عن الانتفاضة الثالثة
صحيفة الخليج الإماراتية ـ
فايز رشيد:
كثر الحديث مؤخراً عن إمكان اندلاع انتفاضة ثالثة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وبخاصة أن الأجواء السائدة حالياً أشبه ما تكون بأحوال ما قبل الانتفاضتين السابقتين . من جهة فإن موظفي السلطة في الضفة الغربية يقومون بإضرابات متتالية نتيجة لعدم صرف رواتبهم لشهر ديسمبر/كانون الأول (وها هو الشهر انقضى من دون تسلمهم رواتبهم)، ومن ناحية ثانية فإن السلطة وقفت عاجزة عن صرف حتى لو جزء ضئيل من الرواتب، وإن جرى صرفها فسوف يتكرر المشهد في الشهر المقبل . السلطة تعيش أزمة خانقة بسبب الحصار المالي المفروض عليها من العدو الصهيوني، فلم يجرِ تسليم أموال الضرائب للسلطة التي تجنيها “إسرائيل” باسم الفلسطينيين، كما أن أموال الداعمين لا يجري تسديدها بشكل منتظم، فالجامعة العربية مؤخراً استعدت لصرف 100 مليون دولار للسلطة شهرياً، غير أن ذلك لم يتم حتى اللحظة .
على صعيد آخر فإنه وأثناء العدوان الصهيوني الأخير على القطاع في شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، قامت في الضفة الغربية حراكات جماهيرية فلسطينية واسعة وساخنة في مواجهة قوات الاحتلال . “إسرائيل” ماضية في استيطانها وآخر حلقة فيه المشروع “إي 1” الذي يفصل شمال الضفة الغربية عن جنوبها، ويصادر 10% من أراضي الضفة الغربية . المشروع هو بمنزلة المسمار الأخير في نعش المراهنة على حل الدولتين، فهو يلغي إمكان قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة ومتواصلة جغرافياً، والاستيطان والجدار والطرق الالتفافية “الإسرائيلية” صادرت حتى اللحظة ما ينوف على ال60% من مساحة الضفة الغربية، عدا أن المشروع الاستيطاني الأخير يزيد من عزلة المدن والقرى والمناطق الفلسطينية، ويجعل منها كانتونات معزولة تماماً بعضها عن بعض .
على الصعيد السياسي، فإن الإنجاز الذي تحقق في الأمم المتحدة بقبول دولة فلسطين عضواً مراقباً في المنظمة الدولية، ظلّ إنجازاً معنوياً ليس إلا، ولا يمكن تطبيقه واقعاً على الأرض في ظل موازين قوى الصراع الفلسطيني العربي- الصهيوني . من جانب آخر فإن التسوية وصلت إلى طريق مسدود، ومفاوضات عشرين عاماً مع “إسرائيل” لم تُنتج سوى الكوارث والويلات على المشروع الوطني الفلسطيني وقضيته وعلى الحقوق الفلسطينية . “إسرائيل” تريد فرض رؤيتها للتسوية مع الفلسطينيين والعرب، وجوهرها رضوح فلسطيني وعربي كامل، والمزيد من الاشتراطات عليهم . سقف التسوية هو شعار: “سلام مقابل سلام”، وليس “سلام مقابل الأرض” . كما أن الحقوق الفلسطينية تخُتزل “إسرائيلياً” بالحكم الذاتي، أي أن الفلسطينيين يشرفون على قضاياهم الحياتية من دون امتلاك أية عناصر سيادية، ومن دون حق العودة إلى القدس وكامل حدود منطقة العام ،1967 ومن دون المياه مع حق “إسرائيل” في دخول الأراضي الفلسطينية متى شاءت، ووجود عسكري “إسرائيلي” في منطقة غور الأردن، وعدا ذلك على الطرفين الفلسطيني والعربي الاعتراف “بيهودية دولة “إسرائيل” .
على صعيد الداخل “الإسرائيلي”، فالمقدمات واستطلاعات الرأي “الإسرائيلية” كلها وبلا استثناء، تشير إلى تقدم تحالف الليكود – بيتينيو بزعامة نتنياهو – ليبرمان بين قوائم الترشيح الأخرى، كما تشير إلى أن اليمين واليمين المتطرف سيحققان المزيد من المكاسب في الانتخابات التشريعية المقبلة المقرر أن تجري في 22 يناير/كانون الثاني الجاري . ماذا يعني كل ذلك؟ هذا يشير إلى أننا سنكون أمام ائتلاف حكومي “إسرائيلي” قادم بزعامة نتنياهو – ليبرمان مع قوى أشد يمينية وتطرفاً من أحزاب الائتلاف الحالي، وهذا يشير أيضاً إلى أننا أمام تسوية مذلّة واختزال أكبر للحقوق الفلسطينية .
بالمقابل، فإن السلطة الفلسطينية في ظل هذا التعنت “الإسرائيلي” الشديد، والتنكّر المطلق للحقوق الوطنية الفلسطينية، لم تطرح استراتيجية بديلة لنهج المفاوضات بل تزداد يوماً بعد يوم تمسكاً بها رغم عقمها ولا جدواها وآثارها التدميرية على القضية الفلسطينية . السلطة، للأسف، تعدّ المقاومة المشروعة(عنفاً) بل (إرهاباً)، رغم الاعتداءات “الإسرائيلية” المتكررة يومياً على الأرض والإنسان في الأراضي المحتلة (في الضفة الغربية وقطاع غزة ومنطقة 48) .
بالمقابل أيضاً، فإن السلطة الأخرى في قطاع غزة متمسكة بالتهدئة والهدنة مع العدو الصهيوني إلى أمد غير معلوم . “إسرائيل” لا تزال تمارس الحصار ذاته على غزة . المقصود القول إن “إسرائيل” في وضع ملائم دون عمليات عسكرية مقاومة ضدها، لا من قطاع غزة (إلا من تلك التي تجري دون سماح من سلطة حماس ودون معرفتها)، ولا من الضفة الغربية، في ظل التشديدات من كلتا السلطتين على عدم انطلاق عمليات ضد “إسرائيل” . هذا في ظل التنسيق الأمني القائم بين السلطة في رام الله والكيان الصهيوني . الأخير سيفرض المزيد من القوانين العنصرية ضد أهلنا في منطقة ،48 وسيستمر في وضع العراقيل أمام نيلهم حقوقهم .
عربياً، فإن الآمال الفلسطينية التي كانت معقودة على متغيرات إيجابية ممّا يسمى ب(الربيع العربي) تجاه القضية الفلسطينية، وفي مجال الصراع مع “إسرائيل”، لم تتحقق ولو في جزء صغير منها، فهذه الدول مازالت تعيش إرهاصات التحولات فيها وإشكالاتها الداخلية، وفلسطين والصراع مع العدو، لا يحتلان أولوية في أجنداتها، وبالتالي فلا متغيرات حقيقية تنعكس إيجاباً على المشروع الوطني الفلسطيني .
الوضع الدولي هو الوضع ذاته الذي يبقى في مصلحة “إسرائيل”، إلا من انتقادات واحتجاجات على الاستيطان “الإسرائيلي”، وهو ما لا تحسب حسابه “إسرائيل”، وتقوم بفرض حقائقها على الأرض . إنجاز قبول الدولة المراقب في الجمعية العامة للأمم المتحدة كما صمود المقاومة في حرب الثمانية أيام، لم يجرِ استثمارهما، للأسف، في إنجاز المصالحة الفلسطينية والعودة بالوحدة الوطنية الفلسطينية إلى سابق عهدها، على أساس الثوابت الوطنية الفلسطينية، ولم يجر إحياء للمقاومة وأحد أبرز أشكالها: الكفاح المسلح، ولم يجر إصلاح منظمة التحرير الفلسطينية .
لكل ذلك، فإن الأجواء مهيأة لاندلاع انتفاضة فلسطينية ثالثة، وقد تشمل المنطقة المحتلة في العام ،1948 غير أن الانتفاضة بحاجة إلى قيادة فلسطينية موحدة (وهذه تفتقدها الساحة الفلسطينية في ظل الانقسام)، وهذا ما يؤثر سلباً في اندلاعها، لكن في كثير من الأحيان فإن اندلاع الانتفاضات الشعبية لا يرتبط بالواقع السياسي المعاش ولا بالحسابات هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية: فإن الانتفاضة تندلع “بالقشة التي تقصم ظهر البعير”، والتي تأتي في معظم الأحيان نتيجة حدث غير متوقع . في ظل وجود أرضية وأجواء مهيأة، أغلب الاحتمالات أن انتفاضة فلسطينية ستندلع في فترة قريبة (قد تطول أو تقصر)، ما دامت الأوضاع السياسية جامدة إلى هذا الحد في الوضع الفلسطيني المثقل بالأزمات المالية والسياسية والبنيوية التنظيمية، وفي ظل عدم استقرار الوضع العربي، وفي ظل ميزان قوى دولي منحاز بالكامل إلى الطرف الصهيوني .