غزة: موعد الحرب الشاملة لم يحن!
لم تمر الذكرى الخامسة لحرب “الرصاص المصبوب” على غزة بسلام. أهالي القطاع عايشوا أحد فصول الحرب الدموية خلال الأيام الماضية واستعادوا شريط ذكرياتهم على وقع الغارات الليلية التي شنها طيران الاحتلال الاسرائيلي، رداً على سقوط صاروخ على شاطئ عسقلان المحاذي للقطاع، حسب ادعاءات المصادر الإسرائيلية.
منذ حرب “الأيام الثمانية” في نوفمبر/تشرين الثاني من العام الماضي والهدوء الحذر يخيّم على الجبهة الجنوبية، ما إن تنطفئ جمرة تحت رماد التهدئة حتى تشتعل أخرى. بدءاً من اليوم الأول لاتفاق الهدنة، الذي أنهى جولة المواجهة الأخيرة بين الطرفين، لم تتوقف الخروق الإسرائيلية؛ لا يزال الصياديون الفلسطينيون يتعرضون للاستهداف المباشر والاعتقال في الحيز المائي المخصص لهم، ولا تزال التوغلات المحدودة على طول الشريط الحدودي مع القطاع متواصلة.
كذلك لا تزال المعابر الحدودية تغلق أبوابها أمام المؤن والبضائع ومواد البناء القادمة إلى القطاع المحاصر. كما لم يتوقف القصف البري والجوي، والاستهداف المباشر للمواطنيين الفلسطينيين، الذي أسفر مؤخراً عن استشهاد مزارع فلسطيني في أرضه المحاذية للسياج الحدودي، قبل أقل من أسبوع على استهداف أحد العاملين على حدود القطاع، الأمر الذي أشعل موجة التصعيد الأخيرة.
كل تلك الخروق الإسرائيلية منذ أسبوع التهدئة الأول تبعث برسالة واضحة؛ مفادها أن إسرائيل لا تقيم وزناً لاتفاق الهدنة. تواصل الأخيرة استفزازاتها لقطاع غزة بكافة الأساليب، ثم تتحين الفرص لدى أي “خرق” من الطرف المقابل، لتعود مجدداً إلى وضعية الدفاع ولعب دور الضحية، محملةً الفلسطينيين المسؤولية عن توتير الأمور، تماماً كما حدث قبل أيام عندما حملت “حماس” مسؤولية خرق التهدئة بعد عملية القنص الأخيرة، رغم أنها نفذت عملية قنص مشابهة على السياج الحدودي قبل أقل من أسبوع.
في السياق، ثمة أمور مبهمة وغامضة تحيط بعملية القنص الأخيرة، إذ تبيّن لاحقاً أن العامل الذي تمت تصفيته ينتمي إلى عرب النقب، بحسب مزاعم الإسرائيليين أنفسهم، ما يدفع إلى التساؤل حول سبب هذا الاستنفار الإسرائيلي المفاجئ في الرد، ولا سيما أنه لم يشهد استنفاراً مماثلاً عندما قُتل أحد الجنود في لواء غولاني، بعد عملية توغل محدودة في منطقة النفق الذي تم اكتشافة قرب خانيونس قبل فترة. يضاف إلى ذلك أن عمليات إطلاق الصواريخ في الأيام الماضية لم يتبنّها أي فصيل عامل في القطاع، وقد جرت العادة أن تتبنى فصائل المقاومة أية عمليات من هذا النوع.
ما يزيد الأمور غموضاً هو البيان المتداول عبر وسائل الإعلام بعد ساعات من الحادثة، ففي حين تضمن البيان تبني ألوية الناصر صلاح الدين للعملية، ينفي أبو عطايا، الناطق باسم الألوية، في حديث خاص لـ”المدن” صحة ما ورد في البيان، قائلاً: “الألوية لم تعلن مسؤوليتها عن العملية”. لكنه شدد في الوقت نفسه على أن “الألوية تبارك أي عمل مقاوم ضد الاحتلال وتعتبره في سياق الرد الطبيعي على جرائمه”.
لكن في كل الأحوال، فإن جولة التصعيد الأخيرة ليست الأولى من نوعها خلال السنة الماضية، طوال تلك الفترة ظلت المقاومة الفلسطينية تتبع استراتيجية “خرق مقابل خرق”، هي عمليات تكتيكية يسعى كل طرف من خلالها إلى إثبات جاهزيته واستعداده للمواجهة، بينما يستبطن كل طرف عدم نيته التصعيد كما تشير المعطيات الراهنة.
لكن الجديد هذه المرة هو استخدام الاحتلال لسلاح الجو بشكل مكثف وعنيف، وهو ما لم يحدث خلال فترات الهدوء الحذر على مدار الأشهر الماضية، ما ينذر بانقطاع الخيط الرفيع الذي يحول دون اندلاع الحرب الشاملة.
ولعل ما يعزز هذا الاحتمال، هو أن الأمور تبدو مؤاتية لإسرائيل في هذا التوقيت تحديداً، فهي أمام خصم يئن تحت وطأة حصار غير مسبوق منذ عهد نظام حسني مبارك، ناهيك عن أن حركة “حماس”، التي تدير القطاع وتقود مقاومته، تعيش الآن حالة عزلة عن محيطها. وهي عزلة باتت تضيق حلقاتها بعد تداعي الحركة الأم في مصر، ووضعها مؤخراً ضمن قوائم الإرهاب، إضافة إلى اتهام الحركة بالتدبير “لتفجير انتحاري” داخل مصر.
كما أن كل المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية للجبهة الداخلية في القطاع قد تشي بأن إسرائيل أمام فريسة سهلة هده المرة.
لكن المحلل المختص في الشأن الإسرائيلي، عدنان أبو عامر، يعتقد أن كل تلك المعطيات لا تشكل سبباً كافياً لفتح باب المواجهة على مصراعيه، قائلاً في حديثه لـ “المدن” إن “هناك اعتبارات كثيرة تحول دون دخول إسرائيل في حرب مفتوحة، أولاً هي تعتقد أن الإقليم في حالة اشتعال دائم ولا سيما في مصر وسوريا، وبالتالي هي ليست في عجلة من أمرها لفتح جبهة في غزة، وإفساد الأمور في الإقليم المجاور. ثانياً، الوضع في غزة، من وجهة نظر أبو عامر، لا يساعد على ذلك في ضوء عزوف “حماس” عن استدراج إسرائيل إلى المواجهة، لعدم رغبتها في إضافة البعد العسكري إلى أزماتها الداخلية المعقدة”.
ويضيف: “أما الأمر الثالث فيتعلق بطبيعة الحملة العسكرية القادمة، فإسرائيل تريدها أن تكون حملة شاملة واستئصالية تقضي على قدرات “حماس” العسكرية في القطاع، وأظن أن حملة من هذا النوع تتطلب أولاً نضوج الظروف الميدانية، من قبيل إعداد الملاجئ ونشر بطاريات الصواريخ وهو ما لم يحدث إلى الآن”.
لكن ثمة اعتبارا آخر يدفع البعض إلى الاعتقاد بأن إسرائيل معنية حالياً بتأزيم الأمور. فبعد انسداد أفق التسوية مع السلطة الفلسطينية، ووصول المفاوضات إلى نقطة حاسمة، ثمة من يرى أن إسرائيل تحاول الآن قلب الطاولة والهروب من التزاماتها عبر إشعال جبهة غزة، لكن أبو عامر يستبعد هذه الفرضية. ويوضح “الإسرائيليون يمرون الآن بمرحلة علاقات حذرة مع الأميركيين، وأي توتر مع غزة لا بد أن يمر بموافقة أميركية على الأقل، وهم يدركون أن الهجوم على غزة دون وجود مبرر حقيقي يعني تنصل إسرائيل من المفاوضات، وفي ذلك توتير للعلاقات مع الطرف الأميركي”.
أما بخصوص احتمال الرد من قبل فصائل المقاومة، فيؤكد أبو عطايا الناطق باسم ألوية الناصر صلاح الدين، الذراع العسكري للجان المقاومة الشعبية، أن “كافة فصائل المقاومة في القطاع تعقد غرفة عمليات مشتركة يتم فيها تدارس الموقف، وتداعيات الرد من قبل الفصائل”. وأضاف “نحن نعمل على ضمان مصلحة الشعب الفلسطيني الذي يقبع تحت الحصار، لكننا لن نقف مكتوفي الأيدي أمام أي اعتداء صهيوني”.
مالك سمارة – موقع المدن