في تركيا جنين أزمة
صحيفة الوطن السورية-
عبد المنعم علي عيسى:
كان وصول الإسلام السياسي، ممثلاً بحزب «العدالة والتنمية»، إلى سدة السلطة في تركيا العام 2002 يمثل، في شق منه، تعبيراً عن مناخ غربي داعم لذلك الوصول، حيث الفعل هنا كان يستند إلى رؤية مفادها أن ذلك الوصول سيكون أمراً يصب في خانة المصالح الغربية لجهة أنه يمثل سداً إسلامياً «معتدلاً» في مواجهة التيارات «الجهادية» المتطرفة التي لم يكن مضى على هزها للهيبة الأميركية في عقر دارها في 11 أيلول 2001 أكثر من عام ونيف، كان ذلك الدعم يمثل بشكل ما «مشروعية» خارجية للمشروع الإخواني، لكن «مشروعية» هذا الأخير الداخلية قامت ولا شك على محاولة قطف ثمار النجاحات الاقتصادية التي راكمتها الحكومات التركية السابقة منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي وصولاً إلى مطلع الألفية الثالثة، ومن المؤكد أن النجاح في عملية القطاف آنفة الذكر كان قد قاد نحو «بحبوحة» اقتصادية ما انفكت توسع هوامشها حتى غدت لاصقاً جامعاً للعديد من الشرائح المجتمعية بشكل أمّن استقراراً للنظام ساعد في استمرار سلطته ما يقرب من عقدين من الزمن، كما ساعد في ذلك أيضاً هامش المناورة الذي اتبعه النظام في اللعب على التناقضات القائمة فيما بين موسكو وواشنطن، حيث التكتيك المساعد هنا كان ينطلق من حالة الاحتياج التي يبديها الاثنان تجاه الدور التركي، وعليه فقد كانت المساحات التي تفردها تلك التناقضات تفرض نوعاً من اتساع المساحة لهذا الأخير.
كشفت الأزمة الاقتصادية البادئة في تركيا في غضون الشهرين الأخيرين من العام المنصرم، والتي تمظهرت بشكل أساسي في تذبذب سعر صرف الليرة بهوامش واسعة تدعو للقلق، عن أن الرهان على قوة الاقتصاد لا يعدو أن يكون سراباً طالما أن أعاصير الخارج قادرة على أن تضرب أشرعة السفينة فتتقاذفها وفق مسارات خارجة عن السيطرة، والراجح هو أن التحولات التي سارت عليها تركيا قبل نحو أربعة أعوام كانت من النوع الممزق لتلك الأشرعة ما يجعلها أكثر عرضة لتقاذف الأعاصير التي كان لا بد لها أن تهب من كل حدب وصوب قياساً إلى سياسات «ربان» ما انفك يبرز نزعة نحو تخطي ما حققه مصطفى كمال أتاتورك الذي يغوص في الذات التركية بصفة «الربان» الأكبر، ومن المؤكد أن شهر حزيران 2018 التركي كان مفصلياً في تلك التحولات، ففيه جرى تنصيب أردوغان رئيساً للجمهورية بصلاحيات واسعة لم تعرفها الجمهورية على امتداد قرن كامل، ثم راحت الخصخصة تمضي لتشمل كل مؤسسات القطاع العام والتي ألحقت تلك العملية بخزينة الدولة أضراراً كبرى بفعل عاملين أساسيين، الأول: فقدان جهاز الدولة السيطرة على مقدرات البلاد ما يحقق الأمن الاقتصادي لشرائح واسعة من الأتراك، والثاني: عمليات الفساد التي رافقت تلك العملية، والتي كانت على نحو منظم وواسع وصل في حدوده رأس هرم السلطة، ومن حيث النتيجة كان حجم الدين الخارجي التركي يسجل في الربع الأخير من العام المنصرم رقم 460 مليار دولار، على حين سجل حجم الدين الداخلي رقماً يقارب هذا الرقم الأخير، وكلا المؤشرين يكشفان «كذب» شعارات التنمية التي ابتنى «حزب العدالة والتنمية» مشروعية حكمه عليها، ويكشفان أيضاً هشاشة الاقتصاد التركي الذي تقوم دعامته الأولى على ما تستطيع السياسات جنيه في سياق اللعب على التناقضات آنفة الذكر، وبشكل ما يمكن القول إن الاهتزاز الاقتصادي الذي مرت به تركيا في غضون المرحلة الماضية كان أقرب لأن يكون صندوق رسائل خارجياً يريد القول بوجوب أن تعيد أنقرة سياساتها من جديد إذا ما أرادت الأخيرة استعادة استقرارها الاقتصادي.
تقول الخريطة السياسية التركية الراهنة إن هناك أربعة أحزاب رئيسية تتصدر المشهد، فحزب «العدالة والتنمية» الذي يمثل مشروعاً إسلامياً ممزوجاً بنزعة قومية يحظى بتمثيل 42 بالمئة من البرلمان التركي، على حين يحظى حليفه حزب «الحركة القومية» الذي يمثل نزعة قومية طورانية بتمثيل 11 بالمئة، أما حزب «الشعب الجمهوري» المعارض الذي يمثل القومية التركية بطبعتها الأتاتوركية فيمثل 22 بالمئة، ليحظى حزب «الشعوب الديمقراطي» ذو الرؤية التي تقول بتركيا متعددة القوميات والشعوب بتمثيل 11 بالمئة.
هذه الخريطة بتنوعاتها الإيديولوجية وتضارب رؤاها في العديد من المفاصل المحورية في صياغة الكيان الراهن والمستقبلي، تشير إلى معطيات مهمة سيكون لها تأثيرها في الأزمة الاقتصادية الراهنة التي لن تتطور إلا في حال وجود قرار خارجي حاسم بضرورة تطويرها، أولى هذه المعطيات هي تراجع إيمان الشارع التركي بالمشروع الأتاتوركي، ومعه تراجع الثقل الذي كان يمثله الجيش كـ«حارس للعلمانية» الذي كان يتدخل في الحالات التي يرى فيها أن مسار هذه الأخيرة بات مهدداً، والفعل، أي تراجع ثقل المؤسسة العسكرية، كان قد تعمق ما بعد الضربات التي تلقاها في أعقاب محاولة الانقلاب الفاشلة على أردوغان تموز من العام 2016، وثانيها أن حالة التضاد في الرؤى تكاد تكون راجحة تماماً على حالة التلاقي، مع الإشارة إلى أن هوامش هذه الحالة الأخيرة ستصبح قابلة للانعدام إذا ما اشتد أوار الأزمة، أما ثالثها، وهو الأهم، فإن الخريطة السابقة تظهر الأتراك على أنهم مجموعات متضادة حتى داخل الإثنية التركية الواحدة ناهيك عن تضاد تلك المجموعات مع الإثنيات الأخرى التي تمثل «الكردية» حالتها الأهم.
هذه التضادات كانت تعيش حالة طمر قسري بفعل الانتعاش الاقتصادي الذي تحقق بفعل عوامل عدة بعضها داخلي لكن الأهم منها كان خارجياً، فازدهار «ظاهرة» أردوغان كانت تمثل مطلباً غربياً متعدد الغايات والمرامي، وبمعنى آخر كان «اللاصق» الاقتصادي قادراً في غضون تلك المرحلة على تغييب حالة التناقض القائمة على ضفاف النسيج المجتمعي – الثقافي التركي، والآن يمكن القول إن ذلك «اللاصق» بات مهدداً، في إصابته بالتلف التام، التي نؤكد أنه لن يصلها إلا بقرار خارجي، قد يدفع إلى مواجهة إسلامية – علمانية سيكون الأكراد الطرف الأكثر استفادة منها للقول إن نموذج الدولة القومية الصرفة، وإن تلونت بصبغات معينة، هو نموذج فاشل.