فرص الحل في أوكرانيا: الوقت لم يعد محايداً
موقع قناة الميادين-
محمد سيف الدين:
ظروف الحل السياسي في أوكرانيا لم تكتمل بعدُ، وفق المعطيات المتوافرة بكثافة، والتي تظهر في مواقف الدول المتباينة، وفي تصريحات مسؤوليها، كما في القراءات التحليلية لصورة الأزمة وأفقها المستقبلي القريب.
يواصل الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، تعزيز دور بلاده في القضايا الإقليمية، مستفيداً من تطور العلاقات الروسية – التركية، ولاسيما خلال الأشهر الماضية من عمر الأزمة الأوكرانية، التي وصلت إلى مستوى تهديد الأمن والسلم الدوليين، وقبلهما الأمن في المجال الجغرافي الذي تنشط فيه أنقرة.
فبعد لقاءات متكررة مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين خلال أسابيع قليلة، أجرى الرئيسان مباحثات هاتفية، أكد فيها الرئيس التركي وجوب إحياء المحادثات الدبلوماسية، لأن إطالة أمد الحرب في أوكرانيا سيزيد في المخاطر.
تركيا تطور دورها
ينطلق إردوغان في دوره الجديد من نجاحاتٍ سجّلها في أكثر من ملف، بحيث أدّى التنسيق الروسي – التركي إلى تبريد الأزمة بين أرمينيا وأذربيجان، مرحلياً على الأقل. كما نجحت الدبلوماسية التركية في تحقيق اتفاقية تصدير الحبوب الأوكرانية، ثم تمديدها 120 يوماً إضافية، خلال الساعات القليلة الماضية، بالإضافة إلى معالجة القمح الروسي في تركيا، وتصديره إلى الدول النامية. والآن، يحاول تطوير موقف بلاده ليشمل تأثيراً في الأطراف المتباينة لإطلاق المسار السياسي، الذي يأمل، من خلاله، تحقيق اختراقٍ في جدار الأزمة الأوكرانية، يؤدي، في نهاية المطاف، إلى مكاسب كبرى لتركيا، الدولة الأطلسية الأكثر تفاعلاً مع روسيا خلال الأزمة الحالية.
وتندرج في سياق محفّزات هذا الدور مجموعة من المعطيات الاستراتيجية المتنوعة بين مخاطر الأمن ومطالب السياسة الخارجية وضرورات الاقتصاد، وفق المضامين التالية:
أولاً، يشكّل الحدث الأمني البارز الذي استجد من خلال التفجير الذي شهدته إسطنبول، الأسبوع الفائت، علامةً بارزة على تراكم المخاطر المحيطة بأمن البلاد، بحيث كان لافتاً رفض أنقرة تقبل التعازي الأميركية بضحايا الحدث، وشكرها في بيان الرئاسة روسيا على تعزيتها في الموضوع نفسه.
ثانياً، تتطلّع أنقرة إلى الاستفادة القصوى من مخرجات الأزمة الأوكرانية لتنشئ حضوراً خارجياً أكثر فعّالية، في اللحظة التي تبحث الدول الإقليمية الأخرى عن فرصٍ مماثلة، مستفيدةً من هوامش المناورة التي فتحتها الأزمة الأوكرانية، والتي أظهرت ملامح التعددية القطبية، كما لم تفعل من قبل. وهو ما ظهر في نقاشات قمة مجموعة العشرين الأخيرة في بالي الإندونيسية، والتي انعكست على ما ورد، وما لم يرد، في صياغة البيان الختامي.
ثالثاً، أمسكت تركيا بسرعة بين يديها ورقة عقدة الغاز الروسي، والتي كانت تطمح إليها قبل عام 2015، تاريخ إسقاطها المقاتلة الروسية فوق سوريا، الأمر الذي أدى يومها إلى شرخٍ في العلاقات بين موسكو وأنقرة، ما لبث أن عولج ببطءٍ خلال الأعوام اللاحقة. والآن، يتحول خط أنابيب “السيل التركي” إلى بديل من “السيل الشمالي 2″، يمتص أيضاً بموجب توافق بوتين – إردوغان ما كان يضخ عبر خط “السيل الشمالي 1″، الأمر الذي يعطي تركياً مكاسب اقتصادية مديدة وثمينة.
مهمة جديدة لإردوغان
لكن مهمة إردوغان، هذه المرة، تبدو أكثر صعوبة. فظروف الحل السياسي في أوكرانيا لم تكتمل بعدُ، وفق المعطيات المتوافرة بكثافة، والتي تظهر في مواقف الدول المتباينة، وفي تصريحات مسؤوليها، كما في القراءات التحليلية لصورة الأزمة وأفقها المستقبلي القريب.
وعلى الرغم من استضافة أنقرة لقاءَ رئيسَي الاستخبارات الروسية والأميركية، وتأكيد إردوغان أنه “أدّى دوراً محورياً في الحد من التصعيد المنفلت على الأرض”، فإنّ خلاصات هذا اللقاء تبقى قاصرةً عن وقف الحرب، نتيجة مجموعة من الحقائق غير القابلة للتجاهل، أهمّها التباعد الكبير بين المطالب الروسية والأوكرانية، ليس على مستوى المواقف فحسب، بل أكثر أهميةً من ذلك، على مستوى ما يمكن لكل طرفٍ قبوله في نهاية المطاف.
وساعدت التطورات الميدانية في الأسابيع الأخيرة في تعميق هذا التباعد، بحيث ترى كييف أنها، عبر تحقيقها تقدماً ملموساً في منطقة خاركيف، خلال أيلول/سبتمبر الماضي، ومن جرّاء الانسحاب الروسي من الضفة الغربية لنهر الدنيبر في خيرسون، تبدَّل أفق المواجهة لمصلحتها، وأنها يجب أن تستفيد من هذا التقدم لتظهير هزيمة روسية، والمطالبة على قاعدة ذلك باستعادة كل الأراضي التي دخلتها القوات الروسية، بما في ذلك شبه جزيرة القرم، التي ضمتها روسيا عام 2014.
لكن، في الجانب الروسي، تبدو الرؤية مغايرة. فهذا التقدم الأوكراني غير شاملٍ كل الجبهات، وهشّ ومتذبذب، الأمر الذي ظهر، على سبيل المثال، في خسارتها معارك مهمة في مدينة باخموت. وبالنسبة إلى موسكو، فإن الزهوّ الأوكراني بالتطورات، بما في ذلك الانسحاب الروسي من جزء من خيرسون، ما هو إلّا تطورات مرحلية مرتبطة بمعطيات تكتيكية لا تؤثّر في المسار العام للحرب، أهمها التفوق العددي في قوات الميدان، وضرورات عسكرية أخرى مرتبطة بطبيعة الأرض والمناخ والوقت، وهو ما يرى الروس أنه سيتغير قريباً مع دخول قوات التعبئة في الخدمة، وتعطُّل القدرة الأوكرانية على التقدم مع تجمد المسارات، وتحول المدن إلى بيئة غير قابلة للحياة، كانعكاس مباشر لأزمة الطاقة، وهو ما تحرص موسكو على تطويره من خلال قصف محولات الكهرباء والبنية التحتية لمنظومة القيادة والسيطرة للقوات الأوكرانية.
بالإضافة إلى ذلك، تتّسع الهوة بين الموقفين بسبب معطيات أكثر شمولاً، وهي، من دون شكّ، أكثر تاثيراً في الشكل النهائي للحل، أبرزها مراهنة موسكو على الآثار الحتمية لاستراتيجية تثقيل الأعباء الاقتصادية الغربية (والأوكرانية بالطبع) خلال الأشهر المقبلة.
واشنطن: لاقتناص اللحظة
مع إدراكها أن القتال ليس سوى الجزء الأصغر من الحرب، تحاول الولايات المتحدة اقتناص اللحظة التي تعتقد أن روسيا تشعر فيها بالضعف، وتضخيم المنجزات العسكرية الأوكرانية وصرفها بنتائج سياسية على طاولة المفاوضات. وفي سبيل ذلك، تحاول إطلاق المسار السياسي الآن، نتيجة توقعها أن موسكو لن تتمكن، خلال الشتاء المتجمّد، من أن تحقّق تقدماً عسكرياً كبيراً من ناحية، وبسبب معرفتها أفقَ الأزمة الاقتصادية التي تتسع آثارها في دول التحالف الغربي من ناحيةٍ ثانية، ومن ناحيةٍ إضافية، لتجنب الجواب الروسي الميداني بشأن التطورات الراهنة خلال الأشهر المقبلة، عندما تكون الضغوط الغربية في أوج حدتها.
هذا التوجّه عبّرت عنه تصريحات المسؤولين الأميركيين، وتحدثت عنه الصحافة ومراكز التفكير في أميركا. لكن تصريح رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة، الجنرال مارك ميلي، كان أكثر صراحةً مع الجانب الأوكراني تحديداً. فهو، بعد عدم النجاح في التواصل مع نظيره الروسي غيراسيموف بعد سقوط الصاروخ في بولندا – والذي تبيّن لاحقاً أنه أوكراني – قال إنه تحدث إلى نظيريه الأوكراني والبولندي وغيرهما من رؤساء الأركان في أوروبا بعد الانفجار، وإن هدف الأوكرانيين المتمثل بـ”طرد القوات الروسية من أوكرانيا مهمة صعبة للغاية، ومن غير المرجح أن يتم تحقيقها في أي وقت قريب”، مؤكداً أن مدينتي خيرسون وخاركيف، اللتين استعادهما الأوكرانيون، “صغيرتان نسبياً مقارنة بالكل”، الذي يصل إلى “20% من مساحة أوكرانيا” قبل الحرب.
يشكّل موقف الجنرال الأميركي، بما في ذلك بسبب خروجه على لسان أبرز مسؤول عسكري أميركي، دعوةً إلى خفض سقف التوقعات الأوكرانية من النتيجة النهائية للحرب، بعد أشهر من العمل، أميركياً وغربياً، على رفع هذا السقف، وتعزيز المعنويات الأوكرانية. وقد يكون ذلك مرتبطاً بصورةٍ مباشرة باستنتاجٍ أميركي، بدا واضحاً أيضاً في دول غربية أخرى (ظهر ذلك في انزعاج سياسي في فرنسا من ادعاءات كييف بشأن الصاروخ)، أن الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلنسكي، وبدرجةٍ أقل الرئيس البولندي، دودا، يسعيان لتوريط “الناتو” في مواجهة شاملة مع روسيا. ويقول ميلي إن احتمال حدوث نصر عسكري أوكراني قريب، على النحو الذي يتصوّره الأوكرانيون، ليس مرتفعاً من الناحية العسكرية.
وكدعوةٍ أخرى إلى اقتناص اللحظة، يقول ميلي إن “الجيش الروسي يعاني الخسائر. لذا، فأنت تريد التفاوض في وقت تكون قوياً، وخصمك في حالة ضعف. ومن الممكن، ربما، أن يكون هناك حل سياسي. كل ما أقوله هو أن هناك إمكاناً لذلك”.
وهذا يؤشّر الآن على أن الغرب كان يصدّق مندوب روسيا الدائم لدى الأمم المتحدة، فيتالي نيبينزيا، أكثر من تصديقه رواية زيلنسكي، بشأن الحدث، بحيث أكد نيبينزيا أن أوكرانيا وبولندا حاولتا إثارة صدامٍ مباشر بين روسيا و”الناتو”.
وتؤثّر في الموقف الأميركي الساعي لخطف اتفاقٍ، يتم تظهيره كهزيمةٍ روسية، التطوراتُ الداخلية الأميركية، كخسارة الديمقراطيين للأغلبية في مجلس النواب، وترشّح الرئيس السابق دونالد ترامب للانتخابات المقبلة عام 2024، وفتح الجمهوريين تحقيقاً مع هانتر جوزف بايدن بشأن منافع خارجية من الموقع الدستوري للرئيس الأميركي، وخصوصاً اتهامات بغسل أموال عبر استخدام المساعدات لأوكرانيا. وفي سياقٍ موازٍ، تساهم التقديرات الأميركية لآفاق أزمتي التضخم والديون في مسارعة الإدارة إلى معالجة الأزمة الأوكرانية قبل أن تنفجر الأزمات الأخرى في دول التحالف الغربي.
روسيا تتأنّى
في مقابل هذا الزخم الغربي، المدفوع أميركياً، تبدو روسيا أقل حماسةً لدخول المفاوضات وفق المعطيات الحالية، الأمر الذي عبّر عنه نائب وزير الخارجية، سيرغي ريابكوف، بالقول إن الحوار مع الولايات المتحدة بشأن أوكرانيا مستحيل في ظل الظروف الحالية، بالنظر إلى المواقف المتناقضة جذرياً. لكنه، من ناحية ثانية، أعرب عن موقف بلاده المرحّب بالتنسيق الرفيع المستوى بشأن الاستقرار الاستراتيجي، إذا كانت واشنطن مستعدة لذلك. حدث هذا في الوقت نفسه الذي قالت الخارجية الروسية إن موسكو لا تريد قطع العلاقات الدبلوماسية بواشنطن، لكن هذا ما سيحدث إذا قرّرت الأخيرة أنها ليست في حاجة إلى العلاقات بموسكو.
في الضفة الأخرى من موقفها البارد تجاه الغرب، تبدو موسكو شديدة الاهتمام بالشرق. اهتمامٌ عبّر عنه وزير الخارجية سيرغي لافروف في كلمة خلال لقائه رؤساء الأقاليم والمناطق الروسية، حين أشار إلى أهمية تعزيز التعاون مع الصين والهند وتركيا وإيران ودول بحر قزوين.
الوقت لم يعد محايداً
تتحرك المعطيات في اتجاه معاكس لأصحاب المصلحة بشأن إطلاق صفّارة النهاية الآن. ففي تشرين الأول/أكتوبر الماضي، بلغ مستوى التضخم في منطقة اليورو 10.6٪ على أساس سنوي، بينما وصل في الاتحاد الأوروبي إلى أعلى مستوى له منذ سبعينيات القرن الماضي، مع تسجيله 11.5٪. وللمرة الأولى منذ 40 عاماً، وصل التضخم في بريطانيا إلى 11% هذا الشهر، وبلغ في ألمانيا 10.4%، بينما بقي أقل حدةً في فرنسا عند معدل 7.1% على أساس سنوي.
وعلى أساسٍ سنوي أيضاً، تشير نسبة التضخم في إيطاليا إلى 12.6٪، وفي بولندا إلى 16.8٪، وفي ألمانيا إلى 11.6٪، بالإضافة إلى أرقام أكثر حدة في دول شرقي أوروبا، وأرقام أعلى من التضخم الروسي في دول البلطيق.
وتشير هذه الأرقام، بموازاة تزايد القلق من انهيار هرم الديون، إلى ضرورة تكثيف الجهود لمواجهة أزمة اقتصادية كبرى في دول التحالف الغربي، الأمر الذي يقلب تأثير الوقت ضدها، ويعطي موسكو هذه البطاقة الثمينة، مع حيازتها ورقة إمدادات الطاقة التي توفّر تأميناً على العائدات المالية الضخمة، والتي حمتها بالعقود الصينية والهندية والإيرانية.
وفي أوكرانيا، يلعب الوقت ضد زيلنسكي وإدارته، بحيث بات نحو 40% من الأوكرانيين من دون كهرباء، ووصلت نسبتهم إلى 70% في مناطق أخرى، بينما تعمد كييف إلى تقنين إمدادات الكهرباء وتنظيمها وفق الضرورات الاستثنائية. ونقلت صحيفة “بوليتيكو” تحذيراً لافتاً من سلطات كييف إلى الحلفاء الغربيين، من عدم وجود ما يكفي من المكونات والتجهيزات لإعادة عمل قطاع الكهرباء والتدفئة.
إن هذا التحذير يشير، فيما يشير إليه، إلى أن الاقتصاد الأوكراني قد يتجمد مع مرور الوقت. كما أن انقطاع الطاقة لا يؤدي إلى تعطل قدرة البلاد على إدارة نفسها فحسب، بل إن إمكان العيش في بعض المدن يكون غير متاح أيضاً. تتجمد المياه عند درجة الصفر، وتتوقف إمدادات المياه الساخنة إلى المنازل عبر الأنابيب، وهي خدمة رئيسة من خدمات الدولة في البلاد التي تتدنى فيها درجات الحرارة إلى ما دون درجة الصفر مئوية، الأمر الذي سيؤدي إلى تهالك الأنابيب وانفجارها مع تمدد المياه في حالة التجمد. ومع عدم وجود قدرة واقعية ومالية لصيانة العدد الهائل من المباني، سيكون لزاماً على السكان أن يغادروا المنازل غير الصالحة للسكن. هذا ما يضع كييف أمام حتمية إجلاء السكان، الأمر الذي لا يزال زيلنسكي يرفضه حتى اليوم، مُرجعاً السبب إلى تقوية عزيمة القوات الأوكرانية، ونافياً أن تكون نيته استخدام المدنيين دروعاً في وجه الهجوم الروسي المعاكس، والذي تتضارب التكهنات في توقيته، بين تقديرات ترجّحه قبل نهاية العام، وأخرى تتوقع تأجيله إلى الربيع المقبل.
في مجمل الأحوال، فإن التقدير الأكثر واقعيةً يشير إلى أن تحرك بوتين في هذا السياق سيكون معقوداً على ظرفٍ وليس على وقت؛ أي في ظرف تتقاطع ذروة أزمة التضخم في الغرب، مع ذروة تعطل إمدادات الطاقة في أوكرانيا، وذروة استعداد القوات الروسية الميداني. نقطة اللقاء بين هذه الذروات الثلاث هي نفسها نقطة بدء الهجوم الروسي. وهذا ما يفسّر نوعية الضربات التي وجهتها القوات الروسية إلى قطاع الطاقة الأوكراني في 15 و17 من الشهر الحالي.
وكامتدادٍ لهذا السياق، يبدو الحل السياسي بعيداً، على الرغم من توقع أن تحافظ روسيا على لغةٍ دبلوماسية إيجابية من دون أن تحقق للتحالف الغربي فرصته في تثمير ضغوطه وتحويلها إلى نتيجة سياسية لا تلائم مصالحها. وحتى ذلك الحين، تبقى خلاصة القول ما صرّحت به نائبة الأمين العام للأمم المتحدة، روزماري دي كارلو، ومفاده أنه “لا يوجد أي دليل على اقتراب نهاية النزاع في أوكرانيا، وأن خطر العواقب الكارثية لا يزال قائماً”.