الصين مع الأطراف الإقليمية الأخرى لمحور المقاومة. في العراق، كتب وزير الكهرباء في أكتوبر 2019، أن “الصين هي خيارنا الرئيسي كشريك استراتيجي طويل الأمد”.
كما أطلقت الصين استثمارات عديدة في لبنان بطلب من حزب الله الصيف الماضي. من ناحية أخرى، فإن القرب من الحكومة السورية واضح تمامًا في تعاون بكين مع روسيا في مجلس الأمن الدولي. وفي اليمن، أقام الصينيون علاقات ودية مع أنصار الله رغم دعمهم لحكومة منصور هادي.
مبادرات الصين بشأن القضايا الإقليمية الرئيسة والتوقعات المستقبلية
لمزيد من المشاركة النشطة في المنطقة عقب تراجع الهيمنة الغربية، يتطلع الصينيون إلى لعب الدور في حل الأزمات الإقليمية الكبرى.
وفي هذا الصدد، كانت الأزمة في سوريا والصراع بين الفلسطينيين والکيان الصهيوني وقضية أفغانستان، في بؤرة اهتمام المسؤولين الصينيين في السنوات الأخيرة، كما دخلت بكين إلى حد ما في ملفات لبنان واليمن أيضًا.
وخلال زيارة وزير الخارجية الصيني وانغ يي الأخيرة لبعض دول المنطقة، وخاصةً سوريا، قدمت بكين حلاً من أربع نقاط لإنهاء الأزمة في سوريا وإعادة الاستقرار إلى البلاد.
يستند هذا الحل المكون من أربع خطوات إلى احترام سيادة الشعب السوري وسلامته الإقليمية واستقلاله، ويقترح رفع العقوبات والإسراع في إيصال المساعدات الدولية للإسراع بإعادة إعمار المناطق المنكوبة.
الصين التي اتخذت دائمًا مواقف حذرة خلال سنوات الأزمة السورية بشأن قربها من الحكومة أو المعارضة، بعد رؤية تسريع عملية حل الأزمة لمصلحة النظام القائم والتأييد الشعبي لاستمرار رئاسة بشار الأسد في الانتخابات الأخيرة، تظهر تصميماً أقوى على توسيع العلاقات مع دمشق.
کذلك، قدم وانغ يي اقتراحاً من أربع نقاط للسلام بين الفلسطينيين والکيان الصهيوني في 17 مايو من هذا العام.
تتضمن بنود هذه الخطة “إنهاء الأعمال العدائية من الجانبين” و”ضبط النفس الصهيوني”، و”ضرورة إرسال مساعدات إنسانية ورفع الحصار عن غزة”، وأخيراً “دعم دولي لحل الدولتين”، الذي يتضمن إقامة دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس الشرقية؛ وهو ما أيدته جامعة الدول العربية ويستند إلى خطة السلام العربية لعام 2002.
من الواضح أن خطة الصين تستند إلى انتقادات فلسطينية وإقليمية ودولية لإجراءات واشنطن خلال عهد ترامب لتدمير القضية الفلسطينية، لكي تجد موطئ قدم لها في هذا الصراع التاريخي المهم.
وفي حرب غزة الأخيرة، انتقدت الصين رد الولايات المتحدة على العنف، وبعد أن استخدمت الولايات المتحدة حق النقض ضد قرار لمجلس الأمن الدولي يدعو إلى وقف إطلاق النار، وکذلك موافقة واشنطن على بيع أسلحة بقيمة 735 مليون دولار للکيان الإسرائيلي وسط اعتداءات على مراکز مدنية في غزة، وصفت بکين هذه الخطوة بأنها “نكتة سياسية”.
كما عرضت بكين استضافة قمة لإحضار الجانبين إلى محادثات مباشرة، الأمر الذي دفع الجانب الفلسطيني إلى الدعوة إلى مشاركة صينية أكبر في التطورات الفلسطينية، وإلى قيام رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس لزيارة بكين في عامي 2013 و 2017.
وعلی الرغم من أنه في التقييم النهائي، تولي الصين اهتمامًا أكبر بالتفاعلات الاقتصادية مع الحكومات أكثر من أي شيء آخر، وبينما تبلغ العلاقات الصينية مع الكيان الصهيوني نحو 15 مليار دولار، وبكين حريصة على التعاون مع الصهاينة في البنية التحتية والتكنولوجيا العالية وخاصةً في القطاع العسكري، وموازين دعم بكين تميل لمصلحة تل أبيب بشکل أکثر، ولكن يجب الانتباه إلى أنه يجب أن يُنظر إلى دعم الصين للفلسطينيين في المقام الأول على أنه أداة للسياسة الخارجية، ووفقاً له فإن الحفاظ على التوازن بين إسرائيل والفلسطينيين سيزيد من صورة الصين كقوة عظمى متنامية تثق بها جميع الأطراف.
علی صعيد آخر، فإن قضية السلام والاستقرار في أفغانستان، التي تأثرت بشدة بالحرب الواسعة النطاق بين مسلحي طالبان وقوات الحكومة المركزية منذ انسحاب القوات الأجنبية من البلاد، وتحتاج إلى مبادرات محلية ودولية لمنع الحرب الأهلية واستعادة الهدوء والاستقرار، قضية مهمة أخرى تستجلب المزيد من الدور الصيني، على الرغم من مصالح بكين الكبيرة في مستقبل أفغانستان.
وفي هذا السياق، أعلن وزير الخارجية الصيني في الأسبوع الماضي سياسة بكين الشاملة بشأن التطورات في أفغانستان، والتي بموجبها “تتوقع بكين أن تنشئ أفغانستان إدارةً شاملةً وواسعةً للسلطة، وتتبع سياسةً مستقرةً تجاه المسلمين، وتحارب جميع أشكال الإرهاب والتطرف، وتتمسك في نهاية المطاف بعلاقات ودية مع جميع جيرانها”.
من المؤكد أن أحد الأهداف الأساسية للولايات المتحدة في الانسحاب السريع من أفغانستان، بعد الاتفاقات خلف الكواليس مع طالبان، هو ضرب مصالح خصومها، بما في ذلك الصين وروسيا وإيران، من خلال زعزعة استقرار أفغانستان وبالتالي آسيا الوسطى.
وهذا بدوره سيدفع بكين إلى لعب دور أكبر في إحباط الخطة الأمريكية لزعزعة الاستقرار. وفي هذا الصدد، قال الرئيس الصيني شي جين بينغ في اتصال مع أشرف غني في 17 يوليو: “نأمل في أن يضع الجانبان مصالح الشعب الأفغاني في مقدمة محادثات السلام، والتوصل إلى اتفاق سياسي من خلال المفاوضات في أسرع وقت ممكن. وستواصل الصين لعب دورها البناء في هذا المجال”.
في أعقاب تراجع الهيمنة الغربية، يتطلع الصينيون للعب دورهم في حل الأزمات الإقليمية الكبرى لمزيد من المشاركة النشطة في المنطقة.