في السودان من جديد.. خشية من تكرار سيناريو 1989
صحيفة الوطن السورية-
عبد المنعم علي عيسى:
يروي العضو القيادي بالحزب الشيوعي السوداني، التيجاني الطيب، أن القيادي بالحزب الاتحادي الديمقراطي، الحبيس بسجن «كوبر» عثمان عمر، كان قد تفاجأ يوم الـ 30 من حزيران 1989 عندما وجد أن حسن الترابي «نزيلاً» في السجن إلى جانبه، ثم دفعته المفاجأة لأن يصيح بصوت مرتفع «هذه أول مرة في التاريخ يعتقل فيها قائد الانقلاب الناجح مع المعتقلين الآخرين»، كانت تلك إشارة من عثمان عمر لكونه يدرك حقيقة ما جرى صبيحة هذا التاريخ الأخير، ويدرك أيضاً أن «الضرورات» هي التي دفعت بـ«قائد الانقلاب»، أي حسن الترابي، لأن يصبح «نزيل» السجن بإرادته بعد أن اطمأن إلى إرسال عمر البشير إلى القصر.
كان الترابي، زعيم «الجبهة القومية الإسلامية» إحدى أفرع تنظيم «الإخوان المسلمين»، مدركاً لحقيقة أن وزن تيار «الإسلام السياسي» الذي يتزعم أقوى أجنحته لا يتيح «المجاهرة» بطبيعة الانقلاب، ولذا فقد قرر الابتعاد عن الواجهة وفي الآن ذاته العمل على تطوير قدرات ذلك التيار وتوسعة قاعدته الشعبية مستنداً في ذلك إلى «عصا» السلطة التي أضحت ملك يمينه منذ أن أضحى اللواء عمر البشير على رأس هرم السلطة بالخرطوم، الأمر الذي يمكن تلمسه في تأسيسه لـ«المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي» بعد عامين من نجاح الانقلاب، والذي أراد من خلاله القيام بدور يتعدى حدود السودان ليصبح إقليمياً إن لم يكن عالمياً، لكنها، أي العصا، سرعان ما راحت تتأرجح على وقع الصدام الحاصل ما بين البشير والترابي على خلفية تباين الرؤى والمشاريع، والشاهد هو أن الأخير غالباً ما كان يحقق المكاسب في الجولات كافة قبيل أن يخسر بـ«الضربة القاضية» عام 2001 عندما ضاق صدر البشير به، وبمشاريعه التي كانت فوق قدرات السودان، ليعمد إلى زجه بالسجن بشكل حقيقي هذه المرة، وما نريد قوله من هذه السردية هو أن الفترة المديدة لحكم البشير 1989 – 2019 والتي كانت حافلة بالصراعات داخل «التيار الإسلامي» نفسه قد خلقت قاعدة راسخة لهذا الأخير في النسيج المجتمعي السوداني، بل وحققت حضوراً وازناً داخل المؤسسة العسكرية لم يستطع انقلاب الـ 11 من نيسان 2019 أن يضعفه كما يبدو.
نشأت قوات «الدعم السريع» من رحم قوات «الجنجويد» التي انخرطت في النزاع الدائر بدارفور حيث وجهت لها اتهامات، أغلبها أميركية، بارتكاب مجازر عدة، وفي العام 2013 جرى الإعلان رسميا عن تأسيس تلك القوات لكن تشريع وجودها من قبل البرلمان السوداني كان قد تأخر حتى العام 2017، ولربما جاء هذا الفعل الأخير نتيجة لاستشراف نظام البشير ملامح المرحلة المقبلة التي كانت تنذر بانفجارات شتى قياساً لمؤشرات راحت تتمظهر بمظاهر عدة، وعندما اندلعت التظاهرات في الخرطوم، وفي العديد من المدن، شهر كانون الأول 2018 استحضر البشير قوات «الدعم السريع»، تحت قيادة محمد حمدان دقلو المعروف بـ«حميدتي»، إلى الخرطوم لمواجهة تلك التظاهرات ومع طول المدة التي استغرقتها هذي الأخيرة راحت خيارات دقلو تتقلب ليقرر من بعدها التراصف نهائياً مع قيادة الجيش، الأمر الذي أتاح عزل البشير بطريقة هادئة، ففي صبيحة الـ 11 من نيسان 2019 وبينما كان البشير يصلي الفجر في مسجد القصر الرئاسي قام «حميدتي» على رأس مجموعة من قواته باعتقال البشير معلناً بذلك نهاية نظامه الذي كان على مشارف أن يتم عامه الثلاثين في الحكم.
في الـ 17 من آب 2019 تم التوقيع على اتفاق ما بين العسكر، الذين أضحوا برأسين بعد تعيين حميدتي نائباً لقائد الجيش ونائباً لرئيس «مجلس السيادة»، وبين المدنيين الذين تراصفوا تحت إعلان «قوى الحرية والتغيير»، وفي الخلافات التي نشأت ما بين الطرفين حول التطبيق ومواقيته، تراصف «الرأسان» ضد حكومة عبد اللـه حمدوك، ثم تراصفا في الانقلاب على المدنيين يوم الـ 25 من تشرين الثاني 2021، لكنهما اكتشفا صعوبة الانفراد بالحكم بعيداً عن هؤلاء ما اقتضى توقيع «الاتفاق الإطاري» في الـ 5 من كانون الأول 2022 الذي وضع يوم 11 نيسان المنصرم، موعداً نهائياً لتسليم السلطة، وعندما جرى التأجيل من قبل البرهان حاولت «قوى المدنيين» استمالة حميدتي فكان انفجار 15 نيسان.
بعد مرور ثلاثة أسابيع على نشوب الصراع تلوح في الأفق مؤشرات عدة على أن الأخير لن يحسم، بالقوة أو التفاوض، في وقت قريب، ولعل أهمها أن موازين القوى التي يبدو الطرفان من خلالها عاجزين عن الحسم العسكري، ومنها أن الصراع في السودان لن يشكل أولوية بالنسبة للدول الكبرى لكي تضغط على طرفيه فيشكل ذلك مدخلاً للتسوية، ثم إن العديد من التقارير تقول أن «مجموعات» عدة راحت تضخ السلاح في الشارع ما يعني أن السيناريوهات الأسوأ لم تبدأ بعد، لكن الأسبوع الماضي حمل مؤشراً هاماً وهو يشير إلى إمكان تكرار سيناريو العام 1989 من جديد، فقد أطل أحمد هارون، القيادي في «حزب المؤتمر الوطني» المنحل في تسجيل صوتي بعد هروبه من سجن «كوبر» الذي شهد حالة هروب جماعية للعديد من قيادات ذلك الحزب، وفيه دعا إلى «مساندة الجيش»، مضيفاً: إن «الواجب الآن هو المحافظة على الوطن، وذلك يتقدم على أي مشروع حزبي أو سياسي»، وهذه الصورة تريد الإيحاء بأن «الإسلاميين» جزء أساسي من المشهد، ولربما الرؤيا تقول لدى هؤلاء إن الصراع، إذا ما طال أمده، فلسوف يفضي إلى تغييرات كبيرة في توازنات الداخل حتى إذا تبلورت المواقف الإقليمية والدولية تجاهها كان من الممكن الإمساك من جديد بدفة الحكم التي انفلتت من الأيدي قبيل نحو أربعة أعوام.