عينٌ على «السّاحات»
جريدة البناء اللبنانية-
عباس طالب عثمان:
رغم مرور النظام العالمي بأزمة توازن السيطرة والقدرة على إثبات الوجود بين الأقطاب الكبرى، عادت فلسطين لتستقطب اهتمام العالم مع إعلان العدوّ «الإسرائيلي» عن بدء عمليَّته العسكريَّة الاستفزازيَّة الأخيرة. فهل هو «جنون العظمة» ما دفع بالعدوّ إلى تجاهل التغيّرات الجذريّة التي يشهدها النظام العالمي وبدء عدوان جديد كان يمكن أن يؤدّي إلى إشعال حرب واسعة في حال تطوّر الأحداث بحسب صحيفة «Le monde»؟ أم أنَّ للعدوّ حسابات أخرى تجعل قراءته للمشهد مختلفة؟
وعلى عكس تحليل «Le monde»، كانت ثمَّة «طمأنينة» عربيَّة إلى أن هذه المعركة ليست سوى «عملية» إسرائيليَّة محدودة الأهداف والمكان والزمان، فهل كانت هذه الطمأنينة وليدة اعتياد العرب الحروب على أنواعها في العقدَين الأخيرَين فقط، أم أنَّ وراء الأكمة ما وراءها أيضاً؟
لقراءة أوضح للمعركة الأخيرة، لا بدّ من استعراض عوامل وأحداث أزالت غبار القصف المتبادل عن مشاهد العمليَّة التي وضع الاحتلال تشتيت شمل حركات المقاومة هدفاً لها، سواء على صعيد علاقة الفصائل الفلسطينيَّة ببعضها، أو العلاقة بين الفصائل الفلسطينيَّة وحزب الله.
ـ مكان العملية: لم يقصف العدو مواقع للمقاومة خارج قطاع غزة، ولم تبادر المقاومة بدورها إلى إطلاق صواريخ من أي مكان آخر سوى القطاع المحاصر وإن وسّعت نطاق استهدافها من مستوطنات الغلاف وصولًا إلى تل أبيب. وفي نظرة إلى غزة، نجد أنَّها كانت حاضنة أخيراً لخلافات واستفزازات حقيقيَّة بين أطراف المقاومة الفلسطينية، وصلت في بعض الأوقات إلى حدّ الدعوة إلى تظاهرات استفزازيَّة بين بعضها. يريد الاحتلال «الإسرائيلي» أن تُعاد تلك المشاهد من جديد؛ من خلال الأزمة الحاليَّة التي تضع الفصائل في زاوية خيارات محدودة جداً، إضافة إلى رفع الكلفة التي تدفعها فصائل المقاومة؛ عبر استهداف المدنيين للضغط شعبياً، وعندها تبدأ مرحلة المعاتبة واللوم من كل طرف للطرف الآخر (لومٌ على عدم التدخل والمساندة، يقابله لومٌ على التسبّب بكل ما يجري وسوء التوقيت).
ـ في الخامس من آب الحالي قامت سلطة الاحتلال باعتقال الشيخ بسام السعدي المنتمي إلى الجهاد الاسلامي، لكن خلال السنوات السابقة، لم يُعرف عن السعدي انتماؤه فقط إلى الجهاد، بل كان يعتبر من أهمّ العوامل التي حسَّنت العلاقة بين الجهاد وفتح. ويهدف اعتقاله إلى خلق فجوة في العلاقة بين الحركتين.
ـ تشديد غلق المعابر على حدود غزة لخلق ردّ فعل شعبيّ ضدّ حركة الجهاد الإسلامي التي بدأت بتزخيم وتفعيل تحرّكاتها العسكريَّة في السنوات الأخيرة (ضمّن جيش العدوّ خبر اغتياله للشهيد خالد منصور أحد قادة الجهاد في غزة تأكيداً لعلاقته بعمليَّات عدَّة في السنوات الماضية).
ـ إظهار الاحتلال بشكل علني تخوّفه من قيام حزب الله بدعم الجهاد الإسلامي في الوقت الذي يتواجد أمين عام الجهاد في إيران.
ـ قيام الاحتلال بما يشبه إنهاء دور الوساطة المصرية من بعد استثمارها كأداة تشتيت للقيام بالعمليَّة، وبعد فشل الوساطة في تحقيق أي نتيجة منذ العام ٢٠٢١ من خلال معرفة ما إذا كان حزب الله سيقدّم المساعدة للمقاومة الفلسطينيَّة، خاصَّة بعد تخوّف كيان العدوّ من دور غرفة العمليَّات المشتركة بين حزب الله والمقاومة الفلسطينيَّة والتي كانت هدفاً من أهداف العملية. وقد صرَّح المتحدّث بإسم «الجهاد» في لبنان أنَّ الاحتلال سعى إلى إدخال وساطة أمميَّة والجهاد رفضت.
ـ مواجهة الجهاد الاسلامي انتقادات واسعة من وسائل إعلام عربيَّة سعت إلى ربط تواجد أمين عام الجهاد الاسلامي في إيران بتوقيت بدء المعركة.
ـ بدء العدو عدوانه بعد تطوّر العلاقات بين حماس وحزب الله وزيارة رئيس المكتب السياسي في الحركة إلى أمين عام حزب الله، وبعد الكشف عن تطوّرات إيجابيَّة في العلاقة بين حماس وسورية. وقد أضاف تصريح أمين عام حزب الله حول هذا الموضوع تثبيتاً قوياً لواقع إيجابي يشهده حلف المقاومة، لا سيما على صعيد تقبّل كلّ طرف لخيارات الآخرين السياسيَّة (الأمر الذي كان سبباً في نشوء الخلاف بين حماس وسورية).
وكان واضحاً إدراك المقاومة لأهداف تلك العملية؛ وهو ما تجلّى في إطلاقها اسم «وحدة الساحات» على المعركة، إضافة إلى وسم عدد كبير من البيانات التي صدرت بعبارة «صدر عن غرفة العمليَّات المشتركة». ولكن الحاجة تبقى قائمةً إلى بث المزيد من روح الوحدة في مسامات المجتمعات العربيَّة، خاصة بعد ما أظهره العدوان الأخير من نجاح نسبي للعدوّ ومنطقه في التغلغل إليها عن طريق الوسائل الإعلاميَّة المختلفة ومنها وسائل التواصل الاجتماعي التي كانت جزءاً أساسياً من المعركة.