فلسطين وسحرة فرعون
موقع العهد الإخباري-
أحمد فؤاد:
تظل بعض الأحداث والتواريخ في الذاكرة الجمعية للشعوب والأمم مثل كرة الشوك، كلما أطلت أو اقتربت ذكراها تحركت ناشبة نصالها الحادة في القلب والروح والأعصاب العارية، وبقدر ما تسبب من آلام فوق أية طاقة احتمال، فإن العجز عن تجاوزها، والفشل في نسيان مراراتها، ثم المنع –الرسمي- من مراجعتها وتقييمها وإخضاعها لمنطق الحساب، قد حوّل بعض التواريخ إلى الجحيم مجسدًا على الأرض، نيرانًا تكوي وسياطًا تضرب بلا توقف ولا أمل.
يوم الخامس عشر من أيار/ مايو لا يحمل للإنسان العربي، والمصري بالذات، سوى ذكريات متتالية من الهزائم والسقوط والخيبات المروعة، تاريخ مشؤوم ارتبط فقط بالكوارث الوطنية الكبرى، المآسي المكتملة، التي تتفوق على أعظم ما يمكن للخيال من أن يجمعه ويحصره في تاريخ واحد مشين، وهو مع ذلك كله، يظل يومًا مخلدًا من قِبل أنظمة حكم كامب دايفيد، جعلوه حولنا في كل مكان، كيوم “إنجاز ما” في الأجندة المصرية، يحاصرنا ويذكرنا ويقهرنا، حصارًا فوق حصار، وقهرًا بعد قهر.
أول الأحداث التي يحملها تاريخ 15 مايو هو قرار النظام الملكي البائد في مصر بدخول الجيش المصري إلى فلسطين، لإنقاذها كما قيل ورُدد، وهو جيش كان حديث النشأة والتكوين، ولم يرتبط آنذاك –وحتى اليوم- بنظرية أمن قومي أو عقيدة عسكرية، كغيره، وبالتالي فقد كان قرارًا متهورًا يقوم على حماسة عمياء، لا تعي ولا تدرك، ثم هي لا تعرف هدفًا واضحًا تستند إليه في خطتها أو جهدها القتالي، وكانت النتيجة المنطقية والوحيدة هزيمة أولى مروعة.
بعد هذا التاريخ بسنوات وفي 1967، حل موعد هزيمة ثالثة، وأحدث، بقرار المشير عبد الحكيم عامر بحشد الجيش في سيناء، استجابة للتوتر الذي كان قائمًا في الشرق الأوسط، وبلغ ذروته بالقرار التاريخي المأساوي لعبد الناصر بإغلاق خليج العقبة في وجه الملاحة الصهيونية في 22 مايو، ما اعتبره الكيان إعلان حرب، وشن عدوانه في الخامس من حزيران/ يونيو، ليكتب ملحمة من الألم والانكسار والذل، هي الأثقل والأكثر ترويعًا في التاريخ المصري الحديث بجملته.
لم تكد 4 سنوات تمر، إلا وصفعنا اليوم بحدث فارق، وهو الانقلاب الساداتي الأسود على خيار مصر المقاوم، وتخلص ممن تبقى من نظام عبد الناصر، ليفسح المجال أمام تغيير هو الأعمق في التوجهات المصرية، ويكون هذا اليوم بداية من العام 1971 إيذانًا بحقبة جديدة، عزلت مصر فيها ذاتها عن أمتها وعن قضاياها وعن دورها، لنصل –أيضًا- إلى نهاية وحيدة منطقية في 1979، بتوقيع معاهدة الاستسلام الشامل للعدو الصهيوني، وتقبل أن تدخل إلى حظيرة الرضا الأميركي، ما وصل بنا إلى وضع ليس من اليسير شرحه بأكثر من كلمة “سقوط”، إذ قادت سياسة “السلام” كخيار إستراتيجي ووحيد إلى الانبطاح أمام الخطر الأكبر على الوجود المصري –مجردًا وبذاته- في قضية سد النهضة.
الواقع المصري الحالي لا يحتاج تفسيرًا ولا إسهابًا. لن تمنحنا أميركا يدها، ولن يساعدنا الكيان المهتز والعاجز أمام تحدياتنا، مهما بالغنا في الارتباط بهم أو بذلنا الجهد لنيل رضاهم، المقاومة كطريق وخيار قد تحمل إلى انتصار، لكن الاستسلام لا يعني سوى مهلكة جماعية في التيه، أو مذبحة شاملة في العراء.
لكن ما يدعو لمناقشة هذا اليوم وأحداثه، ليس البحث عن بديهيات، تتحقق كل يوم وفي كل لحظة، لكن عن تعامل الإعلام الرسمي المصري مع سلسلة الهزائم الكبرى التي وقعت أو بدأت في هذا التاريخ.
مارس الإعلام المصري، على طريقة سحرة فرعون قبل توبتهم، دور الشيطان الضال المضل للناس، وبدلًا من أن يحاول القيام بواجبه في التوعية وشحذ الضمير الجمعي للناس، ومصارحتهم بأصل البلاء، إذا به يقوم بأمرين لا ثالث لهما، أولًا هو يحول كل هزيمة إلى انتصار، انتصار ضخم وكبير، فإذا عجز أمام الحقائق الواقعة على الأرض، فإنه يحاول طمسها من أعين الناس، يجملها مرة، ويبررها مرات، ثم هو مع سياسة التناسي المتعمد، قد أغلق كل فرصة للمراجعة أو قراءة أسباب الفشل والتراجع المساوم والمستمر.
عقب حرب فلسطين، ونهايتها السوداء بحصار الجيش المصري في الفالوجة، هذا الحصار الذي لم ينقذه منه سوى “اتفاقية رودس” للهدنة، فإن صحف وإذاعات القاهرة قد قررت أن العملية نجحت، رغم موت الأم والجنين وربما الأب، وبدأت في وصف معارك من وهم جرت على الأرض العربية السليبة، وصناعة قصص عن بطولات أسطورية، لعل أشهرها إطلاق اسم “الضبع الأسود” على الأميرالاي السيد طه، ونشر قصص تلو قصص عن اشتباكات وتضحيات وأبطال، ولم يكن غريبًا في ظل مناخ التعتيم وشح المعلومات والأخبار، أن تخرج الجماهير لاستقبال ضبعها الأسود ورجاله، العائدين بعار الخيبة وفضيحة الهزيمة، تنثر عليهم الورود، في مشهد يشبه مرور الجيوش الرومانية الظافرة تحت أقواس النصر، وهو مشهد لم ولن يتكرر في التاريخ الإنساني كله.
الأمر ذاته تكرر مع هزيمة 67، التي خففت إلى تعبير النكسة، وبدلًا من أن يطالب الناس بمعرفة تفسير واضح لما حدث، وكيف حقق كيان العدو عبر استخدام تكتيك “البليتزكريج” للمرة الثالثة على التوالي، تدمير هذا الجيش هائل العدد عظيم العدة، وكيف انسحب عشرات الآلاف من الجنود والضباط من مواقعهم، تاركين أرضهم وسلاحهم غنيمة باردة، ودون قتال، بعد 3 موجات من الغارات الجوية فقط لا غير، حققت أثر الصدمة على القيادة العسكرية، ثم توغل واسع بالمدرعات قطع أوصال القوات وعزلها ودمر خطوطها وأفقدها أعصابها، ثم شتتها إلى مجموعات وشراذم مفرقة، وانتهى بها الأمر قتلًا أو أسرًا.
ومع السادات حدث الأمر ذاته، لمرة جديدة، فالصراع على السلطة تحول إلى معركة حول الديمقراطية، والرجل الذي صعد من الظل صار بطل ثورة التصحيح –المسمى الرسمي لليوم في مصر- وحصل على شعبية كبيرة، مكنته فيما بعد من قيادة أسوأ تحولات مصر، من قوة صاعدة ومركز لعب الدور الطليعي بالنسبة لأمته، إلى أول دولة عربية تستسلم أمام الكيان، وتقبل أن يدنس عاصمتها رايته النحسة.
تعامل الإعلام المصري مع كل الكوارث التي مرت كان ذكيًا، للأمانة، فهو إعلام يحسب تقليديًا ودائمًا على الحاكم لا الناس، وينطق بلسان القصور لا الشوارع، وهو في محاولاته الدائمة لنفي كلمة هزيمة، كان يحقق هدفين رئيسيين ومتكاملين، أولهما منع نزع الشرعية عن النظام الحاكم، فالحاكم المهزوم ضعيف مهدد بالسقوط وهدف سهل لسهام الغضب، والثاني هو أن منح الناس حدًّا ما من الأمل، مهما كانت الظروف ومهما وصلت التطورات يمنح المجتمع القدرة على استكمال طريقه دون أن يسقط بالصدمة مشلولًا عاجزًا.
..
اليوم بالذات، من الضروري ونحن نتابع أو نكتب عن فلسطين أن نفهم هذا الدرس البسيط، إن وصف جولة “ثأر الأحرار” بالانتصار هو أمر حيوي بالنسبة إلى قضيتنا المركزية، ما تحقق يجب أن يوصف بما هو عليه فعلًا، أي نصر واضح وجديد على العدو الصهيوني، وكسر لإرادته، وجولة جديدة في صراع شامل وصفري بيننا وبينهم، وعدم الانجرار إلى فخ اليأس المنصوب من الإعلام الرسمي العربي الناطق بلسان تل أبيب.
أي حساب أمين للإمكانيات والقدرات لا يمنحنا فرصة للتفكير في أن ما جرى كان منطقيًا، أي معادلة للقوة لا تعطي غزة المحاصرة من الكيان، وأتباعه العرب، فرصًا كبيرة للصمود والتحدي وحتى للقتال حتى اللحظة الأخيرة، وطبيعة المنطقة الأكثر كثافة سكانية في كل العالم لا توفر بيئة مثالية ولا آمنة للعمل المقاوم، وبالتالي فإن ما حدث معجزة فلسطينية جديدة، وكاملة.
بكل يقين، انتهى زمن الردع الصهيوني، والغرفة المشتركة للفصائل استفادت من إمكانياتها وسلاحها بأقصى شكل ممكن، وتمكنت طوال أيام جولة القتال في الوصول إلى قلب الكيان، وتجاوزت بسرعة ما أراده العدو صدمة باغتيال قيادات الجهاد، وثبت أن لدينا صفوفًا أخرى وأجيالًا جديدة، قادرة على حمل الأمانة وأداء الرسالة، بقوة وقدرة هائلين، وما خططت له حكومة نتنياهو قد ارتد عليها مع الصواريخ الذكية حسرة ورعبًا، والأمل بأنفسنا وقضيتنا وسواعد الرجال وصل إلى عنان السماء.
فليكن الحديث عن نصر، وعن آمال، وعن أشكال جديدة لدعم القضية والمناضلين، وطرق لتخليد شهدائنا وأبطالنا وأسياد مجدنا وتيجان رؤوسنا، ليكن ما جرى وقودًا لعمل أكبر وأشمل، وافتتاحية لمستقبل لنا لا لأعدائنا.