عن الإنتخابات اللبنانية وتداعياتها
صحيفة الوطن السورية-
عبد المنعم علي عيسى:
برزت، من خلال اللوحة المتشكلة بفعل إعلان نتائج الانتخابات النيابية اللبنانية التي أجريت في 15 من شهر أيار الجاري، ثلاث ظواهر مهمة، كل منها يصب في اتجاه كما يشير كل منها أيضاً إلى مدلولات معينة، ما يجعلها شديدة التمايز عن تلك التي أفرزتها نظيرتها في العام 2018.
أولى تلك الظواهر هو الانزياح الحاصل في الشارع المسيحي الذي سيطرت عليه منذ العام 2005 ثنائية «القوات اللبنانية- التيار الوطني الحر» رغم وجود كتل مسيحية أخرى من نوع «تيار المردة» و«حزب الكتائب» و«الوطنيين الأحرار» الذين كانت حركتهم السياسية محكومة بحركة «حجر الرحى» التي تدار بذراعي تلك الثنائية، وفعل الانزياح، كان قد تمظهر بحصول «القوات اللبنانية» على 19 مقعداً في البرلمان الجديد الذي يعادل النسبة نفسها، تقريباً، التي حصل عليها «التيار الوطني الحر»، وهو أمر يحصل للمرة الأولى منذ دخول «القوات اللبنانية» إلى الحياة السياسية عبر برلمان 2005، والفعل يرمز في ايديولوجيته إلى صعود «اليمين المسيحي الانعزالي» ذي القراءات الخاصة بدور لبنان في محيطيه القريب فالأبعد، ولربما يمكن هنا قول الكثير من الأسباب التي قادت إلى ذلك الانزياح، من نوع الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تشهدها البلاد منذ سنوات، والتي يرى البعض أنها حدثت تحت ظلال «العونيين» الذين يتربعون على عرش الرئاسة الأولى، ثم من نوع انفجار بيروت آب 2020 الذي تسبب بشلل تام في مرفأ يمثل «الرئة الأولى» التي تعطي للبنان نصف احتياجه اللازم من الهواء، بينما يتكفل مطار بيروت بالنصف الآخر أو بنسبة قريبة من هذه النسبة الأخيرة، لكن الثابت هو أن ثمة عوامل أخرى داخلية كان لها دور مهم أيضاً في حصول ذلك الانزياح، وفي الذروة منها هو تنامي النزعة في أوساط المسيحيين حول سؤال «الهوية» الذي جرى التعبير عنه بشعار «لبنان للبنانيين فقط»، على حين يلحظ أن السياسات، والتراصفات، التي يعتمدها قادة ذلك التيار مستمدة من تجربتي الحرب في لبنان 1958 و1975، اللتين ظهر فيهما المسيحيون بمظهر الأقرب إلى التنافر مع محيطهم الداخلي، وأقرب إلى «العداء» مع محيطهم العربي بما فيه فكرة القومية العربية والعلاقة مع سورية، و«رواسب» هؤلاء لا يزالون يقرؤون «اتفاق الطائف» على أنه محاولة لكبح مشروعهم، وفي هذه الحالة فإن صعود هؤلاء هو مؤشر على أن «القراءة» جاءت لتقول بـ«وهن» الطائف الذي بدا وكأنه يترنح على وقع احتجاجات تشرين أول 2019، والمؤكد هو أن وصول «سينتا زرازير» إلى برلمان لبنان 2022 هو خير تمثيل لتلك الظاهرة، فالأخيرة كانت قد نشرت تغريدة تعود للعام 2016 وفيها تقول: «معاً لإبادة الشعب السوري، شو ما كان جنسه أو نوعه، ما إجا منن إلا البلى على لبنان».
ثانية الظواهر مثلها نجاح «المجتمع المدني» في الانتقال من محاولات التمرد وبث الفوضى في الشوارع عبر حرق الإطارات وقطع الطرقات، إلى مقاعد البرلمان، فقد ذكرت النتائج أن ممثلي «انتفاضة تشرين» قد فازوا بـ13 مقعداً، وهذا رقم كبير قياساً إلى «حداثة» هؤلاء السياسيين وخصوصاً أن جلهم جاء من خارج الطبقة السياسية الحاكمة للبلاد، وهو يمثل «جرس إنذار» يدق في شتى الاتجاهات ليعلن أن تياراً كهذا مرشح لتنامي دوره إذا ما ظلت تلك الطبقة على حالها لجهة تركيبة النظام الذي ترعاه وتحكم من خلاله بعيداً عن الأسماء أو الرموز التي تفرزها الانتخابات عادة.
أما ثالثة الظواهر فهي تتمثل بانكفاء الشارع السني في أغلبيته، ولربما شكل ذلك السبب الأساسي في انخفاض نسبة المشاركة من 49.6 بالمئة عام 2018، إلى 41 بالمئة في 2022، والانكفاء مرده بالتأكيد إلى القرار الذي اتخذه سعد الحريري باعتزال السياسة شهر كانون الثاني الماضي، وفعل الانكفاء، جاءت تراجمه عبر لوحة النتائج التي أوردت نتيجة التيار تحت مسمى «قدامى المستقبل» الذين فازوا بـ9 مقاعد في البرلمان الجديد، وتلك نتيجة هي الأقل مما حققه التيار منذ دخوله الحياة السياسية في برلمان عام 1996 زمن الحريري الأب، وكلا الفعلين، أي الانكفاء والتقلص، هو أشبه بنعي لمعادلة التوازن السنية – الشيعية التي شكلت صمام أمان للبلاد منذ برلمان عام 2005 الذي جاء عقب اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، ثم أضحت بعد أحداث أيار 2007 رمزاً للاستقرار الداخلي الذي تجري كل المتغيرات تحت سقوفه.
في التداعيات، يمكن القول: إن خطاب الأمين العام لحزب اللـه حسن نصر اللـه الذي ألقاه بعيد الإعلان عن نتائج الانتخابات، وكذا التصريحات التي خرجت عن حليفه «حركة أمل»، جاء في سياق عام غرضه التهدئة التي تعني ضمناً القبول بالنتائج الرسمية، والتي يجب أن تشكل أساساً للانطلاق نحو الاستحقاقات الثلاثة المقبلة، رئاسة المجلس النيابي والحكومة والجمهورية، وفي سياق مناخ التهدئة، قد نجد متغيرات كبرى تجاه مصطلحات سادت في غضون العقدين الفائتين من نوع «الثلث الضامن» المعمول به، غالباً في الحكومات التي قادت البلاد منذ نحو عقد ونصف العقد، في مقابل مسعى لتشكيل حكومة «وفاق وطني» لا يبدو أن المعارضة الحالية سوف توافق عليها قياساً إلى التوازنات التي أفرزتها نتائج الانتخابات الأخيرة.
لبنان دخل مرحلة استقطاب حاد، ومن الراجح أن تزداد تلك المرحلة حدة في غضون العبور إلى الاستحقاقات الثلاثة آنفة الذكر، ومن الراجح أن تكون الرياض أول المستثمرين في تلك الحالة، الأمر الذي يمكنها من ممارسة نفوذ أكبر في لبنان الذي يعد ساحة صراع إقليمية حامية وخصوصاً مع «المنافس» الإيراني الذي تعلو، وتهبط، جولات التفاوض معه تبعاً لحماوة الساحات والنتائج المستحصلة منها.