فلسطينيّو النقب وديمومة النكبة والمقاومة
موقع قناة الميادين-
وليد القططي:
كانت هبّة النقب التي توحّد فلسطينيّو النقب فيها للدفاع عن أرضهم، وخلفهم كل الشعب الفلسطيني، في مشهد يُعبّر عن الوجه الآخر لديمومة النكبة، وهو ديمومة المقاومة التي توحّد الشعب الفلسطيني دفاعاً عن الأرض والقدس والأسرى والكرامة.
بعد نشأة الكيان الصهيوني، قال ديفيد بن غوريون مُعبّراً عن مأزق الكيان السكاني والأمني في النقب: “صحراء النقب هي المساحة الأوسع والأكثر فراغاً في البلاد، وعليه فإنَّ من الخطر جداً أنْ تتسامح إسرائيل مع وجود صحراء بداخلها، فإذا لم تُلغِ الدولة تلك الصحراء، فستُلغي الصحراء الدولة”.
تجاهل وجود فلسطينيي النقب المُهجّرين والصامدين هو الجزء الأول من الرواية الصهيونية المُزيّفة (أرض بلا شعب)، والاستيطان اليهودي في النقب هو جزؤها الثاني (لشعبٍ بلا أرض). والرواية بجزءيها – التهجير والاستيطان – اسمها (حلم بن غوريون). الحلم الذي قدّم بن غوريون نفسه قدوة عملية لتحقيقه، فترك بيته في المستوطنة الكُبرى تل أبيب وسط الكيان، ليسكن في كوخٍ صغير في مستوطنة (سديه بوكر) الصغيرة جنوب الكيان في النقب عام 1953م، بعد انتهاء مرحلة رئاسته الأولى للوزراء، واستمر مُقيماً فيه حتى وفاته عام 1973م، ليتحوّل كوخه إلى متحفٍ يزوره الصهاينة – مستوطنين وسُياحاً – وليكون مَعلماً استيطانياً مُحرِّضاً اليهود على الاستيطان في النقب وكل فلسطين.
لم ينس الصهاينة (حلم بن غوريون) رغم مرور سبعة عقود عليه، فكتبت إيليت شاكيد – وزيرة داخلية الكيان الصهيوني – على منصة (تويتر) في صفحتها الرسمية مبتهجة بإعلان حكومتها إقامة مستوطنة (حنون) الجديدة في النقب: “حلم بن غوريون يتجسّد أمام أعيُننا بشكل عملي بإقامة مستوطنات جديدة وتحقيق الحلم الصهيوني في إعمار النقب”.
مستوطنة حنون كانت آخر حلقات الاستيطان اليهودي في النقب، فهي عملية مستمرة في النقب وكل فلسطين في مشهد يُجسّد ديمومة النكبة الفلسطينية، وزرع النقب بالمستوطنات اليهودية تسبقه عملية زرع النقب بالأشجار التي كانت فكرة ديفيد بن غوريون – أحد أهم مؤسّسي الكيان – قائلاً: “علينا غرس النقب بمئات الآلاف من الأشجار”، وأوكل تنفيذ هذه المهمة الاستيطانية إلى ما يُعرف بالصندوق القومي اليهودي (كيرن كيميت ليسرائيل) المعروف اختصاراً بـ(كاكال)، المسؤول عن تمويل الاستيطان اليهودي في فلسطين مطلع القرن العشرين، والمسؤول حالياً عن عملية تشجير النقب، كمدخل لنزع ملكيتها من فلسطينيي النقب، تمهيداً لإقامة المستوطنات عليها تحت شعار: إنْ لم نصمد في الصحراء فستسقط تل أبيب.
مشروع التشجير في النقب هو زراعة أرض النقب المملوكة للفلسطينيين بالأشجار باعتبارها أراضي دولة، بهدف إبعاد أصحاب الأرض الفلسطينيين عن أرضهم ومنعهم من رعي أغنامهم فيها واستخدامها في الزراعة الموسمية، وهذا يعني اقتلاعهم من أرضهم التي عاشوا عليها رعاة ومزارعين منذ فجر التاريخ، وتحويلهم من منتجين إلى مستهلكين يضطرون إلى العمل بالأجر في خدمة المستوطنات اليهودية والمؤسسات الإسرائيلية.
آخر هذه المشاريع الاستيطانية ما يحدث الآن في منطقة (النقع) في النقب، التي تضم (6) قرى بدوية غير مُعترف بها من حكومة الاحتلال، ومنها قرية (سعوة الأطرش) التي بدأت عملية التجريف والتشجير منها، فكانت هبّة النقب التي توحّد فلسطينيّو النقب فيها للدفاع عن أرضهم، وخلفهم كل الشعب الفلسطيني في فلسطين التاريخية من البحر إلى النهر، وفي الشتات، في مشهد يُعبّر عن الوجه الآخر لديمومة النكبة، وهو ديمومة المقاومة التي توحّد الشعب الفلسطيني دفاعاً عن الأرض والقدس والأسرى والكرامة، كما ظهر ذلك جليّاً في معركة وانتفاضة “سيف القدس” العام الماضي.
مقاومة التشجير الاستيطاني هي أحد أشكال الصراع على الأرض في فلسطين بين الصهيونية – حركة ودولة – والشعب الفلسطيني، وهي جوهر الصراع بين العرب واليهود بأبعاده الجغرافية والتاريخية والحضارية والدينية… ولذلك كانت (الخطة دالت) للحركة الصهيونية ومنظماتها العسكرية الإرهابية في حرب النكبة عام 1948م، التي تتلخص بالاستيلاء على أكبر مساحة من الأرض الفلسطينية مع أقل عدد ممكن من السكان الفلسطينيين، وهذا يتطلب تهجير الشعب الفلسطيني من أرضه قسراً بالعنف الدموي والإرهاب النفسي، فكانت النتيجة الاستيلاء على (78%) من فلسطين وطرد (800) ألف فلسطيني منها، وبقاء (150) ألف فلسطيني تحت الاحتلال الصهيوني، عدد فلسطينيي النقب منهم (13) ألفاً من أصل (90) ألف فلسطيني يعيشون في النقب قبل النكبة، وقد تضاعف عددهم بعد عشرات السنين بفعل الزيادة الطبيعية المرتفعة إلى نحو (300) ألف فلسطيني، يعيش أكثر من ثلثهم في قرى غير معترف بها إسرائيلياً، وتطاردهم (الدوريات الخضراء) يومياً، فتقوم بمصادرة أغنامهم، وتدمير محاصيلهم، وهدم بيوتهم، وتخريب قراهم.
الدوريات الخضراء التي أنشأها الإرهابي شارون عام 1976م عندما كان وزيراً للزراعة في الكيان الصهيوني، كانت إحدى وسائل انتزاع الأرض في النقب من أيدي أصحابها الفلسطينيين البدو؛ فالقوانين أداة بأيدي حكومات الكيان للاستيلاء على الأرض في كل فلسطين المحتلة بعد النكبة، ومنها: قانون أملاك الغائبين، وقانون شراء الأراضي، وقانون التخطيط والبناء، وقانون تطوير النقب… ولكن أهم وسيلة للاستيلاء على أراضي النقب هي عدم الاعتراف بالملكية العُرفية العشائرية للأرض، وطردهم منها لحصرهم في مثلث بئر السبع وعراد وديمونا، في مساحة (5%) من النقب، واتباع سياسة التوطين القسري في قرى سكنية محدودة المساحة الجغرافية ومعدومة إمكانيات العمل والإنتاج عبر مشاريع متعددة، كمشروع (مخطط برافر) عام 2013م لتجميع فلسطينيي النقب في (7) مراكز سكنية، وتدمير (38) قرية بدوية غير معترف بها، والاستيلاء على (800) ألف دونم، ولكن المقاومة الفلسطينية الشعبية أسقطت المخطط، ليستمر تطبيقه تدريجياً بوسائل أخرى، تم فيها الاستيلاء على مساحات واسعة من الأرض، لإقامة مصانع الأسلحة ومناجم الفوسفات ومعسكرات تدريب عليها، وفتح طرق للسيارات والقطارات عليها.
مشهد انتزاع الأرض من أصحابها في فلسطين عامة والنقب خاصة يدل على ديمومة النكبة كحدث دائم شاهد على المأساة الفلسطينية المتجددة، والمشهد الآخر هو دفاع الشعب الفلسطيني عن أرضه، وآخر صوره في النقب المُحتل الصامد، كدليل على ديمومة المقاومة الفلسطينية كحدث دائم يتجسّد بالوجود على الأرض الفلسطينية وعدم الهجرة منها، والصمود تمسّكاً بها رغم بطش الاحتلال، والدفاع عنها بالعرق والدم والروح… فالأرض عند الفلسطيني ليست مجرد تراب… الأرض دم الشهداء والجرحى، ودمع المكلومين والمعذبين، وعرق الفلاحين والكادحين، وألم الأسرى والثكلى، وشوق اللاجئين والمنفيين، ورائحة الآباء والأجداد، وعنفوان الثوار والأحرار… الأرض روح تسري في عروق الشعب، كما تسري روح الشعب في عروق الأرض.