في الذكرى السادسة لـ”ولاية العهد”… السعودية تتغير
موقع قناة الميادين-
عريب الرنتاوي:
“السعودية العظمى” هو التعبير البلاغي عن الكيفية التي ينظر من خلالها ولي العهد إلى موقع المملكة ودورها في العشرية المقبلة، وهي تشرح ما كان يتسرب إلينا من أخبار وتقارير عن الطريقة التي تنظر فيها المملكة إلى نفسها.
فيض المقالات والتغطيات المصاحبة لاحتفالات المملكة العربية السعودية بالذكرى السادسة لـ”ولاية العهد” يوفر فرصة للمراقبين والمهتمين في التعرّف إلى “التفكير السياسي الجديد” لرجل المملكة الأقوى، الأمير محمد بن سلمان، لا لأن هذا الفيض المتدفق يكاد لا ينقطع فحسب، بل لكونه يصدر عن منبع واحد، ويخضع للتوجيهات ذاتها.
كثرة المقالات وتعدُّدها لا يُخفيان حقيقة، مفادها أنها تكاد تكون صورة عن بعضها البعض، وتلكم مسألة لها وجهان: الأول سلبي، وهو انكماش حدود حرية الرأي والتفكير، والثاني إيجابي، ومفاده أننا بتنا نعرف أن ما ورد فيها من قراءات وما استنبطته من أولويات وتوجهات إنما يعكس آراء رأس الدولة وتصوراته، وليس كاتبيها فحسب.
سنُنحّي جانباً عبارات التفخيم والتبجيل والتعظيم، مما هو مألوف في مثل هذه المناسبات الاحتفالية، لنتناول، في قراءة سريعة، ما نعدّه “مفاتيح” في فهم السياسة السعودية الجديدة، في بُعدَيها الداخلي والخارجي، وسنختار ما تكرر منها في معظم، إن لم نقل جميع المقالات والتغطيات، عبر صياغات تتماثل إلى حد التطابق أحياناً. فما الذي يمكن أن تخرج به قراءة كهذه؟
“السعودية العظمى” و”الاستقلال الكلي للقرار”، هما الجملتان الأكثر شيوعاً في الخطاب الاحتفالي السعودي، عند وصف سياسة المملكة الخارجية. أمّا حين يتّصل الأمر بالسياسات الداخلية، فالتركيز ينصبّ على “ثورة الداخل” و”بناء الهوية الوطنية” و”محاربة الفساد” و”تنويع الاقتصاد والموارد” و”الفكاك من إدمان النفط” و”التنمية الخضراء”.
“السعودية العظمى” هو التعبير البلاغي عن الكيفية التي ينظر من خلالها ولي العهد إلى موقع المملكة ودورها في العشرية المقبلة، وهو يشرح ما كان يتسرب إلينا من أخبار وتقارير عن الطريقة التي تنظر فيها المملكة إلى نفسها، لا بصفتها قوة إقليمية وازنة، إلى جانب قوى أخرى متخالفة ومتحالفة في الإقليم، بل كقوة دولية، لها كلمتها في تقرير مصائر الاقتصاد العالمي وسوق الطاقة، وكقوة مرجّحة في التوازنات الدقيقة للنظام العالمي الجديد، أو الآخذ في التشكل.
أهمية إدراك هذه المقاربة السعودية الجديدة تنبع من قدرتها على تفسير مقاربة أخرى للمملكة، تتعلّق بسعيها المتجدد لتسنم زعامة العالم العربي. فالرياض، في كل ما تقول وتفعل، تنطلق من هذه القاعدة، فلا مصر، في أزماتها الداخلية المتلاحقة، وانكماش دورها الإقليمي الملحوظ، في موقع “الندّ المنافس” لها، ولا سوريا والعراق، بعد أعوام النزف وحروب الداخل والخارج، قادران على القيام بأدوارهما التقليدية التاريخية. وفي داخل دول المنظومة الخليجية، يجري العمل حثيثاً على احتواء كل من قطر والإمارات، بعد أعوام “التفلّت” من قبضة الدور السعودي المهيمن، بدا معها كأن “القاطرة الخليجية” باتت تُقاد بثلاثة رؤوس، وهي التي انطلقت قبل أزيد من أربعة عقود، برأس سعودي واحد.
يفسّر ذلك، من ضمن ما يفسر، كيف انتقلت الرياض من موقع المناكف و”المفرمل” لجهود عودة العرب إلى سوريا وإعادتها إلى جامعتهم، إلى موقع التصدي لهذه المهمة، والساعي لتذليل العقبات في طريق إنجازها.
في هذا السياق، يحضر العراق اجتماع جدة التشاوري الأخير، ويُغَيّب المغرب المعترض على عودة سوريا، نتيجة أسباب، بعضها يتعلق باسترضاء واشنطن، وأخرى تتصل بالرغبة في معاقبة سوريا، بسبب موقفها من البوليساريو، وعلاقاتها الحميمة بالجارة اللدودة: الجزائر.
التطور المفاجئ في علاقات الرياض بحركة حماس، وعودتها الحذرة إلى فتح ملف المصالحة الفلسطينية من جديد، يَشِيان بأن الرياض لا تعترف بوكالة حصرية لأي طرف أو عاصمة أخرى في التعاطي مع الملف الفلسطيني، وأنها ترى نفسها الأقدر على مخاطبة الجميع، في أرفع المستويات. وهي إذ تلج عتبات بابٍ كهذا، فهي تتحضر – كما تقول مصادرنا – بالتنسيق مع الاتحاد الأوروبي، لإحياء مبادرة قمة بيروت، والأرجح في سياق سعودي اعتراضي مع المسار الإبراهيمي.
الرياض تدرك مجدداً، على ما يبدو، أن أحداً لن يتزعم العالم العربي، ما لم يُوْلِ اهتماماً خاصاً بالقضية الفلسطينية، من مختلف جوانبها، فهل ثمة عودة عن انكفاء طال واستطال عن هذا الملف؟
اليمن ساحة أخرى، تتجلى فيها رغبة المملكة في الظهور في مظهر “الشقيق الأكبر”. فعلى الرغم من سعيها الحثيث لإغلاق هذا الملف، والخروج من مستنقع حرب الأعوام الثمانية العجاف، فإنها تُصر، مع ذلك، على وضع توقيعها على الاتفاق مع أنصار الله، بصفتها “وسيطاً” في الصراع، وليس طرفاً أساسياً فيه. وهو أمر رفضته صنعاء، مُحِقّةً، على الرغم من إدراكها أن موقف المفاوض السعودي إنما يستهدف حفظ ماء الوجه، وينبع من رغبة الرياض في “التعالي” فوق صراعات “الإخوة الأعداء”، انسجاماً مع نظرتها الجديدة إلى نفسها ومكانتها ودورها في قيادة العالم العربي.
وفي ظني أن هذه النظرة ستظل تحكم سلوك المملكة في عدد من دول الأزمات المفتوحة في المنطقة، ورأينا تجلياته في العراق، عبر الانفتاح على مختلف الأفرقاء، وفي السودان، من خلال مسارعة وزير خارجيتها إلى الاتصال بالجنرالين المتحاربين، وليس مستبعَداً أن يمتد الأمر إلى لبنان، كما بلغ فلسطين، وأن نرى سلوكاً سعودياً مغايراً في التعامل مع ملفات الرئاسة والحكومة والفراغ والضائقتين الاقتصادية والمالية.
أمّا المفتاح الثاني في فهم التحولات في السياسة السعودية، الخارجية تحديداً، وهي موضوع هذه المقالة، فيتعلّق بـ”الاستقلال الكلي للقرار”، وهي العبارة التي تكررت حرفياً في عدد من المقالات. والمثال الأبرز عليه، كما أوردته صحف المملكة وكتّابها، إنما يتجلّى في “القرار التاريخي – الشجاع” والقاضي بالانفتاح على إيران، بوساطة صينية هذه المرة، على رغم الضغوط والتهديدات الظاهرة والمبطَّنة، على حد وصف معلقين سعوديين، وما استحدثه هذا التقارب بين طهران والرياض من مقاربات جديدة حيال اليمن وسوريا، وربما فلسطين أيضاً، وهو أمر لافت للغاية، يشي بأن قرار ولي العهد فتح صفحة جديدة مع إيران، لا يندرج في باب “المناكفة” لواشنطن وللمقايضة معها، وليس أمراً تكتيكياً يُراد به “تقطيع الوقت” في انتظار مجيء إدارة أميركية جديدة، كما تصورت بعض الأوساط السياسية والإعلامية، وإنما هو تعبير عن وجهة أساسية جديدة في السياسة الخارجية السعودية.
والحقيقة أن المتتبع للسياسة السعودية في العامين الفائتين، لا بدّ من أنه رأى قدراً غير مسبوق من الاستقلالية في القرار عن الولايات المتحدة. وتجلّى ذلك في التزام الرياض قرارات “أوبك +” على الرغم من الحنق الأميركي، وموقفها “المحايد” بشأن الأزمة الأوكرانية على رغم الضغوط الأميركية – الأوروبية، ناهيك بالانفتاح السعودي المتسارع على الصين، في ميادين تتخطى المال والأعمال والطاقة، إلى السياسة والدبلوماسية والأمن والدفاع.
خلاصة القول، مفادها أن المملكة تتغير، داخلياً وخارجياً، وأنها تسعى لإرساء قواعد جديدة للتعامل مع شركائها وحلفائها وخصومها، على حدّ سواء، لكن قد يبدو من السابق لأوانه معرفة المدى الذي ستبلغه التغييرات التي تضرب السعودية اليوم، بقوة، ومدى قدرتها على تحمّل ردود الأفعال على سياساتها الجديدة ومواجهتها، وما إذا كانت دول الجوار العربي، القريب والبعيد، سوف تسلّم بانعقاد زمام القيادة لها في المدى المنظور.