غارة القنيطرة .. وجبر الإختيار بين قواعد اشتباك ثلاث
موقع إنباء الإخباري ـ
حسن شقير:
أين موقع غارة القنيطرة في الأمن الصهيوني الإنطوائي ؟ وهل يمكن لها أن ترسم أمام الصهاينة أنساقاً جديدة و محددة ؟
في التاسع من أذار من العام 2010 ، وفي معرض بحثي عن الإستراتيجية الأمنية “المثلى” ، والتي بدأت حينها تحكم وتتحكم بالعقل الصهيوني ، خصوصاً على ضوء نتائج حربي العام ٢٠٠٦ ، والعام ٢٠٠٨ -٢٠٠٩ ، على كل من لبنان وقطاع غزة ، وذلك ضمن ورقة بحثية مختصرة ، نشرتها في هذا التاريخ ، والتي كانت تحت عنوان ” التيه الإستراتيجي الصهيوني : مجبرٌ عدونا لا بطل ” ، طرحت فيها سؤالاً مركزياً ، مفاده :
هل تنبع الإستراتيجية اللاهثة حول الأمن في هذا الكيان ، ذاتياً ؟ أم أن الواقع المحيط بهذا الأخير ، يفرض على العقل الإستراتيجي فيه نمطاً استراتيجياً محدداً لزمانٍ ومكانٍ بعينه ؟
لقد توصلت في تلك الورقة ،إلى أن الكيان -ومن خلال شواهدٍ من مراكز البحث والقرار لديه-
بأنه أرغم على التخلي عن الإستراتيجية الهادمة والهدامة ، والتحوّل إلى الإنطوائية ، مدعومةً بالخفية ومعها الناعمة أيضاً ، هذا فضلا ًعن أن ذلك كله ، لم يكن بحكم الخيار لديه ، إنما الواقع المحيط به ، كان قد فرض عليه هذا النسق الإستراتيجي الإلزامي …
منذ ذاك الحين ، حكم العقل الصهيوني ، المنطق التالي : بما أن الإنطوائية هي السبيل الوحيد – وفقاً للظروف المحيطة بالكيان – للحفاظ على الأمن الصهيوني ، فإن كل الأفعال التي تحافظ على ذلك – ضمن هذه العقيدة المفروضة عليه – ليست مطلوبة فقط ، إنما هي مفروضة ٌ أيضاً ..
إنطلاقاً من هذا الفهم ، خاض الكيان ، حروبه المتنوعة اللاحقة ، إن على لينان ، أوعلى قطاع غزة ، وبعدها على سوريا ، وبطرق وأساليب متعددة .. كان سقفها محكوم دائماً ، بالحفاظ على الأمن الصهيوني ، ضمن الإنطوائية المشار إليها أعلاه …
إنطلقت من هذه الإستراتيجية ، عقائد صهيونية أمنية ، من أهمها تلك التي نادت بحتمية “استقرار الطوق ” حول الكيان الصهيوني ، والتي خرجت إلى الضوء ، بعد انطلاق ما سمي بربيع العرب ، وقد افترض أصحابها ، بأن استقرار الطوق الأول حول الكيان – وسواء كان ذلك بالسلم ، أو حتى من خلال الحرب – لهو المُدخل الإلزامي للحفاظ على الأمن الصهيوني ، ولقطع التهديد الأتي من دول الطوق الثاني والثالث على حد سواء ( مقالة للمستشار الإستراتيجي لإسحاق رابين ، المدعو حاييم أسا في صحيفة معاريف بتاريخ 09-12-2011 ، بعنوان ” ها هي التوقعات في الشرق الأوسط ” )
تحت هذ السقف صاغ الصهاينة نظرية الإستقرار في الذراع الغزية ، وذلك من خلال استراتيجية الإنهاك والحصار المفروض على القطاع ، وذلك في حربي العام ٢٠١٢ و ٢٠١٤ ، وعلى الضفة الغربية ، بمنع انتقال نموذج غزة إليها ، وذلك ضمن الحفاظ على ما يسمى بالتنسيق الأمني مع السلطة الفلسطينية فيها ، وكذا كان في الحفاظ على استقرار الأردن ، إقتصادياً وأمنياً أيضاً ، وذلك إلى الحدود التي تجعل من وجود الكيان في غوره ، حاجة صهيونية استراتيجية لأمن الكيان ، من التهديد المزعوم للدواعش النائمة في هذا البلد ، وصولاً إلى لبنان ، واستماتة الصهاينة للحفاظ على الستاتيكو الحالي عند الحدود معه ، وذلك تحت تهديد الإشغال والإستنزاف المديد لثلاثيته الذهبية على يد الجماعات الإرهابية ، المدعومة صهيونياً على امتداد حدوده مع سوريا ( جنوباً وشرقاً وشمالاً ) ، وصولا ً إلى الحدود مع سوريا ، وذلك من خلال دعم الحزام الإرهابي في الجولان المحرر ، والذي كنا من أوائل من حذرّنا منه ، وطالبنا بضرورة القضاء عليه ، وفي عمره الجنيني ، وذلك من الساعة الأولى لإنتهاء معركة يبرود في ١٦-٠٣-٢٠١٤، وذلك في مقالة ً نشرتها في مساء ذاك اليوم ، تحت عنوان ” ما بعد يبرود والجولان … دلالاتٌ استراتيجية ”
لم تتجه معركة الجيش السوري ، والقوى المساندة له من مقاومة وقوات دفاع شعبية إلى هناك ، إنما كانت الوجهة مكان أخر ، مما جعل من ذاك الحزام الإرهابي على امتداد خط الجولان ، بمعظمه ، حقيقةٌ واقعة ، ليصبح بذلك البديل المقبول صهيونياً لإستقرار طوقه من جهة الحدود مع سوريا ، وخصوصاً أنه – وبدعمٍ صهيوني علني – قد تحوّل إلى حزام أمني مُطوّر ، ليس لحماية الكيان فحسب ، إنما لإستنزاف ” العدو ” المتربص في الجهة السورية أيضاً …
من هنا كانت الرسالة – الأساس في غارة القنيطرة في الأسبوع الماضي ، واستهداف القادة في المقاومة والحرس الثوري ، بأن ما يقوم به هؤلاء – من عملٍ مزدوج في تأسيس الثلاثية الذهبية هناك ، والتمهيد إمّا لتهشيم ذاك الحزام الإرهابي ، أو لإفراغه من أهدافه ، وذلك عبر تجاوزه ، والعمل من خلفه – هو تجاوزٌ للخطوط الحمراء الصهيونية ، وحتى لو أن ذلك قد يؤدي إلى حربٍ شاملة ، والتي يعتقد معظم الباحثين في الأمن الصهيوني ، بأن حزب الله ومعه إيران ، ليسا بوارد الدخول فيها ، لإعتباراتٍ شتى ، والتي أبرزها – بحسب اعتقادهم – الحفاظ على النظام السوري ، وعدم سقوطه بسبب تلك الحرب … مما سيجعل من الدواعش – برأي هؤلاء الباحثين – تنتشر في لبنان كالجراد المنثور ، مما سيؤدي إلى إضعاف المقاومة ، ولربما إلى القضاء على حركتها.
بعيداً عن اتساع الدائرة في التحليل ، حول الغايات والرسائل الصهيونية المتشعبة من خلال تلك الغارة.. وبعيداً عن اتساع مروحة التوقعات حول طبيعة الرد المقاوم في الزمان والمكان ، واختيار الأهداف الصهيونية المُرشّحة لذلك .. وبعيداً عن الغوص في استشراف مدى سعة الردود الصهيونية على الرد المفترض على ذاك الإعتداء … فإن السقف الذي سيحكم الطرفين الممانع والصهيوني على حد سواء ، سيتأرجح على الأرجح ضمن دائرة الممانعة في ضرب منظومة الإستقرار عبر الحزام الإرهابي في الجولان ، وضمن دائرة الصهاينة في الحفاظ على استقرار الطوق من الذراع السورية ، عبر دعم العامل الإرهابي المستنزِف لأطول فترة ممكنة …
أفترض أن عبوات وكمين الجمعة الماضي في السويداء ، على مشارف الجولان ، والتي أجهزت على مجموعات كبيرة من إرهابيي النصرة ، كانت رسالة أمنية من المقاومة ، بأن الرصد في تلك المنطقة هو رصد مزدوج ، وليس أحادي ، وأن إغتيال العدو لمجموعة من القادة بعمل أمني مرصود ، لم يُحدث – كما يتوخاه الصهاينة – أي تراجع في إكمال مسيرة الأهداف الممانعة هناك ، لا بل إن ثمرات أعمال القادة الشهداء ، قد أينعت ، وحان قطافها ، والتي ستكون من أولاها رؤوس سور الإرهاب ، في الجولان المحرر ، وعلى يد ثلاثية ذهبية ، والتي قد تكون غارة القنيطرة ، دافعها القوي والسريع في خروجها إلى الضوء …والتي قد يُعلن عنها ، ومن خلالها أيضاً ، تخيير العدو ضمن قواعد اشتباك جديدة ، لها أبعاد ثلاث : انسحاب غير مطروح ٍ من الجولان ، أو الرضوخ لمنطق تفاهم نيسان ال ١٩٩٦ ، وذلك على تخوم الجولان المحتل ، أو الخروج إلى الحرب الشاملة مع محور الممانعة ، وذلك في حال التفكير الصهيوني بالمس بالنظام السوري ، وأسس استقراره الحالية .
خلاصة القول ، قد تكون غارة القنيطرة ، مفصلا ً محورياً في تطورات المشهد الإستراتيجي في المنطقة ، وذلك من خلال رد الممانعة عليها ، عن طريق قلب طاولة السحر ، على الساحر الصهيوني ، وذلك بتخيير الصهاينة ضمن ثلاثية إلزامية : أولها مستحيلٌ وانتحار للكيان ، وأوسطها موتٌ بطيء ، وأخرها قد تكون نهاية اللعبة لديه …
لننتظر كلام السيد نصرالله الجمعة المقبل ، فهو بالتأكيد سيرسم ملامح المرحلة المقبلة من عمر الصراع مع الكيان الصهيوني .
باحث وكاتب سياسي