في الخامس والعشرين من أيار.. وُلٍدْتُ
صحيفة السفير اللبنانية ـ
نصري الصايغ:
قبل الخامس والعشرين من أيار، كنت أهجس بالتحرير ولا أصدّقه. شيء مزمن في داخلي يشكك في بلوغ النهاية، نهاية الاحتلال، فأنا من جيل الهزائم. بصماتها في روحي. جراحها في قلب الدماغ. تعطب فيه ضرورة التفكير بالإنجاز.
كسواي، ما كنت مصدّقاً ما أراه. كتاباتي ومقالاتي في «السفير» زمنذاك، حمّلتها شحنة غير صادقة من التفاؤل. كتبت عن حتمية الانتصار، وكنت ألوم نفسي على المبالغة، وأعلّل حماستي بحجج كاذبة.
كسواي، جيل تربّى على مبايعة «النكبة». أصلاً، لم نتجرأ على الحلم…
يوم الخامس من حزيران 1967، تركنا جامعاتنا لنلتحق… وما كدنا نجد لباساً كاكياً، على الأقل، حتى خرّت ساجدة ثلاثة جيوش عربية. منذ تلك «النكبة الكبرى» بدأنا نداوي هزائمنا بالعقاقير.
كسواي، جيل اعتنق مبدأ البندقية طريق التحرير. رفعنا كلاماً مناسباً: «ما أُخذ بالقوة يُسترد بالقوة». قوة الشعار ليست بحجم الإرادة. ولما أطلّ فجر الكفاح المسلح الفلسطيني، بعد الخامس المشؤوم، نُحر في «أيلول الأسود» في الأردن.
كسواي: جيل يؤمن ثم يكفر. القضية مبعث الإيمان، والمسيرة تستولد الكفر. انتهت جولات الكفاح الفلسطيني اللبناني المشترك، باجتياح لبنان وحصار بيروت وإخراج المقاومة وتنفيذ مجزرة صبرا وشاتيلا، ومطاردة القوى الوطنية…
فأيّ جيل نحن؟ لقد أناختنا الهزائم. مَن ظلّ منا سليم النية، لم يكن سليم التوقع. مَن ظل على إيمانه، ساورته شكوك الكفر بكل شيء… إلا القليل القليل.
وكانت بيروت القتيل، ولم ترفع الرايات البيضاء. طردت الاحتلال في خلال أيام. أسقطت رأس حربة الاحتلال بُعيد انتخابه، وبدأ عصر جديد، هو عصر المقاومة اللبنانية ضد الاحتلال. وبرغم الانتصارات التي تحققت في الجبل والإقليم وصيدا والبقاع الغربي وصور وجزين… ظل الأمل كسيراً، يسير جنباً إلى جنب مع العجز الذي يراود أرواحنا.
وكان ما كان. ملحمة ومنازلة يومية توّجتها «المقاومة الإسلامية»، بعد انكفاء أو تعب قوى المقاومة الحزبية والشعبية والعقائدية. وتوّج هذا النضال، بوقائع مالت فيها كفة التحرير على ثقل الاحتلال… ومع ذلك، وبرغم مسيرة الانتصارات السابقة، ظلت الشكوك تراودنا، انطلاقاً من: «هذه إسرائيل، فمَن يهزمها؟».
ولقد هزمناها.
أذكر أنني كنت في جريدة «السفير»، وكانت بوادر الانسحاب قد لاحت، بعد إخلاء مواقع كان جيش الدفاع الإسرائيلي يقيم فيها قواعده وقواته. استعجلنا الاتصال بالمراسلين لإيفادهم إلى هناك، وبالمراسلين المقيمين داخل الشريط. وكان لدينا تخوّف من حدوث مذابح، إذا حصل التحرير.
كم كنا بسطاء! سبقنا التحرير، قبل أن نعقد اجتماعاً مع المراسلين. سبقنا النقاء الثوري إلى هناك، فكان التحرير ناصعاً وإنسانياً وفذاً.
وكان يوم آخر. بل، وكان عصر آخر.
ارتاحت روحي، وأحسستُ بجسدي خفيفاً. شعرت أنني لا أمشي على قدميّ. أنا، لشدة فرحي، ولبالغ النشوة التي اجتاحتني، حسبت أنني أسير على الهواء، قدماي لا تلتصقان بالأرض. التحرير، صنع لي معجزة، تشبه معجزة المسيح عندما مشى على وجه الغمر في بحيرة طبريا… أشهد أني كنت كالأغنية، أطير بأجنحة الانتصار… كانت روحي ساكنة الصحراء العربية الذليلة، وها هي تسكر بالانتصار، وتترنّح وترندح وتغني وتنطلق.
أذكر أن حالتي لم تكن متزنة أبداً. خبل من الفرح السماوي. دعتني شاشة «المستقبل» في اليوم التالي لأكون واحداً من ضيوفها. الهواء مفتوح للضيوف. حضرت. كان لكل واحد منا، نحن المدعوين، نصف ساعة فقط. انتظرت دوري: نصف ساعة أولى، نصف ساعة ثانية، نصف ساعة ثالثة، ومرّت ساعتان قبل أن يخرج الضيف الأول. حصلت مناقشة بينه وبين المذيعة. الوزير ميشال إده لا تكفيه نصف ساعة. ساومتْه، قبِل بساعة، كآخر سعر. ولكنه استفرس بالكلام واستفاض واستطال حواره ساعتين. الوزير إده، إذا كان يتحدّث عن أمر بسيط يحتاج إلى أوقات إضافية. فكيف إذا كان الموضوع، هو حول الانتصار على إسرائيل.
دخلت الاستديو، والوزير فضل شلق ينتظر مثلي، من دون أي تذمر، ضحك كثيراً لرواية الوزير إده وطالب بنصف الوقت. المناسبة تستحق.
في فترة الاستراحة القصيرة، مشاهد من الجنوب على خلفية موسيقى لمارسيل خليفة، وفيها شجى وحزن. فاعترضت، طالباً كأني مدير الحلقة، بموسيقى الفرح. هذه أغانٍ لزمن مضى. أغنيات للنكبة. موسيقى للأحزان. هذا يوم وُلد فيه فرح عربي، أعطونا زكي ناصيف.
لم أجب عن السؤال الأول. حتى أني لم أسمعه. أخذني الطيش إلى ملعبي. وكما فعل الوزير إده فعلت. هو حقق فترة قياسية، وأنا طالبت بإحداث انقلاب موسيقي. لست مستعداً للحديث عن الانتصار في ظل موسيقى تبكي، وكأننا في جنازة «النكبة»، أو مأتم «النكسة»… لا أتذكر ما قلته في تلك الحلقة. إنما أتذكر أنني لم أجب عن أسئلتها السياسية. تدفقت كلاماً لا منطق فيه. شيء من الشعر. كلام يسكرني، نابع من فوران في المشاعر. كنت كطفل وجد أمه بعد طول ضياع، كلاعب كرة قدم أصاب الهدف بعد خسران، كمن يفوز بعد خسائر.
لم أكن نصري الصايغ الذي كنته. أظن أنني وُلدت مرة ثانية في الخامس والعشرين من أيار العام 2000. وعمري الآن، أربعة عشر عاماً فقط. وحيويتي مستمدة من معين ذلك اليوم الذي لا ينضب.
خرجت وأنا سكران من «الاستديو» واندفعت مصافحاً ومقبّلاً ومهنئاً المنتظرين دورهم للدخول. لم أكن أعرف أكثرهم. تقبّلوا مني التهاني، كأننا في عرس. لم أكن واحداً في فرحي. يا الله كم كان عذابنا مديداً وقاهراً وساحقاً. قرن من العذابات والقهر والظلم والضياع. قرن من الخسران، جعل أرواحنا تصطك يأساً.
ولما بلغت الشارع، رأيت البحر أزرق والسماء زرقاء وبيروت «زهرة المدائن». اندفعت سيراً على قدميّ، أطوف الشوارع، وكنت أمشي على الهواء.
هذا يوم ولادتي. وكان يوم ولادة عصراً جديداً. انتميت إليه. عصر نهاية الهزائم وعصر بدء الانتصارات، وما زلت على هذا الإيمان، يحدوني أمل بأن أزور القدس محررة، ولو بعد مماتي.
ليس الأنبياء وحدهم يصنعون المعجزات. المقاومة، صنعت معجزة التحرير… وبرغم المخاض العسير الذي تعيشه الأمة، في «ذمة العنف الطوائفي والأقوامي والاستبدادي»، فإن المقاومة لا تزال قداسنا اليومي.
ما لم نكن نصدقه، حصل. ما كنا لا نجرؤ على الحلم به تحقق. لقد تحرّر لبنان، باستثناء القليل العزيز. وما نتوقعه نؤمن أنه سيُنجز. ألم يعدنا السيّد بما بعد بعد حيفا.
هو وعد صادق مؤجّل.
nsayegh@assafir.com