“فرق تسد”.. سياسة واشنطن تجاه الإتحاد الأوروبي
صحيفة البعث السورية-
سمر سامي السمارة:
تسعى الولايات المتحدة الأمريكية للحفاظ على قيادتها من خلال الإجراءات العدائية ضد خصومها وحلفائها على حد سواء. ويتجلى ذلك، من خلال النزاعات المسلحة والاعتداءات الكثيرة التي تحرّض عليها أو تقوم بشنها، فضلاً عن انتهاكها للمعايير الدولية. ويبدو أن موقف الدول الأخرى، بما في ذلك حلفاء الولايات المتحدة، من الإملاء السياسي والاقتصادي والعسكري والخسائر المترتبة على عقوبات البيت الأبيض، لا يهم واشنطن على الإطلاق.
اشتدت هذه السياسة المدمرة بشكل خاص في السنوات الأخيرة، منذ أن بدأت واشنطن باستنكار ما يحدث على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، فعلى الرغم من أن السياسة الخارجية الأمريكية المعلنة لا تذكر رسمياً سوى روسيا والصين كخصوم، إلا أن الإستراتيجية الحقيقية تعني بالتأكيد أن الاتحاد الأوروبي مدرج في هذه القائمة أيضاً، فتطوير أفكار التكامل في أوروبا الموحدة يتعارض مع المبدأ الأساسي لسياسة واشنطن القائم على “فرق تسد”.
في وقت تتجنب واشنطن تقويض الاتحاد الأوروبي علناً، فقد عكفت في السنوات الأخيرة على بذل قصارى جهدها ليس للتحكم به فحسب، ولكن أيضاً للمساهمة في تفككه والقضاء عليه كمنافس محتمل في صراعات النفوذ الجيوسياسية.
في هذا الصدد، أصبح تعيين موظفين مدربين في واشنطن، مثل أورسولا فون دير لاين، وتشارلز ميشيل، وجوزيب بوريل في مناصب قيادية في دول الاتحاد الأوروبي، وفي هيئاته الرئاسية أداة مهمة لإخضاع الاتحاد، حيث يسترشد هؤلاء في أفعالهم فقط بتعليمات الولايات المتحدة، مع تجاهل تام لمصالح أوروبا بأكملها وبلدانهم الأصلية على وجه الخصوص.
من أجل تقويض الوحدة الأوروبية، وبدء عمليات التفكك من خلال وكيلها في أوروبا المملكة المتحدة)، بدأ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. ومن المهم الإشارة، في هذا السياق، إلى تعهدات ترامب عام 2019، الذي وعد لندن بعد “البريكست” بـ التوصل إلى “اتفاق تجاري كبير جداً” يتم إبرامه بمجرد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في محاولة لكي يثبت للبريطانيين وبقية الأوروبيين، عدم وجود تداعيات مستقبلية لخروج بريطانيا.
في الواقع، يرى مراقبون أنه مع صدور مثل هذه “التصريحات الجذابة” رسمياً، كان يمكن للمرء أن يقرأ محتوى التعليمات السرية التي أعطيت إلى لندن من البيت الأبيض بشأن هذه المسألة. في النهاية، حققت الولايات المتحدة مرادها، وحدث خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وبدأت المشاعر الانفصالية بكسب التأييد الشعبي في عدد من دول الاتحاد الأوروبي كوسيلة للخروج من الأزمة الاقتصادية والمالية والطاقة التي اجتاحت أوروبا.
ولإضعاف القدرة التنافسية الاقتصادية لأوروبا الموحدة، ابتكرت واشنطن إستراتيجية متعددة الجوانب لإضعاف أمن الطاقة الأوروبي. ولهذه الغاية، استخدمت المشاعر المعادية للروس في أوكرانيا. وبعد ذلك، قامت بحملة تضليل معادية لروسيا بشأن “انتهاك” موسكو المزعوم للعمليات الديمقراطية في أوكرانيا.
في النهاية، استطاعت واشنطن، من خلال سياسة الضغط، إقناع عدد كبير من دول الاتحاد الأوروبي بتشديد العقوبات ضد روسيا، والحد من إمدادات الطاقة الروسية إلى السوق الأوروبية، التي بدونها سينهار الاتحاد الأوروبي اقتصادياً على الرغم من أن كل هذا يتعارض بشكل صارخ مع مصالح أوروبا الخاصة. وكانت النتيجة تضخماً سريعاً في أوروبا، وإغلاق وإفلاس العديد من الشركات الأوروبية، خاصة تلك الموجهة نحو السوق الروسية.
في الوقت نفسه، استقطبت الولايات المتحدة من خلال وكلائها، لاسيما جوزيب بوريل وأورسولا فون دير لاين، أوروبا لتقديم الدعم المالي والعسكري لنظام كييف، الأمر الذي أدى إلى موجة الهجرة الأوكرانية التي بلغت عدة ملايين، والتي نجمت عن تصعيد النزاع المسلح بين كييف وموسكو، وتسببت في أضرار جسيمة للوضع المالي والاجتماعي والاقتصادي في الاتحاد الأوروبي. وقد أدى ذلك إلى خسارة كبيرة في القدرات الدفاعية للاتحاد الأوروبي، وهو ما اضطر جوزيب بوريل للاعتراف به مؤخراً عندما قال:” إن مخزونات الأسلحة لدى دول الاتحاد الأوروبي تنفذ بعد إرسال مساعدات عسكرية إلى أوكرانيا”.
تعمل الأزمة الاقتصادية وأزمة الطاقة، التي فاقمتها الولايات المتحدة، على زيادة حركة الاحتجاج في دول الاتحاد الأوروبي بشكل مطرد، ما يؤدي إلى زعزعة الاستقرار السياسي والاجتماعي هناك، وبالتالي تقليل قدرتها التنافسية مع الولايات المتحدة، وهو بالضبط ما أرادته واشنطن.
ومن الواضح أن واشنطن لن تقف عند هذا الحد لتفكيك الاتحاد الأوروبي، والفوز بالمنافسة مع العالم القديم للهيمنة على العالم، فقد قامت بالفعل بتجربة الحرب البيولوجية من خلال نشر وباء كورونا الذي جلب البؤس الهائل إلى أوروبا، والخسائر المالية والبشرية الكبيرة، ثم إثراء شركات الأدوية الأمريكية نفسها. كما أدت عواقب أزمة الطاقة التي أطلقتها واشنطن إلى إبعاد أوروبا لسنوات عن معالجة تغير المناخ، والذي سيستمر في تدمير الاتحاد الأوروبي واقتصاده بحرائق جديدة وعواصف مطيرة وفيضانات.