فوز إردوغان: نجاح استراتيجية “التحوّط” الاستراتيجي
موقع قناة الميادين-
ليلى نقولا:
دفعت استراتيجية التحوّط التركية ضد التهديد الأميركي (الحليف في حلف الناتو) إلى تقارب مع روسيا تجلى في تدشين أنبوب “السيل التركي”، والسير بمسار أستانة – سوتشي للحل في سوريا، ومؤخراً قيام كلّ من إيران وروسيا برعاية مصالحة بين الأتراك والسوريين.
أعلن الرئيس التركي رجب طيب إردوغان فوزه بجولة الإعادة في انتخابات الرئاسة التركية على منافسه كمال كليجدار أوغلو، وتوجه بالشكر إلى الشعب التركي، خلال المؤتمر الشعبي الذي عقده في مدينة إسطنبول، على تجديد الثقة به وتحميله المسؤولية لفترة رئاسية جديدة.
داخلياً، وعلى الرغم من أن المعارضة استطاعت أن تحقق إنجازاً كبيراً لتقارب النتائج بين إردوغان ومنافسه، فإنَّ فوز إردوغان بفترة رئاسية ثانية يعني أنَّ حزب العدالة والتنمية ما زال يحظى بشعبية واسعة داخل المجتمع التركي، رغم كل المصاعب الاقتصادية وتأثير الزلزال وانهيار سعر صرف الليرة والتضخم الذي تشهده تركيا، والذي ألقى بظله على الانتخابات الحالية.
أما خارجياً، فكان واضحاً أن الغرب كان يميل بشكل عام إلى كليجدار أوغلو ويعوّل على هزيمة إردوغان لتحقيق العديد من المكاسب، منها إبعاد تركيا عن روسيا والصين، والسماح للسويد بدخول حلف الناتو، وغيرها من الأهداف التي كان الأوروبيون والأميركيون يمنّون النفس بهزيمة لإردوغان لتحقيقها.
وبما أنَّ النجاح حالف إردوغان، فهذا يعني أن الشعب التركي منحه تفويضاً للوفاء بما كان قد وعد به خلال فترة الترشح، ومنحه الثقة للاستمرار بالسياسة الخارجية التي يعتمدها، ومنها سياسة “التحوّط” الاستراتيجي التي كان قد بدأها بعد فشل محاولة الانقلاب عام 2016.
ما هي استراتيجية “التحوّط” الاستراتيجي؟
استعار باحثو العلاقات الدولية مصطلح “التحوّط” من الدراسات المالية. التحوط المالي هو طريقة لتقليل مخاطر الخسارة الناجمة عن تقلبات الأسعار في الأسواق، وهي تتلخص بشراء أو بيع كميات متساوية من السلع نفسها أو سلع متشابهة جداً في وقت واحد تقريباً، في سوقين مختلفين، مع توقّع أن التغيير المستقبلي في السعر في إحدى الأسواق سيعوّضه تغيير معاكس في السوق الأخرى. وبالتالي، يأمل المتحوّط حماية نفسه من الخسارة الناتجة من تغيرات الأسعار عن طريق تحويل “المخاطرة” إلى “مضاربة” تعتمد على مهارته في التنبؤ بحركة الأسعار.
أما في العلاقات الدولية، فإن نظرية “التحوّط الاستراتيجي” تعني اتخاذ دولة ما (دولة متوسطة أو صغيرة) خياراً وسطياً متوازناً يستخدم مبادئ التوازن الاستراتيجي الصلب والناعم، وذلك عبر اعتماد سلسلة من الخيارات تقوم على مزيج من التعاون والمواجهة لمصدر التهديد.
وهكذا، تحتسب الدولة “المتحوطة” خياراتها تجاه التهديدات المتزايدة لأمنها، فتجد أنَّ القدرات غير متناسبة بينها وبين الدولة المهدِدة، وبالتالي تجد أنها غير قادرة على تغيير موازين القوى لمصلحتها، فتقوم بمزيد من التعاون مع مصدر التهديد لتجنّب الدخول في صراع غير متكافئ. وفي الوقت نفسه، تقوم بمواجهة التهديد عبر تطوير قدراتها العسكرية والانخراط في تحالفات سياسية أو عسكرية مع الدول المنافِسة لمصدر التهديد.
باختصار، هناك عاملان أساسيان لفهم سياسة التحوّط: أولاً، يحدث التحوط عند التعرض لتهديدات ومخاطر لا يمكن السيطرة عليها أو تغييرها. ثانياً، التحوط هو العمل في اتجاهين معاكسين في وقت واحد.
الخيار التركي باعتماد استراتيجية التحوّط
بعد تدخّل الأتراك في سوريا، ومحاولة إردوغان جرّ حلف الناتو إلى استخدام المادة 5، وإحجام الناتو عن مجاراة تركيا في تدخلها العسكري المباشر في سوريا، قام الأتراك بإسقاط طائرة روسية في سوريا، فردّ الروس بعقوبات اقتصادية أضرّت الاقتصاد التركي الذي يعتمد على الغاز الروسي والسياحة والتجارة مع الروس وغير ذلك، ثم كان عام 2016 مفصلياً، إذ جرت محاولة انقلاب فاشلة ضد إردوغان، اتهم بعدها قاعدة “أنجرليك” لحلف الناتو بأنها كانت وراء الانقلاب، وأن الأميركيين ساهموا في التخطيط والتحضير له.
توترت العلاقة بين الأتراك والأميركيين، وزاد التوتر بعد إعلان إردوغان رغبته في شراء منظومة دفاع “أس 400″، الأمر الذي اعتبره الأميركيون مساساً بأمن حلف الناتو، فهددوا تركيا بعقوبات، وتراجعوا عن صفقة طائرات “أف 35″، كانت تركيا مساهمة فيها. وفي وقت لاحق، هدد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب بفرض عقوبات على الأتراك في حال لم يطلقوا سراح أحد الأميركيين الذين تتهمهم تركيا بالضلوع بمحاولة الانقلاب.
وعلى الرغم من تباين العلاقة بين روسيا وتركيا في سوريا، إذ تدعم روسيا الحكومة السورية، فيما تدعم تركيا الجماعات المسلحة المناهضة للرئيس السوري بشار الأسد، وعلى الرغم من التباين في قضية القرم، وخصوصاً قضية التتار، والتباين في الموقف من الحرب بين أرمينيا وأذربيجان والحرب الأوكرانية… فقد دفعت استراتيجية التحوّط التركية ضد التهديد الأميركي (الحليف في حلف الناتو) إلى تقارب مع روسيا تجلى في تدشين أنبوب “السيل التركي”، والسير بمسار أستانة – سوتشي للحل في سوريا، ومؤخراً قيام كلّ من إيران وروسيا برعاية مصالحة بين الأتراك والسوريين تمهّد لخروج القوات التركية من سوريا وإعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم.
وهكذا، عوّل الغرب على نجاح كليجدار أوغلو لإخراج تركيا من سياسة التحوّط الاستراتيجي التي يتبعها إردوغان، ولإعادتها إلى سابق عهدها؛ دولة تابعة في حلف الناتو تسير في فلك الولايات المتحدة، كما كانت خلال فترة الحرب الباردة. وراهن الأوروبيون على قدرتهم على أخذ المكاسب من كليجدار أوغلو مع إعلان رغبته في العودة إلى السياسة الخارجية التركية القديمة الساعية إلى الدخول في الاتحاد الأوروبي.
لكنّ النتيجة أتت مغايرة لما يتمناه الغرب، وفاز إردوغان في الانتخابات الرئاسية في تركيا، وحصد تحالف حزبه مع الأحزاب الأخرى غالبية مقاعد البرلمان التركي. وبالتالي، من المتوقع أن تستمر سياسة “التحوّط” الاستراتيجي التي اعتمدها، ومن المتوقع أيضاً أن نشهد تسارعاً في المصالحة التركية السورية، ما سيؤدي إلى استقرار أكبر في منطقة الشرق الأوسط، وفي استقرار سوريا بعد عودتها إلى الجامعة العربية.